غيمة نظر إلى غيمة في سماء خياله، فقال هذه قصّة.. جهّز ورقه وقهوته، ولبث يرقبها في صبر الصيّادين… تجهّم وجه السّماء، ثمّ ابتسم، ثمّ تجهّم، ثمّ ابتسم.. لكنّ الغيمة مرّت على أكفّ ريح مجنونة… مزّق ورقه وقال في نزق: تلك غيمة كاذبة، كغمام هذه المدينة ! ————— سمّ الخياط أرسل بصره إلى بعيد، فتراءت له الدّنيا غائمة في سراب بقيعة.. نظر إلى كفّه، إلى خطوط قميصه، فخيّل إليه أنّهما يغرقان في هالة من ضوء مختلفة ألوانها.. تنهّد تنهيدة عميقة حرّى تتفتّت لها الجبال، وقال بصوت متحشرج: "الموت أحبّ إليّ من العمى" ! ————— انتباه وهن عظمي، واشتعل رأسي شيبا وهمّا.. مع كل برهة تمرّ، تغلق الدّنيا بابا من أبوابها في وجهي.. وتزرع في جسدي المتهالك لغما من الألم، تربطه بسلسلة قاسية من عجز لا فكاك لي منه.. مع كلّ إغماءة تعتريني وما أكثرها، أحسب أنّ جواد العمر قد توقّف بي، أو هو على وشك أن يفعل ذلك.. أُغمض عينيّ في استسلام مشوب بأوجاع ما برحتني منذ سنين، فترسلني الذّاكرة إلى ماض كأنّه اليوم.. تنفجر الأصوات في مخيّلتي، ويتدفّق إليها شلاّل من الألوان.. إنّها أحداث قديمة تُبعث في نفسي من جديد، أعتصم بها وأظلّ عاكفا لها كالعابد المخلص.. مُرّ الأمس، يتحوّل إلى مفخرة تطرب لها نفسي.. كيف استطعت أن اجتاز تلك الأهوال وبقيت حيّا ؟ أيّة طاقة كانت تسكن بين جوانحي، استطعت بها أن أستمدّ كلّ ذلك الجلد، وكلّ تلك الرّغبة الجامحة في الحياة ؟ يا لها من سخرية مُرّة.. صخب الحياة الذي كان يعجّ في عروقي، ويحملني على معافسة الدّنيا طيلة تسعين حِجّة، مجرّد حلم جميل في منام قصير، أوشك أن أنتبه منه !! ——————– (*) المجموعة القصصيّة " التّيه"-