بوابة شموس نيوز – خاص "أسمهان" و "ماتا هاري"، امرأتان متشابهتان، وبالرغم من ابتعادهما عن بعضهما تاريخيا وجغرافيا، إلا أن تشابها كبيرا جمع بينهما، ومصيرا واحدا ترصد بهما. الأولى من الشرق تحديدا من سورية، لها اسم رسمي هو "آمال الأطرش"، ولها اسم فني هو "أسمهان"، والثانية من الغرب، تحديدا من هولندا، لها اسم رسمي هو "مارجاريتا جرترودا"، ولها اسم فني هو "ماتا هاري". "أسمهان" تزوجت صغيرة من الأمير "حسن الأطرش"، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة، لكن الأحلام الكبيرة التي ملأت عينيها الواسعتين، كانت أكبر من صخور جبل الدروز السوري الذي لا تنبت على سفحه زهور الأوركيد التي تشبه أصابعها وتضفيىرة شعرها، ولا يوجد حولها رجال يشعلون لها سيجارتها ويقدمون لها كأس النبيذ، الأمير "حسن الأطرش" لا يفعل ذلك، وإذا دندنت بالغناء فهو لايسمعها، صحيح أنها أميرة الجبل، لكن الحنين إلى أوتار العيدان في مصر كان يأكل قلبها، فتسللت هاربة إلى القاهرة، تاركة زوجها وابنتها، حيث الآهات الطربية تسري في الليل والروح والجسد، وحيث رنين الكاسات كأنه خفق جيتار شجي، وحيث الرجال يأكلونها ويشربونها حينما يرون قوامها المياس وهو يعصف بالأغصان لما تمر في الممر أو تتمشى في الممشى، وخفق أجنحة الحمائم تحملها إلى غيمات سيارة. "ماتا هاري"، تزوجت صغيرة من ضابط هولندي، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة، وسافرت معه إلى أندونيسيا، وإلى بلدان الشرق، وهناك سحرها غموض فنون الهوى، فتقربت من الراقصات الشرقيات، وتعلمت منهن تمايلهن المثير، وتقربت من نساء الليل، وتعلمت منهن فنون الفراش كلها، ولما عادت مع زوجها وابنتها إلى هولندا، كانت تضيق بحياة زوجها الروتينية، فتركته هو وابنتها وتسللت إلى باريس، وطبقت ما تعلمته من نساء الشرق الراقصات في ملاهي باريس ومارسيليا ومونبيليه، واضطجعت إلى رجال الليل الساهرين بحثا عن المتعة، كانت تقف لهم على نواصي الشوارع، تماما كما يليق بعاهرة لا نهاية لجوع جسدها، فإذا ما خيم الظلام، وفترت أطرافها من المتعة العابرة، تخطّفتها هلاوس كابية فيرتجف قلبها، وتلم حوائجها من على سرير عابر الليل، وتغطي عريها، وتمشي، كأنها منوّمة. في القاهرة، خلعت أسمهان اسمها الرسمي "آمال الأطرش"، وعرفت باسم "أسمهان"، الذي اختاره لها الملحن المصري اليهودي "داود حسني"، وارتبطت بعدد غير قليل من الرجال، منهم من كانت علاقتهم بها غير رسمية، مثل "أحمد حسنين" باشا رئيس الديوان الملكي، ومنهم من تزوجته زواجا عرفيا مثل المخرج "أحمد بدرخان"، ومنهم من تزوجته زواجا شكليا لتجدد إقامتها بمصر مثل المطرب "فايد محمد فايد"، ومنهم من تزوجته زواجا رسميا مثل المخرج "أحمد سالم"، منهم من دمرت حياته، ومنهم من دمر حياتها، كانت تغني في المسارح والصالونات وكانت تمثل في الأفلام أدوار الغرام والانتقام والشباب، وقد برق نجمها في سماء القاهرة بريقا خطف أنظار المعنيين بالطرب، ملحنين وسميعة، حتى كادت تنافس "أم كلثوم" نفسها، لكنها انداحت بكليتها في دخان التبغ ورنين الكاسات، كانت تشرب منذ الصباح حتى تتعب، لم تكن تستطيع رؤية كأس الخمر ملآنة، ولم تكن تستطيع رؤيتها فارغة، فكانت تترنح في مشيتها سكرانة، وقد ظلت طوال الوقت في حاجة إلى الفلوس، والرجال والخمر، وضيعت وقتها كله في غرفات الفنادق وشواطيء البحار وهي تبحث عن الفلوس والرجال والخمر. في باريس، كانت "ماتا هاري" تعرف أن النساء جميعهن يمارسن الرقص، فكيف تمتاز عنهن، اختلقت لنفسها عائلة شرقية، واسما غريبا، وتاريخا خاصا، ادعت أن عائلتها أندونيسية، وأن أمها كانت من سلالة الآلهة ومقرها الرئيسي معبد جاجاناث في الهند، وأنها ورثت عن أمها "الرقص المقدس"، الذي كانت تقدمه لزوار المعبد، وارتدت بدل الرقص الشرقية التي كانت ترتديها "بديعة مصابني" و "تحية كاريوكا"، وأشاعت إنها ملابس خاصة بالرقص المقدس ورثتها عن أمها، وتخلت تماما عن اسمها الرسمي "مارجاريتا جرترودا" وأطلقت على نفسها اسم "ماتا هاري"، الذي يعني بالأندونيسية عين الشمس، كانت ملامحها شرقية بالفعل، وكان رقصها جديدا على حانات فرنسا، فصدق الفرنسيون أكاذيبها المقدسة، وبين كل رقصة ورقصة، كانت تشرب الخمر، وترفع الكأس لأعلى، وهي تخبر الرجال بأن الرقصة المقدسة التي ستؤديها الآن، هي رقصة الإلهة الفرعونية "آمنت" ربيبة الإله حتحور رمز المضاجعة، أو رقصة الإلهة الهندية "ديفي" وهي رقصة تطهر الروح وتجلي الجسد، وكانت تهمس في آذان الرجال على الأسرة الليلية، بأن الآلهة تزيد اشتعال الجسد في المضاجعة بعد الرقص المقدس، وكلما ازدادت فلوسها التي تأخذها من الرجال كعاهرة استثنائية، ازدادت احتاجاتها، فظلت طوال الوقت تبحث عن الفلوس والرجال والخمر. في القاهرة، كان احتياج "أسمهان" للفلوس قاهرا، لذلك لم يكن من الصعب استدراجها بسهولة فائقة للعمل كجاسوسة للمخابرات البريطانية، كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة، وكان الانجليز في حاجة إلى من يسهل لهم مهمة استمالة زعماء جبل الدروز، ليساعدوا القوات البريطانية في العبور إلى سورية وفلسطين عبر الجبل، فحملت الرشاوى المالية في زكايب، وتنكرت في زي البدويات، وركبت قطارات الضواحي وجِمال البوادي وحمير الحقول، وفي الجبل اضطرت أن تعود لعصمة زوجها السابق الأمير "حسن الأطرش" كي يساعدها في مهمتها المشبوهة، وبعد استمالة زعماء الجبل، تعود مرة أخرى إلى القاهرة، تكون قد استعادت بريقها ورفاهيتها، وتكون قد طلقت من زوجها، وتكون قد أدمنت القمار، ويكون عطشها للخمر قد ازداد، لكنها عرفت طريقا جديدا شديد السهولة للحصول على الأموال. في هولندا، قابلت "ماتا هاري" قنصل ألمانيا، كانت قد تركت باريس بعد أن دمرت حياة أربعة رجال في فراشها، وبعد أن دمر أربعة رجال آخرين حياتها على نواصي الشوارع، أوهمها القنصل أنه مفتون بأساطيرها الشرقية وبرقصها على المسارح، كانت الحرب العالمية الأولى تضرب جنبات الشوارع كلها، وكانت هي قد أفلست تماما، وعلى استعداد لفعل أي شيء نظير أن تحصل على الفلوس والخمر والرجال، لم يبذل القنصل عناءً كبيرا في تجنيدها ضد الفرنسيين، رحبت بالعرض، وبالمال الألماني السخي، وعادت إلى باريس محملة بمهمة من نوع خاص، وفي باريس، كانت قد جربت فلوس الجاسوسية، فأقامت علاقة مع ضابط فرنسي، ونجح هو الآخر في إقناعها للعمل لصالح فرنسا ضد الألمان، لم تكن تدرك كثيرا خطورة العمل كعميلة مزدوجة، كانت راغبة في المال وفي الخمر وفي الرجال. في القاهرة، تعرفت "أسمهان" على ضابط فرنسي، جندها للعمل لصالح فرنسا، لكن الانجليز عرفوا، فضيقوا عليها الطرقات كلها، وهي استطاعت الحصول على المال الفرنسي، لكنها لم تكن تستطيع الوفاء باتفاقاتها الجديدة لصالح فرنسا، فانداحت تماما على كراسي القمار وحانات الشراب وأحضان الرجال، وظنت أنها أكبر من المخابرات الانجليزية والمخابرات الفرنسية والمخابرات الألمانية، فقد كان صوتها يسكر المغنين قبل المستمعين، وكان جمالها يفرش الممرات ويسدل الستائر كلها. في فرنسا، تم اعتقال "ماتا هاري"، وحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص، أوقفوها على نصب خشبي، وارتص أمامها اثنا عشر جنديا فرنسيا، كلهم صوبوا بنادقهم إلى جسدها، وما إن صدر أمر القائد بإطلاق الرصاص، حتى تخرم جسدها بالطلقات المتوالية التي لم تدع لها فرصة لأن تفكر بأي شيء قبل اختطاف الروح وابتراد الجسد، وبرغم علاقاتها العديدة، إلا أن أحدا لم يقدم طلبا لاستلام جثتها، فتبرعت بها الحكومة للأغراض الطبية، لكن هولندا، وبعد أن هدأت الحرب العالمية الثانية، أقامت تمثالا من الحديد الصديء لها، أسمته "العاهرة ماتا هاري"، مازال قائما حتى الآن. في القاهرة، صحت "أسمهان" من نومها تعبانة، كانت في انتظار السيارة التي سيرسلها لها "يوسف بك وهبي" لتقلها إلى هناك، طال انتظارها بعض الشيء، ولما أتت، ركبت هي وصديقتها "ماري قلادة"، كانتا تتحدثان كثيرا، وكانتا تضحكان كثيرا، لكن العربة انحرفت قليلا، ووقع السائق منها، وهي تتجه ناحية البحر، حاولتا فتح الباب، لكن الأبواب كلها كانت مغلوقة غلقا لا يمكن فتحه، وابتلع الماء السيارة براكبتيها، لم يتح الوقت ل "أسمهان" بأن تفكر في شيء قبل اختطاف الروح وابتراد الجسد، ولما انتشلوا جثتيهما، وجدوا في جيب "أسمهان" رسالة إلى ضابط مصري اسمه "محمد إبراهيم إمام"، تقول له فيها: انا مدينة بحياتي لك، وكل ما أرجوه من الله أن يمتد بي العمر لكي أرد لك هذا الجميل. نحن نعرف لماذا هي مدينة بحياتها لهذا اليوزباشي النبيل، وتلك قصة أخرى، لكننا نعرف أيضا أن العمر لم يمتد بها، كما كانت ترجو الله في خطابها، لكي ترد للضابط جميله. في عام 1917، العام الذي ماتت فيه "ماتا هاري"، ولدت "أسمهان"، وكأنما أرادت أن تكمل مسيرتها الغربية في الشرق، فنا وجاسوسية، ولدت "أسمهان" في البحر، قادمة من سورية إلى مصر، وماتت في البحر عام 1944، وأكبر الظن أنه في هذا العام، ولدت مغنية أو راقصة أخرى، في بقعة ما، ستعمل جاسوسة لبلدين يتعاركان، وسيتم اكتشاف أمرها كعميلة مزدوجة، فليس من المنطق، ولا من العدل، أن تخلو دنيانا من النسوة الفاتنات اللواتي هن دائما في حاجة للمال والخمر والرجال، فيعملن جاسوسات ويرقصن ويغنين، فنحكي حكاياتهن بكثير من الأسى. ملحوظة: أصحاب الصور: أسمهان، ماتا هاري، أحمد بدرخان، بديعة مصابني، الأمير حسن الأطرش، داود حسني، تحية كاريوكا، أم كلثوم، أحمد حسنين باشا، أحمد سالم، فايد محمد فايد