«نبشر قشر النارنج قليلا حتى نزيل طبقة الجلد الخارجية الرقيقة، ثم نقطع القشرة بسكين حادة إلى ثمانية أجزاء متساوية وننزعها من الثمرة برفق حتى تبقى المثمنات سليمة دون أن تنكسر، فسوف نحتاجها كما هى دون أن نقصها. نعيد الكرة مع كل حبات النارنج التى نريد أن نعمل منها مربى. ننقع القشور فى ماء عذبة ونغير الماء عدة مرات لمدة يوم كامل على الأقل حتى تتخلص القشور تماما من المرارة، فالنارنج هو برتقال مر لا يمكن أكله لذا نعمل منه مربى. حين تصبح القشور جاهزة نبدأ عملية عقدها بالسكر والماء.» أذاكر التعليمات جيدا وهى تصلنى على الهاتف عبر القارات. فى الطبق الفضى، رصت جدتى قشور النارنج بعد أن عقدتها فى السكر ثم صفتها منه ودعكتها بالسكر الخشن فصارت تلمع فى ضوء الشمس الذى يغرق مطبخها القديم بنور دافئ. الفصل هو فصل الشتاء فى دمشق وفى مطبخها تختلط رائحة البرتقال برائحة السكر على خلفية رائحة المازوت، الذى يستخدمه السوريون عموما فى بيوتهم للتدفئة ونستنشق بقاياه فى الشارع أيام البرد، فمن من النادر أن يكون فى البيت السورى مصدر كهربائى للتدفئة. ••• أدوس زرار الزمن فى مخيلتى فأجد نفسى فى بيتنا فى دمشق وقد توفيت جدتى منذ عدة سنوات، لكننى أجلس على طاولة المطبخ أراقب والدتى وهى تعيد نفس حركة جدتى فتلف قشور النارنج فى السكر الخشن وتتلألأ القشور فى شمس الشتاء بعد أن رصتها والدتى على صينية استعدادا لأن تقدمها لصديقاتها حين يزرنها. من حيث أجلس على كرسى المطبخ، أرى شجرة النارنج فى الحديقة تحمل ثمارها كامرأة اكتمل حبلها فزادها جمالا، تتمايل أغصانها حين ينفخ فيها هواء الشتاء فتبدو وكأنها تهز أذنيها وبهما أقراط ماسية تفخر بهما. فى سوريا صنع المربى فن عريق قائم بذاته، تدخل فيه أنواع من الثمار لا تستعمل فى بلدان أخرى للمربى. فى حلب تحديدا مدرسة خاصة لعقد ما قد يبدو غريبا، فمن يذكر طعم الباذنجان الصغير بعد أن يصفى من السكر ويتم حشوه بالجوز المطعم بالبهارات؟ خليط قد لا يخطر على بال أحد لكن حين تذوب لقمة منه فى الفم يتساءل من يأكله للمرة الأولى «كيف عشت حياة كاملة دون مربى الباذنجان». أما ثمرة الكباد، فهى تبدو فى شكلها وكأنها الشقيقة الأكبر سنا للبرتقال، بسبب حجمها وتضاريس ملمسها التى تظهر وكأنها تجاعيد على بشرتها، فالمربى المستخرج منها يعده الكثيرون ملك المربى، لما فى صنعه من حرفة وفى طعمه من أناقة. هذه المربيات لا تؤكل مع الخبز أو مع الزبدة، هى قطع فنية يجب أولا الانبهار بشكلها وبملمسها، ثم استنشاق عطرها الليمونى ففرك سطحها ولعق السكر الذى يلتصق بإصبعنا قبل أن ندعها تذوب فى فمنا فيتوقف فينا الزمن لحظات كفيلة بأن تنقلنا إلى السوق القديم. هناك، تفاصل سيدة البائع فى سعر الجوز فتعده بأنه لو خفض لها السعر فستعطيه مطربانا صغيرا من مربى الباذنجان المحشو به. هناك، تطفر رائحة القرفة على المكان فهى من أقوى روائح البهارات وأنا أشمها من حيث أجلس على بعد آلاف الكيلومترات وآلاف الأزمنة أتابع أخبار الموت. ••• فى مطبخى القاهرى، أبشر قشر البرتقال لأعطر فيه كعكة أريد خبزها. أفرك القشر بين يدى فيخرج منها مطبخ والدتى ومن قبله مطبخ جدتى. على أصابعى زيت البرتقال وأحاول أن أجعل رائحته تخمد ذلك الصوت فى رأسى، صوت طفلة فى حلب تستغيث تحت الركام. أتابع بشر البرتقالة فأرى حديقة منزلى فى دمشق وقد حملت أشجار النارنج والكباد فى غيابنا. أخلط قشر البرتقال مع السكر والقرفة فتظهر عينا جدتى الزرقاوان، وهى تحاول إقناعى أن أتناول قشرة نارنج بدل من حبة حلوى. أنا لم أتقن فن صنع المربى ولم أكن أهتم به من قبل، فقد كنت دوما محاطة بمصادر للمطربانات القصيرة الشفافة التى يغطى وجهها قطعة من قماش التول الأبيض المثبت على الإناء بخيط مطاطى، كانت ترسلها لى والدتى أو جدتى أو قريبتى فى حلب على مدى السنة حيثما كنت أعيش، فترى مربى النارنج فى بيتى فى السودان أو قطع الكباد فى شقتى فى نيويورك. كانت تلك المطربانات تشبه العروس فى نظرى، بسبب قطعة التول الأبيض الذى يغطى وجهها كالطرحة ليلة عرسها. اليوم، فى مطبخى القاهرى، أتساءل إن كنت سأبدأ بتعلم الصنعة وفاء لمدينة والدى التى تختفى تحت رمال الحرب المتحركة. أم أننا يجب أن نعلن الحداد فنتوقف عن عقد السكر بالماء وعن تحويل ثمرة النارنج المرة إلى قطعة حلوى شفافة كالكريستال؟ اليوم فى مطبخى القاهرى يبدو لى مطربان المربى كجثة طفل لفها أهله بكفن أبيض، تخرج منه رائحته ماء زهر البرتقال التى رشوها عليه وهم يودعوه، مازال جلده دافئا ووجهه مرتاحا فى موته. اليوم، لا سكر معقود فى حلب فقد رش الموت على أهلها فلفلا أسود خنقهم. لكن صوت جدتى التى رحلت منذ سنوات يدخل على عتمتى اليوم وأسمعها تقول: «اتذكرى أنه شجرة النارنج معمرة ودايما خضرا ما بتموت».