كان يبني جسورًا من الثقة بيني وبينه. في كل يوم كان يثبت لي أنه رجلٌ لم يُصب بسعار الخيانة، لم يعرف الخداع والمراوغة طريقًا له، لم يطرق الكذب يومًا باب عقله. لم يخطر في بالي الغدر، لم تنتابني قط نوبات شكٍ أو غيرة عمياء أو مُبصرة. كأنه يحمل في دمه مصلاً ضد أمراض الرجولة، الأزلية منها والحديثة. لا يبالي إن كنت امرأة كاملة أو نصف كاملة، إن كنت أشبه في الجمال بطلاته المفضلات أو أتمتع بشىء من جينات سلالاتهم. كانت الجسور تقوى وترتفع، تمتد بين مدينتين لا يصل شىءٌ بينهما سوى تلك الجسور. خانني الحب وضعف وخارت قواه أمام هذا الشعور الذي ينبعث من داخل النفس، ولا يفرضه طرف على طرف آخر. أشياء لا تُشترى ولا تُبتز بها. ظلت الجسور معلقة نراقبها معًا كل يوم. ظننت أنها لا يمكن أن تُقهر. لا يمكن أن تتصدع أو تنهار. نسيت أنها لم تُختبر بعد، لم تطأ عليها قدم. لم يمر بها الناس يحملون الورود ولا عشاق يعلقون عليها أقفال الحب ويلقون بمفاتيحها بعيدًا؛ كي لا يتفرقوا أبدًا. ضمانة أغفلتني الحذر، خدرت إحساسي ضد أي هزات وزلازل أنثوية. كنت أستمتع وهو يخلع علي عتبات قلبي نزواته واحدة بعد الأخرى دون خجل. يسرد أمامي كبواته وسقطاته، وجسور الثقة تمتد بيني وبينه. وبعد ما كان وبعد أن سقطت في قارورة العسل، أتزود منها بجرعات من حب وثقة، صممت أذناي عن أصوات الخطوات على هذا الجسر وقرعها على ألواحها الخشبية. كانت السعادة حولي في كل مكان تلاحق خطواتي كالسماء من فوقي، أتنفسها كأنها لي وحدي لا يشاركني فيها أحد. لا أخاف الصديقات المقربات أو البعيدات، أو حتي الغريبات. كم كنت أستمع لأحاديث الخيانة. لحظات التنافر الجسدي والتي ما من نشوة خُلقت، يمكنها أن تُشعل رغبة الذوبان في جسد آخر، وأشعر بزهوٍ أنني أمتلك رجلاً حقيقيًا يحمل من صفات تلك الكلمة أخلاقًا تفتقر أحاديث الأخريات مفرداتها. لكن… خانته نظراته، وطاردته كبواته، ولاحقه ماضيه الذي لم يُشفَ منه تمامًا. وظهرت أعراض انسحابه بكل شراسة. لم أكن أعلم أنه تخلى عن ماضيه ونزواته السابقة، لكنه لم يتخلَ عن عاداته في اقتناء اكثر من إمرآة. وأن النساء بالنسبة له كزجاجات العِطر لكل واحدة وقتها وموسمها ومكانها المناسب. مفاجأتي كانت من نفسي أكثر منه، لم أتخيل أن أكون إمرآة غبية ومخدوعة، لا تعرف عن حبيبها أكثر مما يقول، وأن تأتينِ شهادة غبائي الأنثوية من صديقاتي. لا أبالغ إذا قُلت أن يوم بعد يوم كنت أسمع عنه حديثًا ورواية؛ يوم أسمع ويوم أخر استوعب ما قيل لي واستعد لسماع الجديد. حاولت أن ابرر تِلك الأمور بحجَج هشة، خُورٌّ. لكن لم كل هذا لم يجعلني مُنَعمة البال وهادئة. حاولت أن أمد بمحازاة جسور الماضي جسورًا أخرى من الإنكار والتغافل والتسامح، لكنها لم تستطع أن تصل بيني وبينه، لم تهدِني إليه. لم تمنع الغريبات من حمل أنوثتهم وغرائزهم، من التجول في المدنية التي أهداني إياها يومًا ما، والعبث بمعالمها وطرقها التي ظننت يومًا أنها لي، خُلقت لي. الغيرة كانت تأكلني وتلتهمني، كما تلتهم النار الورق. ولم يبقَ منها سوى رمادٍ يتطاير أمام عيني في كل مكان. فأبكي وأبكي، عَلَني أطهر عيني منها. كيف تكون المرأة عادلة وهي تدين الرجل بالخيانة؟ هل قلبها؟ إحساسها؟ أم عقلها؟ أم بنظراتها التي تتوه في مغارات عينيه وتبحث عن بر الأمان وهي تدور في دوامات نظراته غير المألوفة، التي تحكي أكثر بكثير مما قد يحكيه لسانه… ماذا إذًا عن الحب؟! ألم يكن ذات يومٍ هو السبب في أن تتجرد من ملابسها وتكتفي بذراعيه غطاءً؟ كيف إذًا في ميثاق الحب أن يتركها دون غطاء ويبحث عن أخريات تلتف حول أجسادهن ذراعاه ويتركها تواجه صقيع المشاعر بلا غطاء؟ أين أنت من كل هذا أيها العقل؟! ألم تكن أنت حارس القلب الشخصي؟! ألا يحتاج الحب بعض المنطق؟! إذا لم يكن في البداية مجردًا من المنطق. نعم! حقا! في كل الأحيان نحتاج للعقل، فهو السلاح ودليل الخيانة والألم. هو البرهان الذي يعزز الإحساس. ومن هنا يأتي القرار. لا قرار دون عقل ولا إحساس دون قلب، لابد أن يتشاركا حتي لا يأتي يومٌ ويتنازعا بكل ضراوة ويلقي كل منهم العتب على الآخر. وفي لحظة صدق، لحظة حقيقة، واجهت الجسر. قررت اختباره، أن أعبر من خلاله إليه. وحلمت به يقف على طرفه الآخر يفتح ذراعيه بكل شوق، بفيض من الحب. تعانقني عيناه قبل أن أقترب منه. خطوت أول خطوة، والثانية والثالثة، خطوات صغيرة مرتعشة. بدأت الألواح الخشبية تهتز تحت أقدامي تتراقص. تختل. خطواتي تتعثر. طيور البحر تحوم فوقي، تأتي وتذهب. تشرد من أسرابها، وكأنها تنبهني. تحذرني. تذكرني. إن سقطت لا يمكنني أن أطير مثلهم. فجأة، وقبل أن أرى كم كانت الحبال ضعيفة وواهنة، بدأت أوصالها تتقطع. تمسكت بكل قوة بالخيوط الرفيعة المتبقية، أحاول بكل جهد أن أصل الطرفين بعضهم ببعض. أصوات الطيور تعلو. والأمواج المتلاطمة تعتلج. الهاوية سحيقة. كيف سأصل إليه؟ هل سيتبقى مني شىءٌ؟ هل أعود من حيث أتيت؟ أم أكرر المحاولة؟ لكن، أنا لا أريد أن أسقط. أريد أن أنجو بنفسي. أن أعود لنفسي، أُطهر ثوبي الأبيض من دنس خيانته، ولا أسمح لها أن تلطخني بالاستسلام. حطمت الجسر. تعلقت بطرفه غير المُعتم النظيف. تمسكت به جيدًا. تأرجحت يمينًا ويسارًا ليحملني سالمة أو مدنفة ومعتلة، لذاتي، لروحي الضائعة في الطرف الآخر، حتي وإن تحطمت أظافري وأنا أتشبث بالجدار. وتألمت ساقاي وأنا أحاول الصعود بقوة وإصرار لأصل إلى مكاني، إلى بر أماني، إلى صفاء روحي ونقاء سريرتي. إنه الجسر الذي بناه وحطمته بنفسي قبل أن يتحطم ويلقي بي في حفرة غامضة ليس لها قرار، لا نجاة منها ولا ملاذ فيها.