فى فجر الثانى من مارس انتقل إلى رحمة الله الأستاذ الدكتور محمود عبدالفضيل عن عمر يقترب من 76 عاما بعد حياة حافلة بالعطاء المستمر والمتجدد. وتعود معرفتى بالفقيد الكريم إلى صيف عام 1955 فى فناء المدرسة الإبراهيمية بجاردن سيتى، وكنا يومذاك فى مسابقة ما سمى وقتها القراءة الصيفية، ومنذ ذلك التاريخ وعلاقتنا ممتدة حتى آخر لحظة، فقد كنا على صلة إبان المرحلة الثانوية ثم تزاملنا سويا فى كلية التجارة جامعة القاهرة دفعة 1962ثم فى البعثة فى أوروبا، وزرته أكثر من مرة فى فرنسا وزارنى أكثر من مرة فى برمنجهام بإنجلترا ثم فى موسكو. ثم تشاركنا سويا فى أعمال علمية وأنشطة متنوعة. الحق أن مسيرة العطاء للفقيد الراحل كانت هائلة ومتنوعة، فقد كانت له رؤية سياسية محددة المعالم جرى اثراؤها وتطويرها على مدى الزمن، وكان يؤمن بقدرات مصر على النمو والتطور والديمقراطية، وكذلك كان مؤمنا بأن الشعوب العربية بمثابة أمة واحدة، وكانت هذه الرؤية القومية أحد الثوابت الرئيسية التى عمل لها طوال عمره. وكان له أصدقاء من المشتغلين بالفكر على امتداد الوطن العربى كله من المغرب العربى غربا حتى الكويت شرقا ومن اليمن والسودان جنوبا حتى سوريا شمالا. وتمتع الفقيد فى كل أرجاء الوطن العربى بسيرة عطرة واحترام كبير لكل من عرفه. قضى الفقيد عقب حصوله على الدكتوراه من فرنسا وقتا فى جامعة كامبريدج حيث حظى بصداقة مع الاقتصادية العظيمة جون روبنسون، ومن عمله فى كامبريدج تعرف على أساطين علم الاقتصاد فيها مثل البروفيسير سرافا وموريس دوب وغيرهما. وكان له إنتاج علمى متميز يعرفه أصدقاؤه وتلاميذه، لذلك خسرت مصر والوطن العربى ابنا بارا من أبنائها. فقد كان يدرك منذ صباه المسئولية التى يتعين عليه خوضها هو وأمثاله بجانب قدرته الفكرية المتميزة سواء من ناحية التحليل أو التنظير الاقتصادى وكان معلما ماهرا يحب تلامذته ويخلص لهم فى أداء عمله ويسعد بحبهم له. ••• ليس هنا مجال لتحليل الإنتاج العلمى الغزير للأستاذ الدكتور محمود عبدالفضيل، فهذا ربما يحتاج إلى كتاب خاص بل فقط نود أن نشير إلى أنه وبعد ترقيته أستاذا فى منتصف الثمانينيات لم يتوقف عن إنتاجه العلمى كما يفعل الكثيرون ومنهم من حصل على جائزة الدولة التقديرية غشا وتدليسا بل كان يدرك وبكل تواضع أنه أصبح عالما ومن ثم فمهمته إنتاج العلم، وعليه حافظ على قدرته على هذا الإنتاج المبدع. وعلم الاقتصاد من أقرب العلوم الاجتماعية إلى حياة البشر فتخصص عمدا فى هذا العلم بهدف إنارة الطريق للبشر فى سعيهم نحو الرفاهية والعدل والديمقراطية. أتذكر فى أول خطاب أرسله لى عام 1964 وأنا فى البعثة فى إنجلترا شدا لأزرى فى الغربة الصعبة ذاكرا: نحن فى البعثة لنتعلم ونعود بخبز نظيف لوطننا. وقد كان إنتاجه العلمى وسيظل غذاء نظيفا وسليما للأجيال الحالية والمقبلة. شاهدته حزينا على ما آلت إليه الأوضاع فى الوطن العربى منذ بداية هذا القرن والدمار والانحلال البادى والمتسع فى كثير من أرجائه، فهل نقول إنه غادر الوطن العربى حزنا عليه بعد حياة حافلة كلها نضال وعطاء بشرف. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وعوض مصر والوطن العربى عنه مثيلا له.