قد تبدو هزيمة المنتخب القومى للناشئين وخروجه من «دور الستة عشر» أمرا محبطا للجميع، لكن مرارة الهزيمة تبدو كالعلقم بالنسبة لجمهور الدرجة الثالثة الذى يتكبد الكثير من المتاعب حتى يقف خلف فريقه. «هبه إيه هبه آه، إن شاء الله هنكسب»، بصوت جهورى تمتزج فيه نبرات الحماس والأمل، وعلى إيقاع الطبول أخذ مؤمن موظف بشركة نسيج يشحذ الجماهير. ويبدو للوهلة الأولى أن مؤمن حالة خاصة بشعره الأشعث المستعار الذى يتلون بألوان علم مصر والطبلة العملاقة التى ربطها على صدره وقد أنهكت جسده الهزيل، فى حين أخفى فى جيوبه أدوات أخرى للتشجيع كالصاجات المعدنية والعصا الكاوتش. جوقة موسيقية متنقلة بحق. اعتاد دهاليز ومدرجات الدرجة الثالثة وهو خبير بأماكنها الإستراتيجية التى تمكنه من التحكم فى الجمهور. لا يمكن الإمساك به خلال التشجيع، فهو «كالزئبق» لا يكف عن الصعود والهبوط والتجول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بديناميكية شديدة محاولا أن يحول المكان إلى كتلة نار تلهب حماس اللاعبين. قد تتشكل ملامح أجندته اليومية والأسبوعية وفقا لهوى الساحرة المستديرة. هنا، فى مدرجات الدرجة الثالثة، يبدو وجه مؤمن مألوفا لأنه على موعد دائم فى الاستاد طوال موسم الدورى لحضور مباريات فريقه المفضل «الأهلى»، لكنه لا يتورع أبدا عن أن يقتفى أثر الفريق القومى. «أنا منضم منذ سنوات إلى رابطة مشجعى مصر، ولأننى موجود بصفة دائمة فى الاستاد فقد ساعدتنى الفرقة الراعية لبطولة كأس الأمم الأفريقية على السفر إلى غانا حتى أتمكن من مرافقة الفريق وتشجيعه هناك»، هكذا يلخص مؤمن، والذى يفكر جديا فى أن يحترف التشجيع مثل الخواجة والشيخ حسن وغيرهما من الوجوه التى هزت مدرجات الثالثة على مر تاريخ الكرة. مؤمن هو واحد من 63 ألف فرد حضروا مباراة مصر إيطاليا (سعة استاد القاهرة قرابة 74 ألف فرد) وشأنه شأن الكثيرين من جمهور الدرجة الثالثة الذين أتوا ليكونوا فى ظهر الفريق القومى. فقبل المباراة بحوالى ثلاث ساعات يتوجه المشجعون إلى الاستاد لكى يجدوا مكانا مناسبا يمكنهم من الصمود لمدة ساعتين هما عمر اللقاء، خصوصا أن الشوارع المحيطة بالمكان تشهد حالة استنفار أمنى عالية المستوى. فبدءا من المنصة، تشيد متاريس ضخمة، عربات مصفحة للأمن المركزى تحيط بالمكان وكأن هناك مظاهرة على وشك الاندلاع، وحتى قبل الولوج لمدرجات الدرجة الثالثة قد يواجه الجمهور تحديات كبيرة إذا لم يأت فى موعد باكر خصوصا أن الأبواب تغلق قبيل المباراة بساعة ونصف الساعة على الأقل. المداخل تبدو وكأننا فى الليلة الكبيرة لمولد أحد الأولياء، حذار من الوقوع فى براثن الباعة الجائلين الذين قد ينصبون عليك ويبيعون لك تذاكر مزورة، فلعبة القط والفأر بين هؤلاء وبين البوليس قصة لا تنتهى... كما أن الشحاذين وهواة التحرش قد يجدونها فرصة رائعة لكى يمارسوا رذائلهم فى وسط هذا الجو المشحون. على جمهور الدرجة الثالثة، إذن، أن يشق طريقه للمدرجات وسط هذه التحديات. يقول المهندس شريف، 24 سنة: «دخول الاستاد يحتاج إلى خبرة وفن خاصة فى المباريات الساخنة والتى قد يحدث فيها نوع من التلاعب فى عدد التذاكر كما حدث سابقا، فيطرح عدد أقل من المتاح. لذا فالواحد لابد أن يتمرس على أن يندفع كجزء من كم غفير من البشر دون أى مشكلة وأن يحاول بقدر المستطاع أن يسند نفسه حتى لا يقع فتدهسه الأقدام التى لا تفرق بين زيد وعبيد. يجب، أيضا، أن يحرص فى اللحظة التى يضخ فيها إلى الداخل ألا يحمل فى يده شيئا ثمينا»، يضيف: «ذات مرة كنت أحمل فى يدى علما ووقت الاندفاع مع الجمهور لم أجد فى يدى بعد الدخول سوى العصا ولا أعلم حتى الآن ماذا كان مصير العلم!» الموضوع ليس فيلما كارتونيا هزليا ولكنه واقع يرويه رواد الدرجة الثالثة من خلال تجاربهم. ويتذكر شريف: «فى كل مرة عندما أدخل المباريات الساخنة تحدث لى مفارقات مضحكة. مرة من المرات عند دخولى مدرج الترسو وجدت نفسى على حجر أحد أصدقائى القدامى الذين لم أرهم منذ زمن». بيزنس التشجيع هنا فى مدرجات الدرجة الثالثة تبدو السحابة السوداء وكأنها أقرب لرءوس المشجعين، قد تشعر أحيانا بصعوبة فى التنفس خاصة إذا ما هبت عليك نسمة هواء لتحمل فى وجهك كل قمامة الدرجات الأخرى. مازال مؤمن يتنقل بين المدرجات كى يدرس المكان، صفارة الحكم ستنطلق بعد ثوان. بدأت الجماهير تزحف على مدرجات الدرجة الثالثة مثل جحافل النمل. فى مساحة لا تتعدى 0.9 متر هى مساحة المقعد المخصص لكل مشجع يستمتع الحضور بعالم خاص يستمر ساعتين هما مدة المباراة. ولأن الجو مشحون والأماكن متقاربة، فالوجود الأمنى كثيف خاصة على الأطراف خوفا من أن يلقى أحدهم بشىء من مدرجات الدرجة الثالثة المشهورة بغليانها. كرنفال من الوجوه البشرية، البعض خط على وجهه علم مصر، وفضل آخرون ارتداء القبعة العملاقة فى حين اكتفت نسبة لا بأس بها بالملابس الحمراء. اكتست مدرجات الدرجة الثالثة بالأعلام، الباعة الجائلون الذين يجوبون المدرجات يشكلون أيضا عبئا على مشجع الدرجة الثالثة . يوضح محمد موظف فى الثلاثين: «أسعار السلع مبالغ فيها وأعلى من إمكانيات جمهور الدرجة الثالثة، فسعر زجاجة المياه المعدنية يصل إلى 7 جنيهات فى حين لا يتعدى سعرها فى الخارج جنيهين ونصف الجنيه، وبينما يصل سعر كيس المقرمشات إلى 6 جنيهات، لا يتعدى سعره أيضا 2.5 جنيه. بحسبة صغيرة قد يكلفنى الأمر على الأقل 30 جنيها لكى اشترى لابنى ولى زجاجتين من الماء وكيسين من المقرمشات رغم أنه من المفروض أن تكون هذه من النزهات غير مكلفة، لأن سعر التذكرة لا يتعدى 5 جنيهات». لا يقتصر الأمر على المأكولات، فالباعة أيضا قد يسعون لعمل بيزنس من أدوات التشجيع والتى يتراوح ثمنها حسب نتيجة المباراة، فبورصة الأسعار تهبط وتعلو حسب عدد الأهداف فى مرمى الفريقين، وسعر العلم قد يصل إلى عشرة جنيهات فى حالة المكسب وقد لا يزيد على ثلاثة جنيهات إذا كان الفريق مغلوبا! ونظرا للإقبال الهائل على الدرجة الثالثة لانخفاض سعر التذكرة يكون الحصول على الأماكن أمرا صعبا للغاية خلال اللقاءات الكروية المهمة. يروى عمرو، 38 سنة: «بمجرد تسرب أنباء عن طرح تذاكر الدرجة الثالثة فى منافذ التوزيع سواء فى اتحاد الكرة أو النوادى الكبرى تكون هناك حالة من الاستنفار وسط جمهور هذه الدرجة من أجل الحصول على تذكرة بسعرها الأصلى أى خارج السوق السوداء. لا أتردد فى الذهاب فى الساعة السادسة صباحا لكى أحصل على تذكرة قبل الذهاب لعملى حتى لا أضطر للوقوف فى طابور طويل لمدة قد لا تقل عن 3 ساعات». ضجيج الملعب يكاد يصم الأذان، يقف الجمهور فى حركة استعراضية بشكل تدريجى ودائرى حتى يبدو المشهد كموج البحر، ومن فرط المعاناة التى يتحملها جمهور الدرجة الثالثة تولد «إفيهات» تشجيع خاصة جدا تتلون بروح المباراة وتتشكل بروح اللحظة سواء نصر أو هزيمة: «عاوزين شوية رجولة بنلعب على بطولة»، يهتف مؤمن مستنفرا روح الحماس التى غابت عن فريقه بعد التعادل. ويضيف: «يقال إن الأرض تلعب مع فرقتها، هذا ما نحاول إثباته فعلا»، يمضى مؤمن لحال سبيله ولا تكف العصا التى يحملها عن قرع الطبول العملاقة فى حركات عصبية بل هستيرية، ولا يخاف مؤمن الذى نصب نفسه مايسترو للجمهور أن يحصل فى خضم الحماس على نصيبه من «قذائف» الجمهور الثائر على اللاعبين والذين يطالبهم بأن يكونوا أكثر رجولة. وسط مدرجات تصل درجة الاحتقان فيها إلى الغليان، قد يكون التحدى الأكبر هو الرغبة فى دخول دورة المياه. تقول عزة- ربة منزل أربعينية: «مشكلة مشجعى الدرجة الثالثة أن دورة المياه توجد خارج المبنى الخاص بالمدرجات بعكس المقصورة مثلا حيث توجد دورة المياه ملاصقة للمبنى». أما بالنسبة لجمهور الدرجة الثالثة فعليه أن يصعد 35 درجة ويخرج من المدرجات ثم يسير مسافة لا تقل عن نصف كيلو لكى يصل إلى الحمام. ثم تضيف السيدة عزة ضاحكة: «قد يكون الموضوع أصعب للسيدات، فالموضوع قد يحتاج لمحرم يصحبها فى رحلتها لأن المكان المحيط بدورة المياه ليس فيه إنارة كافية. فالذهاب إلى الحمام بكل المقاييس مغامرة غير محسوبة العواقب ». وإذا كان دخول الحمام مش زى خروجه، فإن دخول الاستاد ليس أيضا مثل الخروج منه. فالدخول قد يشوبه نوع من النظام بفعل الوجود الأمنى، أما الخروج فيجب التدرب عليه، إذ ينبغى التحرك ككتلة بشرية بشكل كاريكاتيرى قد يعيد إلى الأذهان مشهد رائع للمخرج شريف عرفة فى فيلم «الإرهاب والكباب» عند الخروج من مجمع التحرير، أما إن كان هناك من لديه خبرة «استادية» و«دكتوراه فى الدرجة الثالثة» مثل مؤمن، فينسحب مع جماعته فى هدوء بمجرد انتهاء الوقت الأصلى للمباراة ويتسلل إلى خارج المبنى مع باقى أفراد القبيلة ليبدأوا وصلة الاحتفال أو البكاء فى ساحات أخرى.