الكمال البشري بإنسانيّة التّعاليم (1) إذا اقتصرت الكتب الدّينيّة على تعاليم دنيويّة يتبيّن من خلالها الإنسان مسار سلوكيّاته الأرضيّة وحسب، فأنّى له أن يكتشف أبعاد إنسانيّته؟ وكيف له أن يتخطّى ذاته ليتوغّل في عمقه الإنسانيّ فيلتقي بالله السّاكن فيه فيلتقي السّماء؟ فالتّشريعات القانونيّة قادرة على ذلك، والمناهج الّتي يستشفّها الإنسان من خبراته الاجتماعيّة تمكّنه من تنظيم السّلوك وبناء نفسه. لا بدّ من أنّ للإنسان بعداً آخر غير أرضيّ. ولو تأمّل المناهضون لهذا البعد ذواتهم جيّداً لعاينوا بأنفسهم قيمة الإنسانيّة الممتدّة بين الأرض والسّماء، ووعوا حقيقة الإنسان الممتزج بالله. ومهما اختلف الوعي الإنسانيّ للحضور الإلهيّ، ومهما تقدّم الإنسان فكريّاً وساهم في تطوّر العلم حتّى يبلغ منتهاه، سيبقى تائهاً في دائرة الفراغ إذا لم يتعرّف على الله. وبقدر ما يتوغّل في جوهره المقدّس يهتدي إليه كعنصر الحياة الأساسيّ ويبلغ كماله الإنسانيّ. ومهمّة الكتب الدّينيّة لا تقتصر على بناء الإنسان الأرضيّ، بل ينبغي أن تكون غايتها السّامية اللّقاء الحقيقيّ والحتميّ بالله. يقول غاندي إنّ الكتاب المقدس هو تاج الكتب والموعظة على الجبل درّة في الكتاب المقدس. ولَهي درّة لأنّها تشعّ حدّ التّوهّج فيستنير قارئ هذه الموعظة ويتلمّس دستور الحياة السّماويّة ويفهم أنّ هدف الكتاب المقدّس بناء الكيان الإنسانيّ الّذي ينبغي له أن يتلألأ في قلب الله. وأعتزم الاستدلال بقول غاندي لأشير إلى غنى الكتاب المقدّس الموجّه إلى كلّ إنسان ثائر على كلّ ما هو غير إنسانيّ، وإلى كلّ إنسان متعطّشٍ إلى الفلسفة السّماويّة. فالرّبّ الصّاعد إلى الجبل ليعلّم الجموع، أصعد معه الإنسانيّة إلى حيث ينبغي أن تكون. "ولمّا رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلمّا جلس تقدّم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلّمهم قائلاً: "طوبى للمساكين بالرّوح، لأنّ لهم ملكوت السّماوات." (متى 3،2،1:5). بين الفعل (صعد) والفعل (تقدّم) ترتسم الطّريق بين الإنسان والمسيح. ويشرح القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم قائلاً: "حين صعد إلى الجبل وجلس، وتقدّم إليه تلاميذه نرى مقدار نموّهم في الفضيلة وكيف أنّهم في لحظة قد صاروا إلى حالٍ أفضل، إذ كانت الجموع تلهث فقط خلف المعجزات، أمّا هم فقد اشتاقوا منذ تلك اللّحظة أن يسمعوا أمرًا عظيمًا له شأنه. وكان هذا فعلاً هو السّبب الّذي جعله يجلس ليعلِّمهم، ويبدأ معهم هذا الحديث. لأنّه لم يهتمّ بشفاء الأجساد فقط، بل كان يقوِّم نفوس البشر أيضًا، وما أن ينتهي من العناية بنفوس هؤلاء حتّى يهتمّ بأجساد آخرين.". قد يظهر المشهد الإنجيليّ مسافة بين المسيح والجموع، إذ إنّه اختار الجبل كمكان محدّد للتّعليم. لكنّ فعل الصّعود أتى كأساس تعليميّ. يصعد الرّبّ وبتعليمه يصعد الجمع معه. ما أشارت إليه جملة (فلمّا جلس تقدّم إليه تلاميذه). فالجلوس كفعل تمهيديّ للتّعليم عبّر عن جذب خاصّ للكلمة، ما قاد التّلاميذ إلى التّقدّم نحو الرّبّ. ولمّا تقدّموا فتح فاه وعلّمهم. يدعونا السيّد إلى الارتفاع إلى مستوى الكلمة، ما دلّت عليه الطّوبى الأولى (طوبى للمساكين بالرّوح، لأنّ لهم ملكوت السّماوات.) فالمساكين بالرّوح هم الجائعون أبداً إلى الحبّ الإلهيّ، الّذين فهموا أنّ للإنسان هدفاً واحداً، ألا وهو قلب الله، وكلّ الأهداف الباقية تخلص إليه. وليس المسيح بصدد الفصل بين الرّوح والجسد، لأنّه قال (لهم ملكوت السّماوات) بدل (لأرواحهم ملكوت السّماوات). وإنّما الرّوح هي الإنسان، الشّخص، الّذي زرعه الله في الأرض ليحصده في السّماء بالحبّ.