كل تفصيلة فى جريمة سحل وكيل وزارة الإعلام السابق غير قابلة للتصديق، ذلك أن أحدا لا يستطيع أن يتصور أن يعاتب رجل محترم صاحب ميكروباص لأنه صدم سيارته. فيقرر الأخير بكل بساطة أن يدهسه ويسحق عظامه أمام الملأ. لا يقل عن ذلك غرابة أن يتبين من المعاينة والتحقيق أن السيارة متهالكة وأنها مخصصة لغرض الخردة والبيع كقطع للغيار. وأنها بلا ترخيص، ولا أوراق لها فى سجلات المرور، وليس لها أرقام. ثم إن مالكها قام بتعيين حدث لا يتجاوز عمره 17 عاما لقيادتها ليست لديه رخصة قيادة. أما الأغرب من كل ذلك فإن السيارة كانت تعمل بهذه المواصفات فى أطراف القاهرة (عاصمة أم الدنيا!) بهذه المواصفات لمدة سنة ونصف السنة، حيث ظلت تنقل الركاب بالأجرة فيما بين منطقتى إمبابة وأوسيم طوال هذه الفترة، أى أنها كانت تقطع عشرة كيلومترات فى الذهاب ومثلها فى العودة، وهى محملة بأربعة وعشرين راكبا دون أن تثير انتباه أحد من شرطة المرور. أبديت هذه الملاحظة لمن هم أعرف منى بالمنطقة، فقيل لى إن الشرطة لا وجود لها فى مثل هذه الأحياء الشعبية التى لا يقطنها أحد من الأكابر. وإن تشغيل السيارات المتهالكة أمر عادى فيها، وإذا كانت السيارة تعمل بغير رخصة أو أرقام، فلا غرابة فى أن يعمل السائقون أيضا بغير رخص للقيادة، وأن يكون من بين السائقين صبية وأحداث فى سن الفتى الذى ارتكب الجريمة سابقة الذكر أو أصغر، قيل لى أيضا إن السلطة الحقيقية فى هذه المناطق هى للفتوات والبلطجية وأصحاب السوابق. أما الحكومة فإنها استقالت من تلك المناطق ورحلت عنها، أحدهم استدرك فى هذه النقطة قائلا إن السلطة تواجدت فى حى إمبابة مرة واحدة، هى حين قيل إن أحد المطلوبين أعضاء الجماعات المتطرفة يمارس نشاطا فيها، وبعد ذلك الظهور الذى أدى إلى القبض على ذلك الشخص، اختفت الشرطة ولم يعد يشوبها أحد. مما قرأت وسمعت وجدت أن وقائع الحادثة تحتاج إلى دراسة تجيب عن عدة أسئلة، منها مثلا: كيف تشكل ذلك الإدراك الذى جعل مواطنا يستسهل سحق مواطن آخر وقتله، لمجرد أنه اختلف معه فى أمر بسيط كان يمكن تسويته ببدائل أخرى. وإلى أى حد أسمهت فكرة غياب القانون وغياب الشرطة فى تحقيق هذه النتيجة المأساوية، وكيف تسنى لصاحب السيارة الذى يعرف أنها متهالكة وأنه ينبغى تفكيكها لتباع كخردة أن يقوم بتشغيلها لمدة 18 شهرا، بلا ترخيص ولا أرقام. وأين كان رجال شرطة المرور طوال هذه المدة، وهل يُعقل ألا تكون السيارة قد مرت طوال تلك الفترة على أى إشارة مرور أو شرطى مرور، أو حاجز أو كمين أمنى. وما مدى صحة ما يقال عن أن بعض سيارات نقل الركاب الصغيرة وسيارات الأجرة مملوكة لبعض ضباط الشرطة أو هم شركاء فى ملكيتها، الأمر الذى يوفر غطاء وشبه حصانة لسائقيها وغطاء لمخالفاتها. أيضا ما مدى صحة ما يقال عن أنه فى الحالات التى لا يكون فيها ضباط الشرطة من الملاك أو الشركاء فإن أصحاب السيارات «يدبرون أمورهم» عن طريق دفع رواتب شهرية لرجال المرور لكى يغمضوا أعينهم عنهم. ثم إلى أى مدى أثر تركيز السلطة على الأمن السياسى وتجاهل الأمن الجنائى والاجتماعى على معدلات الجريمة ومدى الشعور بالاستقرار والأمان فى البلد؟ فى أى بلد يحترم فيه القانون كما يحترم حق الناس فى الحياة وفى الكرامة، يهتز النظام كله إذا ما وقعت جريمة بهذه الجسامة والبشاعة، ويكون وزير الداخلية أول الذين يتحملون المسئولية السياسية ويقدمون استقالتهم، وفى الوقت ذاته يتعرض مسئولو الشرطة والمرور فى المحافظة للمساءلة والحساب. لكن الأمر عندنا مختلف. آية ذلك أننى ألمح فى الكتابات التى عالجت الموضوع وقفت عند إدانة وتنديدا بسلوك مالك السيارة. وهو يستحق ذلك لا ريب. لكن لم أجد أحدا دعا إلى تحقيق الظروف التى سلحته بتلك الجرأة، وأنسته أن فى البلد قانونا وشرطة وحكومة.