جبل القلعة.. الدهشة واليقين مِن علياء القلعة نطل على فضاء الأماني وزركشات الخافق المطرزة بهدب العيون.. فارداً صفحته البهية فوق المدى.. يرفرف كما الطير يحلو في عيون العاشقين.. هناك في مدارات الصقور ينزرع النوار والدحنون والشهداء وتاريخ أجداد حمّلونا شرف التفيؤ في ظلال الخافق الشغوف للعلى والمنى.. وهو يطلق الصبح فوق عمان، نبض حياة، لغدٍ يجمع العرب على وتين القلب والثورة الكبرى.. هو الخافق.. ترنيمة الحسين بن علي.. وشموس الديار التي تهب الفجر اقتراب الموعد وأشرعة المدى. وكأنما تخيرت دار الإمارة جبل القلعة عرين أسدٍ وعلياء شممٍ.. وشرعية تاريخ تضرب في الأحقاب والأزمان جذورها وجذوة ألقها.. وقد سيجت أركانها بإرث الحضارات فأبقت شواهدها أبراجا وأسوارا وقصورا ومعابدا ومصادر تجميع المياه.. وهي في كل ذرة تراب منها ترصد وتوثق للماضي التليد وتحتفي بأشرافها وإشراقتها بالغد القادم الموصول مجدا وسؤددا. من هنا فوق قمة بهية الطلة يعتريك قموص الحضارات والأحقاب.. هرقل كان هنا أطل من علياء المكان على قداسة الأرض العمونية فيا لجلال الشذى والندى والذكريات.. بأي عطر رُش هذا المدى وقد صنعت له الأسطور حارستها إلهة للحظ.. قلعة عمان تسكن الجبل وذاكرة الوطن، تحيط بها ملامح التاريخ، ورائحة التربة في صباحات الندى.. وهي تتزنر بسور عالْ يشمخ حارسا لها، ما تزال بعض مداميكة وبقايا الأبراج شاهدة على ضخامته في ركنه الشمالي.. وكأنها وشم حسناء طرزه الزمان فوق روابي عمان.. مدينة الحلم والانجاز التي ما كلت وهي توقظ العزائم وتضئ الدرب للسائرين في ركب البناء الإنساني والحضاري منذ بواكير العصور البرونزية إلى حاضرنا الأجمل وغدنا المأمول عطاء ومنجزا بحجم الطموح والعطاء الذي أعلت عمان سقفه فوق سدف الغمام. على القلعة قام المعبد كأنما يغازل أهداب النجوم فوقه، فعندما بناه الامبراطور الروماني أوروليوس أدرك أن اللغة العربية ستشعل صوت اللغات التي تناثرت حروفها فوق المكان.. فها هي بقايا معبد هرقل تقف حجة على الزمان العماني الذي ربح الرهان، إذ لا فراغ في الذاكرة يشي بفراغ المكان.. ففيلادلفيا مدينة المرمر والعذارى والحظ في عيون روما، استحالت مدينة الألق والمعابد للآله الحامي هرقل، وإلهة الحظ تايكي.. فقد أنبأ نقش عمو ندب أن الدنان في عمون ملأى والأهراء يطفح من جنباتها القمح والحبوب والطحين.. ذللت المجهول وأقسمت أنها لن تخذل أصحابها، وأن الله مدرك ناسها وأرضها بالخير والغمام والرجال. وفوق جبل القلعة يقترب الزمان بكل تفاصيله فمن الكنيسة البيزنطية إلى القصر الأموي إلى المعابد الرومانية.. بنيان علا فوق بنيان، وكأنما يسلسل التاريخ ذاته ليوقظ الزمن الأردني الحديث بعزائم الهواشم في دار الإمارة التي قامت على أساسات التاريخ فانهمر المكان فرحاً وأغنيات. في عام أحدى وخمسين من القرن الماضي احتضنت متحف الآثار الأردني.. الذي تطاولت اللقى والموجودات الأثرية كبرياء وهي تعرض فيه.. فهل ثمة حقبة من الزمان غفت واختفت من إيقاع اللحن الموصول من العصور الحجرية حتى التاريخ الحديث؟ فلقد عرفت جدران المتحف وخزائنه كل اللغات والعصور والحضارات ووثقت لها بنفيس اللقى وناصح الدلائل.. فذاكرة المكان والتاريخ لا تشكو هذيانها بل تطرق باب الحلم والمجد موسيقى غفت الدنيا على قيثارته في حضرة فاتنة المكان تايكي، وهي تعلن عن نفسها في حديقة المتحف الذي يرحل بالمكان إلى أقدم التماثيل البشرية التي عرفها الإنسان لتعود إلى ثمانية آلاف سنة إلى الوراء حيث كشفت حفريات عين غزال عن هذا الكنز الكبير، ويتسابق التاريخ بزهو في تقديم نفسه فمن نقش تل سيران العموني إلى لفائف تل قمران إلى اللقى النبطية والإسلامية المنقوشة ببواكير الحرف العربي والمزركشة بالخطوط الاسلامية على أنواعها. ويعلو بك صدح المكان يماماً تاق إلى رائحة الطين والخلق الأول.. ويوقظ ذكريات تتجمهر جذلة على المدى المترامي فوق السماء العمانية.. تأخذك فيها قصة البدايات.. ومفردات قواميس الأزمنة التي سلّمت نفسها سنامَ المجدِ.. لتهيم عشقاً في بوح القطا والسنونو وعن امتشاق القلعة تلاوين المواسم وبهاءها.. فجالت بنبوءاتها وتعاويذها قروناً تتقلب الحضارات واللغات والشعوب كما الحجيج على عتباتها. في ذلك المشهد الأكثر بهاء، تقترب المسافات بين عمان الحداثة وعمان الأصالة.. وتتأنق نجوم السماء كل مساء لتلقى أرجوان الجمال الغارق في عماراتها وطرقاتها.. ويتنفس التاريخ بهاء وأنوارا تشعل القلعة والمدرج الروماني وسبيل الحوريات والجامع الحسيني.. فعلى ذاك الجبل يسرج التاريخ أعنة خيله ويمتطي صهوة القرون ليمضي في دروب الذكريات حيث تتهادى القبسات النورانية؛ الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية فوق جبال عمان وروابيها التي تتوضأ بالطهر وأزهار اللوز.. . يتبع في العدد المقبل من النشر أ.د. سلطان عبدالله المعاني أكاديمي وكاتب عربي المملكة الاردنية الهاشمية إنهاء الدردشة