ما بين سطوع وخفوت، صخب وسكوت، صدق ونفاق. بين صعود وهبوط، وحركة وجمود، وصراع ووفاق، تدور أحداث المجموعة بأكملها، فى حارتين وزقاق. الحارتان من الزقاق تتفرعان، تتجاوران، لتشكلا معه وبه وادى أهل الحى ودلتاه. نموذج «تشريحى مصغر» لشريان حياة بلد، هو لكل فرد من أهله، موطنه، وعالمه، ودنياه. عالم أهل الحى، عالم يتخبط بين متاهات ال«قيل» وال«قال»، وحروب الحقيقة التائهة بين شذرات الواقع، وشطحات الخيال. عالم ضيق، واسع. هادئ، ثائر. وطيب وخبيث.. عالم تستشعر القرب منه من الوهلة الأولى، فيجذبك بطبائع أهله وحكاياتهم، وتتعايش سريعا متألفا، مع رقة أحوالهم، وكرب أهوالهم. عالم، يحجز لك كاتبه مكانا مميزا، على شرفة سرية، تمكنك من أن تطل عليه بعين كاشفة سحرية. ثم يتركك، تتجول بناظريك، وعقلك، ووجدانك، ووعيك، بحرية. ليتكشف ذلك، رويدا.. إنه هو من يطل عليك. هو من يقرؤك، ويكشف لك، ما يدور بلك، ومن حولك، وفى عالمك. أربع عشرة قصة، أربعة عشر كوكبا، تدور فى فلك واحد، حول نجم واحد. هو.. أنت. تطالعنا مجموعة «أهل الحى» القصصية، بقصتها الأولى، المعنونة ب(بطش البرطوشى) فى ظهور فعال للراوى المشارك، باعتباره شاهد عيان على حقيقة الاختلاف، والخلاف، المعتاد، والأزلى بين أهالى الحى وسكانه، ومدى التنافر اللافت لآرائهم، والتشتت المفتت لرؤاهم، وحجم الحيرة التى يقعون فيها مع كل جديد يجد عليهم، أو يستجد على حيهم، وعلى قدر جدية مضمون القصة، فهى لا تخلو من التلميحات الساخرة، وروح الدعابة الهادئة، المطلة أحيانا من بين السطور، شأنها شأن الحقيقة الغائبة. ويأتى اختيار اسم الشخصية المحورية (مسكين) معبرا عن طبيعة الشخصية المتمثلة فى (تمسكنه حتى تمكنه). على مدى القصص، يستمر تضارب الأقوال، وتعددها، بين أهل الحى، لتصل إلى ذروتها فى القصة السادسة للمجموعة، والتى تحمل عنوان «يقين المساكين».. وبداية قوية على لسان الراوى العليم، والذى يتكشف لك مع تطور الأحداث وتفاقمها أنه راو مشارك، يتجسد على لسانه مزيد من مصداقية الحكى، وتلقائية السرد وسلاسته. وقد جاءت بداية القصة تخليصا ذكيا للصورة العامة، قبل الشروع فى سرد أحداثها. كما اجتمعت عناصر الجذب والتشويق، واللغة المرمزة، وتعدد الدلالات، وعمق المغزى، مع نبرة سخرية لاذعة، موازية لقدر ما تحويه من ألم. جاءت القصة صارخة، ومجسمة فى لوحة حية ناطقة، لتزيح الغطاء بقوة عن الوجه الحقيقى لمجتمع يعانى من التفسخ، وتفش طاغ للجهل والفقر والتخلف. تلك الأرضية المهيأة القابلة للتحكم والتوجيه، ولو بمجرد الإيهام. ليجىء العنوان (يقين المساكين) فى محله، معبرا عن ذلك النوع الهش من اليقين، القابل لأن تعبث به الشياطين. تأتى قصية «صنو أبيه» التى تحتل المرتبة الثانية فى تسلسل قصص المجموعة ليتجلى من خلالها الرقم (سبعة) فى صياغة بارعة، وعرض مختلف متفرد. كذلك قصة «خلود شيخ الحارة» التى تقدم طرحا آخر للرقم (سبعة) بتناول مختلف، وتقنية التدرج بالأيام السبعة، ومن الأبعد للأدنى، مصاحبا لالتباس الأحداث المتغير بشكل يومى محير. تتميز القصة بكونها كاشفة للمعنى والمضمون من الوهلة الأولى، سياسة التوجه بالدرجة الأولى صريحة السرد، عارية من غير التباس. وقد جاء اختيار العنوان (خلود...) مختزلا للمعنى بأكمله، مثلما جاءت الأسماء فى هذه القصة بديعة، لافتة. فمنها الكاشف تماما بلا تورية، ومنها الفاضح بسخرية، والمبتكر والمنتقى بحرفية ومهارة عالية. كما جاء اختيار اسم (زغلول) موفقا، مثلما توافقت مسميات الأجيال مع طبائعهم. من العلامات المميزة لمجموعة «أهل الحى» القصصية، الرمزية الواضحة، المستخدمة على مدى القصص بأكملها، والمرتكزة على خلفية ثقافية، فلسفية، تاريخية، وصوفية للكاتب، تطل بقوة وتعلن عن نفسها من خلال براعة استخدامه للرمز، والرقم، والإشارة، والاسم. إضافة إلى قدرته على تسكين التعبيرات الموحية فى محلها المناسب. والقدرة على تنويعها ما بين جادة وهزلية، ليخدم كل منها المعنى المقصود بدقة، ولو بمجرد تلميح، دونما الحاجة إلى تصريح. ويتجلى مثال ذلك فى قصة «بيت العفريت» الواردة على لسان بطلها، وما يحمله المسمى من دلالة، وما تحمله الأحداث من إسقاط، وأسلوب هزلى ساخر، وبداية ذكية تؤهل القارئ لقصة تمس واقعا ملموسا. كذلك تلعب الصور التعبيرية والمسميات دورا واضحا فى قصة «أشأم توءم» والتى تحمل الكثير من الهم والوجع المصرى، وتشريح للحالة الراهنة التى آلت إليها مجتمعاتنا من انفصام، وانقسام. قصة (أشأم توءم) هى تجسيد لحال الشخصية المصرية المتأرجحة بين النموذجين النقيضين، بأسلوب يكاد ينطق بالألم والسخرية فى آن، ويتكشف لنا من عمق هذا التناقض، أن الاثنين وجهان لعملة واحدة، ليست بالجيدة، وأن كلا منهما يمثل أشأم توءم لتوءمه. قصة «زاوية الحلتيتى».. وعبقرية البناء الدرامى المحكم، وسياق الحكى المتقن، والتدرج السردى المحسوب، وتفرد اللغة والأسلوب، ضربة فى صميم الواقع السميك الصلد، وعملية تشريح لمجتمع يصر على أن يظل نائما فى العسل حتى الموت. صدمة إفاقة لتحرير العقول من (الفتاوى العبقرية الدامغة للأدمغة)، قصة أتت على لسان الراوى العليم لتخترق الحقيقة فى صميم الصميم. جاءت قصة «سكان السطوح» لتلى قصة «زاوية الحلتيتى» وتمثل الوجه المقابل لها، فى ترميز دال وعميق، وتفصيل لماح ذكى ودقيق. من بين قصص المجموعة، تطل علينا ثلاث قصص تطغى عليها الصبغة الإنسانية فى المقام الأول. على رأسها تأتى قصة «خواطر غروبية»، ثم «سلاسة السلاسل»، و«التسلية بالتعزية». يجمع بين القصص الثلاث تشابه طبيعة الشخصية المحورية الرئيسية، والتى تبدو سطحية، ضحلة، بائسة، مستسلمة، وفاقدة القدرة على التغيير، واتخاذ القرار. فى «خواطر غروبية».. تتشابه حالة البطل مع طبيعة المكان، وحالة الزيف المجتمعى المحيطة، والتى تم طرحها بذكاء للتقديم لما هو آت بعده. تجربته مع الزوجة الراحلة (رئيفة).. البطلة الغائبة، الحاضرة بقوة. البطلة الحقيقية، التى رأفت به منذ يومها الأول معه، وحتى رحيلها عنه (بهذه البساطة غير المتوقعة) على حسب تعبيره. من خلال السرد نلاحظ أن شخصية (رئيفة) جاءت متوافقة مع شخصية البطل (عبدالمجيد) الذى لم يكتب له التمجيد لحرمانه من نعمة الإنجاب. وتتضح لنا هنا دقة اختيار الأسماء بالإضافة إلى (يسرة) التى تهون عليه شظف الحياة وتيسرها. كذلك جاء عنوان القصة (خواطر غروبية) معبرا عن حالته، ومتناسقا مع عبارة الختام. أما قصة «سلاسة السلاسل» فقد تميزت بارتكازها بالكامل على الحوار الداخلى الذى يتبنى وجهات النظر لكل بطل على حدة، فيتم طرحها وتناولها بشكل تجريدى حيادى منفصل. وعلى عكس الصورة الظاهرة، يمكنك أن تستشف مدى تشابه شخصيات القصة، على الرغم من اختلافهم. فثلاثتهم يعانون من التشوهات النفسية الناتجة عن الكبت والحرمان وتتابع الخيبات. ليلجأ كل منهم لخلق عالمه الوهمى الخاص، فى محاولة لانتشال ذاته من براثن البؤس، وظلمات الإحباطات واليأس. «التسلية بالتعزية».. حالة أخرى من الوحدة، ولجوء للحوار مع النفس فى محاولة للتحايل عليها، بل على الحياة بأكملها. كم من العبارات عميقة الأثر والتأثير، ودفق للمفردات مع دقة انتقاء. جاءت فقرة النهاية حاسمة وموفقة للغاية، باقتناص الكاتب من البطل اعترافا صريحا بافتقاده لزوجته، بعد إنكار كان جازما من بداية القصة، فأتقن به إغلاق الدائرة. فى قصته الأخيرة «محفوظ حافظ» يأخذنا دكتور يوسف زيدان بمهارته المعهودة، إلى المنطقة التى يريد، كى نتابع عن كثب ما يدور بها من أحداث. فإذا بنا نتحول من أطراف مشاهدة، إلى أطراف مشاركة، بل ومتورطة، نتخبط مع شخصيات العمل فى دوامات حيواتهم، لتأتى فقرة النهاية معلنة بقوة عن بقاء الحال والمآل كما هو عليه، وكما هو معتاد. بانتهاء القصة الأخيرة من مجموعة «أهل الحى» القصصية للدكتور يوسف زيدان، يمكنك أن تجزم أن بين يديك عملا فرديا، ذا بصمة مختلفة، وقيمة أدبية عالية محترفة، تساهم إيجابيا فى إثراء المكتبة المصرية والعربية، بعمل مؤثر إبداعيا، ودافع لحركة الإنارة والوعى فكريا، من خلال خلق مساحة حرة ممتدة، تسمح بإعادة بناء المفاهيم، وتفعيل العقول والأذهان. العمل فى مجموعه تميز بلغة عالية، واعية، ناطقة، وطاقة سردية جاذبة ودافقة. أما البناء الدرامى فقوى ومتماسك، لكل قصة على حدة، ولكل قصص المجموعة مجتمعة، لتتفاعل، وتلقى كل منها بظلالها على الأخريات، مكونة معا نسيجا واحدا مترابطا، متينا. ليصير بين أيدينا فى النهاية، عملا جديرا بأن يحمل ختم الدكتور يوسف زيدان.