أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الإثنين 12-5-2025 بسوهاج    بعد انتهاء محادثات الصين وأمريكا، انخفاض أسعار الذهب عالميا    تعرف على أسعار اللحوم البلدى اليوم الإثنين الموافق 12-5-2025 فى سوهاج    أسعار سبائك الذهب 2025 بعد الانخفاض.. «سبيكة 10 جرام ب 54.851 جنيه»    إعلام فلسطيني يعلن موعد الإفراج عن الأسير مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر    رئيس المستشارية الألمانية: وقف إطلاق النار يجب أن يسبق المحادثات مع روسيا    موعد مباراة النصر والأخدود والقنوات الناقلة مباشر في الدوري السعودي    دون إصابات.. السيطرة على حريق بمركز ساقلتة بسوهاج    تفاصيل جديدة عن فيلم مارفل Avengers Doomsday    أغنية مش مجرد حب لرامي جمال تقترب من تحقيق مليون مشاهدة (فيديو)    المطورين العقاريين: القطاع العقاري يُمثل من 25 إلى 30% من الناتج القومي    ما شروط وجوب الحج؟.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    أمن الإسماعيلية: تكثيف الجهود لكشف لغز اختفاء فتاتين    بينهم أطفال.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين في حادثين منفصلين بالأقصر    المجلس الوطني الفلسطيني: قرار الاحتلال استئناف تسوية الأراضي في الضفة يرسخ الاستعمار    تزامنا مع زيارة ترامب.. تركيب الأعلام السعودية والأمريكية بشوارع الرياض    لبنى عبد العزيز لجمهورها: الحياة جميلة عيش اليوم بيومه وماتفكرش فى بكرة    زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب جنوب غربي الصين    حكم اخراج المال بدلا من شراء الأضاحي.. الإفتاء تجيب    أمريكا تعلق واردات الماشية الحية من المكسيك بسبب الدودة الحلزونية    وفري في الميزانية واصنعيه في البيت، طريقة عمل السينابون    بعد ضم 5 نجوم.. 3 صفقات سوبر منتظرة في الأهلي قبل كأس العالم للأندية    الصراع يشتعل على المقاعد الأوروبية.. جدول ترتيب الدوري الألماني    أصالة تدافع عن بوسي شلبي في أزمتها: "بحبك صديقتي اللي ما في منك وبأخلاقك"    حقيقة وفاة الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق    مدير الشباب والرياضة بالقليوبية يهنئ الفائزين بانتخابات برلمان طلائع مصر 2025    جيش الاحتلال ينفذ عمليات نسف كبيرة فى رفح الفلسطينية جنوبى قطاع غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الاثنين 12 مايو    المهندس أحمد عز رئيسا للاتحاد العربى للحديد والصلب    خاص| سلطان الشن يكشف عن موعد طرح أغنية حودة بندق "البعد اذاني"    عمرو سلامة عن مسلسل «برستيج»: «أكتر تجربة حسيت فيها بالتحدي والمتعة»    عمرو سلامة: «اتحبست في دور المثير للجدل ومش فاهم السبب»    البترول تعلن شروطها لتعويض متضرري "البنزين المغشوش"    تكليف «عمرو مصطفى» للقيام بأعمال رئيس مدينة صان الحجر القبلية بالشرقية    ملخص أهداف مباراة الاتحاد والفيحاء في دوري روشن السعودي    حبس وغرامة تصل ل 100 ألف جنيه.. من لهم الحق في الفتوى الشرعية بالقانون الجديد؟    عاجل- قرار ناري من ترامب: تخفيض أسعار الأدوية حتى 80% يبدأ اليوم الإثنين    عاد إلى إفريقيا.. الوداد يحسم مشاركته في الكونفدرالية بفوز في الجولة الأخيرة    نجم الزمالك السابق: تعيين الرمادي لا يسئ لمدربي الأبيض    تبدأ في هذا الموعد.. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي بمحافظة أسوان 2025 (رسميًا)    ندوة "العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فتاوى دار الإفتاء المصرية" بالمركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي    وزيرا خارجية الأردن والإمارات يؤكدان استمرار التشاور والتنسيق إزاء تطورات الأوضاع بالمنطقة    مشاجرة عائلية بسوهاج تسفر عن إصابتين وضبط سلاح أبيض    3 أبراج «مكفيين نفسهم».. منظمون يجيدون التخطيط و«بيصرفوا بعقل»    وفاة طالب بطهطا بعد تناوله قرص غلة بسبب خلافات أسرية    «انخفاض مفاجئ».. بيان عاجل بشأن حالة الطقس: كتلة هوائية قادمة من شرق أوروبا    عاصفة ترابية مفاجئة تضرب المنيا والمحافظة ترفع حالة الطوارئ لمواجهة الطقس السيئ    بسبب ذهب مسروق.. فك لغز جثة «بحر يوسف»: زميله أنهى حياته ب15 طعنة    فلسطين.. الاحتلال يقتحم كفر اللبد ويعتدي على شاب من ذوي الإعاقة شرق طولكرم    مع عودة الصيف.. مشروبات صيفية ل حرق دهون البطن    حسام المندوه: لبيب بحاجة للراحة بنصيحة الأطباء.. والضغط النفسي كبير على المجلس    خبر في الجول - جاهزية محمد صبحي لمواجهة بيراميدز    مواعيد عمل البنك الأهلى المصرى اليوم الاثنين 12 مايو 2025    الاعتماد والرقابة الصحية: القيادة السياسية تضع تطوير القطاع الصحي بسيناء ضمن أولوياتها    هل هناك حياة أخرى بعد الموت والحساب؟.. أمين الفتوى يُجيب    جامعة بنها تطلق أول مهرجان لتحالف جامعات القاهرة الكبرى للفنون الشعبية (صور)    الإفتاء توضح كيف يكون قصر الصلاة في الحج    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيمان والعمل الصالح – فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
نشر في شموس يوم 10 - 11 - 2016


لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
التّرابط بين الإيمان و العمل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم : الإيمان والعمل ، وكيف أنّ الإيمان والعمل متلازمان تلازمًا وُجوديًّا ، بمعنى لو أنّ أحدهما فقِد فلا معنى للطّرف الآخر .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ منطلق الخطة من هذه المقولة : في اللّحظة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الإنسان يعبّر عن ذاته بالعمل ، يعبّر عن ذاته بالحركة ، فما من مؤمن في قلبه ذرّة من إيمان إلا وتجدُه يتحرّك نحو خدمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، ونحو النّصح للمؤمنين ، ونحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو إقامة الإسلام في بيته ، وإقامة الإسلام في عمله ، أما أن ينفصل العمل عن الإيمان ، أما أن يقول الإنسان : أنا مؤمن ولله الحمد ، ولا تجد في عمله حركةً نحْوَ خِدْمة الخلق ، ولا نحو الدعوة إلى الحقّ ، ولا نحو الأمر بالمعروف ، فالذي يشعر هذا الشعور السكوني ، والذي يكتفي بالمشاعر الدّينيّة على حدّ زعمه ، والذي يكتفي بهذا الإيمان على حدّ قوله ، ولا تجد في حياته حركةً نحو خدمة الخلق ، والدعوة إلى الحقّ فَمِثل هذا الإنسان ينبغي أن يضعَ على إيمانه إشارةً خطيرة .
أيها الأخوة الكرام ؛ يتوهّم الجاهلون ، يتوهَّمُ أعداء الدّين ، يتوهّم الساذجون من البشر أنّ الإيمان بالله واليوم الآخر ، يُميتُ في الإنسان الرغبة في العمل ، إنّ ما يُلقى في قلوب بعض الجهلة مِنْ أنّ الإنسان مسيّر وليس مخيَّرًا ، وأنّ الحياة الدنيا لا تستحقّ العمل والاهتمام ، إنّ هذا الوهم خاطئ ، وهذا التصوّر غير صحيح ، وهذا هو علَّة تخلّف المسلمين ، إن كانوا متخلّفين .
الإيمان أعظمُ دافعٍ إلى العمل :
أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة متألّقة وهي أنّ الإيمان أعظمُ دافعٍ إلى العمل ، فالإنتاج لا ينمو ولا يزداد إلا بما يبذلُ الإنسان فيه من جهد وعمل ، أساسه العلم والخِبْرة ، وما يصحب هذا العمل من إحكام وإتقان ، ولا يتحقّق هذا إلا بالأمانة والإخلاص ، جهدٌ وعمل ، وعلمٌ وخِبْرة ، وإحكامٌ وإتقان ، أمانة وإخلاص ، وهذا لا يكون إلا بِبَاعِثٍ قويّ ، وحافزٍ غلاب غلاب ، وهل هناك من باعثٍ أقوى ومن حافز أغلب من الإيمان ؟ الإيمان أكبر حافزٍ للعمل ، الإيمان أكبر دافعٍ إلى البناء .
أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة الإيمان بالله عز وجل ، والإيمان باليوم الآخر أنَّه ليس مجرّد إدراك ذهني ، ولا تصديق قلبي ، غير متبوعٍ بأثرٍ عملي ، إنّ حقيقة الإيمان اعتقادٌ وعملٌ وإخلاص .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ يا ترى هل العمل شرطٌ للإيمان ؟ هل العمل جزءٌ من الإيمان ؟ هل العمل ثمرةٌ من ثمار الإيمان ؟ إن اختلفْنا في إحدى هذه المقولات فإنّ علماء المسلمين يتّفقون على أنّ العمل والإيمان جزءان لا ينْفكّان عن بعضهما أبدًا ، النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الديلمي عن أنس رضي الله عنه :
(( ليس الإيمان بالتمنّي . . .))
[ الديلمي عن أنس]
لا يقول الإنسان : اللهمّ اجعلنا مؤمنين ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي . .))
التحلّي أن تضع في بيتك لوحةً فيها آيةً قرآنيّة ، أن تتزيّا بِزَيّ المسلمين ، أن تتماشى معهم في تقاليدهم وعاداتهم :
(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي ، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل ))
فإن لم يصدّق العمل الإيمان ففي الإيمان شكّ كبير .
مرّةً ثانيَة أقول ما قلتهُ في مطلع هذه الخطبة ، في اللّحظة لا في الساعة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الإنسان يُعَبِّرُ عن ذاته بالحركة نحو خِدْمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، الإيمان حركة ، الإيمان عملي ، الإيمان ظاهر ، الإيمان صارخ ، المؤمن يتحرّك ، المؤمن يعمل ، المؤمن يبني ، أما هذا الإيمان السكوني فهو في الحقيقة إيمانٌ مشْكوك في صحَّته .
سرّ الارتباط بين الإيمان و العمل الصالح :
أيها الأخوة الكرام ؛ ذكر القرآن الكريم الإيمان وذكر معه العمل الصالح في أكثر من سبعين آية ، ما سرّ هذا الارتباط ؛ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وردَت في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى لمْ يكْتفِ بِقَرْن العمل مع الإيمان ، بل قيَّد العمل بأنَّه صالح ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ هناك عملاً غير صالح ، ما من إنسان إلا ويعمل ، حركته في الحياة هي عمله ، وبحْثهُ عن رزقه هي عمله ، اسْتمتاعُهُ بما حوله عمله ، فما من إنسان إلا وهو يعمل ، لكنّ الله سبحانه وتعالى قرنَ الإيمان بالعمل الصالح ، وقال بعضهم : معنى العمل الصالح ، أي العمل الذي تصلحُ به الدنيا ، ويصلحُ به الدّين ، أو العمل الذي يصلحُ به الفرْد ، ويصلحُ به المجتمع ، أو العمل الذي تصلح به الحياة الماديّة ، والحياة الروحيّة ، فيا أيها الأخوة الأكارم ، هذا الإسلام العظيم ، وهذا الشرع الحكيم ، وهذا الدِّين القويم دينٌ شُمولي ، يشْملُ الدنيا والآخرة ، يشمل الفرْد والمجتمع، يشمل قلب الإنسان ، ويشمل جسده ، ويشمل عقلهُ ، هذا المنهج الإلهي كما وصفهُ الله عز وجل في قوله تعالى :
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
[ سورة المائدة : 3 ]
هذا المنهج الإلهي منهجٌ شمولي ، وقد فسَّر بعضهم قوله تعالى :
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
[ سورة المائدة : 2]
البرّ صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، والإثم اقتراف المعصيَة ، والعدوان أن تعتدي على الآخرين ؛ على حقوقهم الماديّة ، وحقوقهم الأدبيّة ، فهذه الآية من جوامع القرآن الكريم ، قال تعالى :
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
[ سورة المائدة : 2]
وكلمة الإيمان والعمل الصالح وردَتْ في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية ، وقد قيَّدَ الله العمل بأنَّه صالح ، أيْ تصلحُ به الدنيا ، وتصلح به الآخرة ، يصلحُ به جسد الإنسان ، وتصلحُ به نفسهُ ، ويصلحُ به عقلهُ ، يصلح به الفرد ، ويصلح به المجتمع ، تصلحُ في الإنسان قواه الروحيّة ، وقواه الماديّة .
دَوْر العمل في حياة المؤمن :
أيها الأخوة الكرام ؛ دَوْر العمل في حياة المؤمن هو انطلاق اختياريّ نحْوَهُ وليس المؤمن يُساق إلى العمل ، كما تساق القطعان إلى أعمالها ، ولا يُساق إلى عمله بِقُوّة قاهرة ، ولا بضغط خارجيّ أو داخليّ ، إنّ المؤمن يتحرّك نحو العمل الصالح بِدافعٍ ذاتي نابعٍ من إيمانه ، إذا عرف الإنسان حقيقته ، وسرّ وُجوده ، واسْتِخلاف الله له في الأرض ، والأمانة التي كلِّفَ بها، والرسالة التي حمِّلها ، إذا عرف الإنسان حقيقته انطلق بدافعٍ ذاتيّ إلى العمل ، عندئذٍ لا يحتاج إلى دافعٍ خارجي ، لا يحتاج إلى قهر ، ولا إلى سَوقٍ ، ولا إلى ضغْطٍ ، ولا إلى تضْييق، ينطلق الإنسان بِدافعٍ من ذاته إلى خدمة الخلق ، وإلى الدعوة إلى الحقّ ، حتى إلى إحسان عمله المهني .
أيها الأخوة الكرام ؛ لا تصلح الدنيا إلا بالإيمان ، فما من عملٍ مادي خالطهُ الإيمان إلا كان متقنًا ، وكان صاحبهُ مخلصًا ، وكان أميناً ، وكان وفِيًّا ، وما من عملٍ دنْيوِيّ ابتعَدَ عنه الإيمان إلا لابسَهُ الغشّ ، والتزوير ، والمبالغة ، لابسَهُ مخالفة أحكام القرآن الكريم.
أيها الأخوة الكرام ؛ ألا تكفينا هذه الآية :
﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة الزخرف : 72]
الدّين اتِّصال بالخالق وإحسان إلى الخلق :
أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة أساسيّة أضعها بين أيديكم ، الله سبحانه وتعالى لمْ يجْعل الجنّة حِكْرًا لفئة دون أخرى ، ولم يجعل الجنّة التي وعدَ بها المتّقين لِمُجرّد الانتماء الشكلي إلى دين أو إلى آخر ، قال تعالى :
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
[ سورة الكهف : 110]
القرآن كلّه لُخِّصَ بهذه الآية :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف : 110]
قال علماء التفسير : إنّ الله سبحانه وتعالى ربطَ الرجاء بِرَحمتهِ ، ربط هذا الرجاء بالعمل الصالح ، قال تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف : 110]
وقال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 111]
والله سبحانه وتعالى لا يتعاملُ مع عباده بالأمانيّ قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 111]
ما برهانكم على انتمائكم لهذا الدّين أو ذاك ؟ إنّه العمل الصالح ، قال تعالى :
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 111]
أرأيتم إلى هذه الآية أيها الأخوة ؟ كيف أنّ الله سبحانه وتعالى لخَّصَ الدِّين كلّه الذي يؤهِّلُ صاحبه إلى الجنّة ، لخَّصَهُ بِكَلمتين ؛ إسلام الوجه لله عز وجل ، الوِجْهة إلى الله والاتّصال به ، وهو مُحسنٌ ، هذه الآية تقابلها آية أخرى ، قال تعالى :
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
[ سورة مريم : 31]
إذا أردْتم ضغط الدِّين في كلمتين ؛ إنَّه اتِّصال بالخالق ، وإحسان إلى الخلق ، إنّه صلاة في الوِجهة ، وزكاة في العمل ، إنَّه إسلام الوجه لله عز وجل ، والإحسان في العمل ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
[ سورة البقرة : 111]
ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي :
أيها الأخوة الكرام ؛ روى المفسّرون أنّ مَجْلسًا ضمَّ جماعةً من اليهود ، وجماعة من النصارى ، وجماعة من المسلمين في عهْد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فزعَمَتْ كلّ جماعةٍ أنّها أوْلى بِدُخول الجنّة ، فقال اليهود : نحن أتْباعُ موسى ، اصطفاه الله برِسالاته وبِكلامه ، وقال النصارى : نحن روح الله وكلمته ، وقال المسلمون : نحن أتباع محمد خاتم النبيّين ، وخير أمّة أخرجت للناس ، عندئذٍ نزلَت آيات من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم حاكمةً فاصلة ، قاضِيَةً عادِلَة ، خاطَبَت المسلمين في صراحةٍ واضحة ، قال تعالى :
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾
[ سورة النساء : 123-124]
آيةٌ حاكمةٌ فاصلة ، واضحة عادلة ، قاضية مفصّلة ، ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب ، أيْ أيها المسلم لا تقل : أنا مسلم ، مصيري إلى الجنّة ، ولا تقل : أنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم سيّد الأنبياء والمرسلين ، ولا تقل : أنا من أمّ وأبٍ مسلمَين ، لا تقل: أنا من الأمّة التي فضَّلها الله على العالمين ، من الأمّة التي هي خير أمّة أخرجت للناس ، لا تقل هذا الكلام ، قال تعالى :
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾
[ سورة النساء : 123]
كُنْ مَن تَكُن ، كنْ من أيّ دينٍ شئت ، قال تعالى :
﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾
[ سورة النساء : 123-124]
الإيمان والعمل الصالح ، ليس الإيمان بالتحلّي ، ولا بالتمنّي ، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل .
إتقان العمل جزءٌ لا يتجزَّأ من الدّين :
أيها الأخوة الكرام ؛ متى ينجحُ العمل ؟ نجاح العمل في إتقانه ، وكلّكم يرى أنّ الشيء المُتقن لا تبور سوقه ، ولا يفتقد من يرغبُ فيه ، وأنّ الشيء غير المتقن هو الذي يكسد، فلذلك يجب أن نؤمن نحن المسلمين أنّ إتقان العمل جزءٌ من الدّين بل جزءٌ أساسيّ من الدّين ، وكأنّي بهذا القانون لو طبّقَهُ الكفار لقطفوا ثمارهُ ، لو طبّقه من أنكر وُجود الله لقطف ثماره ، إتقان العمل جزءٌ لا يتجزَّأ من الدّين ، بل هو من صُلْب الدِّين ، لأنّ الله سبحانه وتعالى كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام :
((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ، يجب أن تحسن حتى لو ذبحْت شاةً ، فإذا ذبح أحدكم ذبيحته فلْيُحِدَّ شفرتهُ ولْيُرِح ذبيحته ))
[مسلم عن شداد بن أوس]
الآن ما سرّ الإحسان ؟ ما دام الله سبحانه وتعالى كتب الإحسان على كلّ شيء، أي يجب أن تحسن في كلّ شيءٍ ، في عملك المهني ، في علاقاتك الخاصة والعامّة ، في كلّ شيء ، معنى ذلك أنّ الطريق إلى الإحسان ، قال عليه الصلاة والسلام الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، أصحاب الحرف ؛ لو أنّ كلّ صاحب حِرْفةٍ وهو يعمل شعر أنّ الله مطّلعٌ عليه ، يراقبُه ، الطبيب في عيادته ، والمحامي في مكتبه ، والتاجر في دكانه، والموظّف في دائرته ، وربّ البيت في أسرته ، والمرأة في بيت زوجها ، والخادم في معمل سيّده ، إذا شعر كلّ مؤمن أنّ الله يراقبهُ ، ويطَّلِعُ عليه فهذا أحد أسباب الإحسان ، من أين يأتي الغشّ ؟ حينما يشعر هذا الإنسان أنّ أحدًا لا يراقبهُ ، وأنّ هذا الإنسان ضعيف ليس بإمكانه أن يكشف الغشّ ، أما حينما يشعر كلّ إنسان أنّ الله معه يراقبهُ ، وأنّ حرْفَتهُ أمانةٌ في عنقه ، وأنّ هؤلاء الذين وثقوا به وكيلهم الله عز وجل ، وسوف يحاسبه الله عز وجل عنهم ، لم أهْمل ؟ لم دلّس ؟ لم أوْهم ؟ لم غشّ ؟ لم وصف وصفًا غير صحيح للبضاعة حتى بيعَتْ بأسعار غالية ؟ حينما يشعر الإنسان أنّ الله مُطّلعٌ عليه ويراقبهُ ، النتيجة الحتميّة الطبيعيّة أن يحْسِنَ في عمله ، الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))
[ الطبراني عن عائشة]
وفي آية أخرى تلفت نظر المؤمنين ، قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
[ سورة النساء : 58]
لمَ جاءتْ الأمانات جمعًا ؟ لأنّ هناك عشرات الأمانات في حياة الإنسان ، ابنك أمانة في عنقك ، زوجتك أمانة في عنقك ، هذا المريض أمانة في عنق الطبيب ، هل أخلص له؟ هل دلّهُ على اختِصاصيّ ينفعُه في مرضه أم أبقاهُ عنده ليبْتزّ مالهُ ؟ هذا المحامي هل نصحَ موكِّلَهُ أم ابْتزّ مالهُ ؟ هذا الصانع هل غشّ بِصَنعتِهِ فجمَّعَ ثرْوةً طائلة أم نصح المسلمين في بضاعتهم ؟ قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
[ سورة النساء : 58]
فأيّ شيءٍ في حياتك هو أمانةٌ في عنقك ، إما أن تغشّ الناس وإما أن تنصحهم، إما أن تحسن وإما أن تسيء ، إما أن تصدق وإما أن تكذب .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ وتكفينا هذه الآية الكريمة ، قال تعالى :
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة التوبة : 105]
يا أيها الأخوة الكرام ؛ نجاح العمل في إتقانه ، وإتقان العمل يحتاج إلى مراقبة الله عز وجل ، فإذا عبدْت الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك قادكَ هذا الإيمان إلى إتقان عملك ونجاح عملك ، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله معه حيث كان ))
[ البيهقي عن عبادة بن الصامت]
والإنسان لا يستقيم على أمر الله إلا إذا شعر أنّ الله يراقبه ، وأنّ كلّ من حوله أمانةٌ في عنقه ، وسوف يسأَلُ عنه ، وأنّ الله سبحانه وتعالى وكيلُ كلّ الخلق ، فإذا جاءك طفلٌ صغير ليَشْتري حاجةً ، هذا الطّفل الصغير من الجهل ومن السذاجة بحيث لا يستطيع كشف ما في البضاعة من غشّ أنت كمُؤْمِن يجب أن تشعر أنّ الله وكيل عنه .
الفرق بين النّظام الديني والنّظام المدني :
لذلك قالوا : بين النّظام الديني والنظام المدني فرْق كبير جدًّا ، هو أنّ النِّظام الدّيني الله سبحانه وتعالى بين كلّ شخصين ، وأما النظام المدني فالأقوى يأكل الأضعف ، النِّظام الدّيني الله سبحانه وتعالى بين كلّ شخصين ، على مستوى الأسرة ربّما تقرَّب الزوج إلى الله عز وجل بِصَبْره على زوجته وخِدمته لها ، وربّما تقرّبت الزوجة إلى الله عز وجل بِصَبْرها على زوجها وخدمتها له ، إذًا بين الزوجين ربّ العالمين ، وبين البائع والشاري ربّ العالمين ، وبين الطبيب والمريض ربّ العالمين، وبين المحامي والموكّل رب العالمين ، وبين المواطن والموظّف رب العالمين ، فإذا ضعف الإيمان أكل الأقوى الأضعف ، هذا سرُّ نجاح النظام الدّيني ، وسرّ إخفاق الأنظمة الوَضْعِيَّة ، في الأنظمة الوضْعِيَّة الأقوى يأكل الأضعف ، والأذكى يأكل الأغبى ، ولكن في النظام الدّيني مهما كنت ضعيفًا فالله وكيلك ، ومهما كنت ذكيّا فالله يراقبك .
عوامل نجاح العمل :
أيها الأخوة الكرام ؛ أحد عوامل نجاح العمل في حقل الدّين أنّ المؤمن يتمتَّع بِسَكينةٍ ما بعدها سكينة ، المؤمن يتمتّع بسَكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، وانشراح الصَّدْر ، وبسْمة الأمل ، ونعمة الرضا ، وحقيقة الأمن ، وروح الحبّ ، وجمال الصفاء ، هذه هي صفات المؤمن ، وهذه الصّفات هي التي تبْدِع ، هي التي تُسبِّبُ النجاح في العمل ، وهذا شيءٌ ملاحظ، فالطالب المؤمن أنْجَحُ في دراسته من الطالب غير المؤمن ، ذهنهُ صافٍ ، ونفسهُ مطمئنّة ، وثقته بالله كبيرة ، بينما الطالب غير المؤمن موزَّع النفس بين الشهوات ، مُشتَّت القلب، متشائمٌ في أكثر الأحيان ، يائس في معظم الحالات ، الإنسان غير المؤمن شاردٌ ، مضطرب ، قلق ، يائسٌ ، حاقدٌ على الناس ، والعمل يحتاج إلى صفاء ، وإلى سكينة ، وإلى إبداع ، وإلى ثقة وتفاؤُل .
شيء آخر أيها الأخوة ، المُلاحظ أنّ المؤمن لأنَّه مستقيم ، وقّافٌ عند حدود الله، يأْتَمِرُ بما أمر الله ، وينتهي عما عنه نهى ، ينْأى بنفسه عن ارتكاب الموبقات ، والانغماس في أوْحال المحرّمات ، يأبى عليه أن يفرِغَ طاقته فيما حرمه الله عز وجل ، فطاقاته مَصونة ، وإمكاناته محفوظة ، وعضلاته قويّة مفتولة ، وذهنهُ صافٍ متَّقِد ، وأعصابه مطمئنّة مرتاحة ، لذلك في العالم الغربي والعالم الشرقي ، أو في العالمين الشاردين عن الله عز وجل ، في عالم الانحلال ، وعالم القهْر ، في هذين العالمين الشهوات المحرّمة تستهلكُ كلّ الطاقات ، في بعض الإحصاءات ورد أنّ اثنين وسبعين مليون إنسان في بلد غربيّ يتعاطَوْن الخمور ، وأنّ هذه الخمور تكلّف الدولة ما يزيد عن بليونين من العملات الصعبة لأنّ هؤلاء الذين شربوا الخمور تعطّلوا عن الأعمال ، واحتاجوا إلى المصحّات .
أيها الأخوة الكرام ؛ بعض الدُّوَل العظمى التي تفكَّكَتْ قبل أن تتفكَّك حرَّمت الخمر ، كَمُجتمع المسلمين ، والمجتمع النظيف ، المجتمع الساكن سكون الرضا ، المجتمع الواثق بالله عز وجل ، هذا مؤهَّل لِكُلّ إنجازٍ عظيم ، فإذا قصَّرنا في العمل فهذه وصْمة عارٍ في حقّنا .
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :
مرة ثانية وأخيرة : حجمك عند الله بِحَجم عملك ، " يا بشْر لا صدقة ولا صيام ولا جهاد فبِمَ تلقى الله إذًا " كلّ واحد يسأل نفسه هذا السؤال : ما العمل الذي ألقى به الله غدًا ؟ ما العمل الذي أضعهُ بين يديّ عندما ألقى ربّي ؟
أيها الأخوة الكرام ؛ قلتُ هذا كثيرًا ، وسأُعيدُه مرَّةً ثانية : حرفتك ، مهنتك التي ترتزق منها ، إذا كانت مشروعةً في الأصل ، ومارسْتها بِطَريقة مشروعة ؛ لا كذب ، ولا تزوير، ولا مبالغة ، ولا إيهام ، ولا غشّ ، إذا كانت في الأصل مشروعةً ، ومارسْتها بِطَريقة مشروعة ، وابْتَغَيتَ منها كفاية نفسك ، وكفاية أهلك ، وخدمة المسلمين ، ولم تشْغلْك عن فريضة دينيّة ، ولا عن مجلس علم ، ولا عن عملٍ صالح ، حرفتك تلك يمكن أن تنقلب إلى عبادة تلقى الله بها ، وقد تدخل بها الجنّة ، إذا أتْقنْتَ عملك ، ونفعت المسلمين ، لذلك كان السلف الصالح إذا فتحوا دكاكينهم يقول أحدهم : نوَيْتُ خدمة المسلمين .
أيها الأخوة الكرام ؛ الأعمال المباحة بالنوايا الطيبة تنقلب إلى عبادات ، أنت إذا آمنْتَ إيمانًا كبيرًا انقلبَت حرفتك إلى عبادة ، انقلبَ بيتك إلى مسجد ، انقلب عملك من أجل أهلك وأولادك إلى عمل صالح ، وأن تضع اللّقمة في فم زوجتك هي لك صدقة .
عودٌ على بدء : في اللّحظة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الرجل ، هذا الإيمان يعبّر عن نفسه بالعمل ، وبالحركة نحو خِدمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، فمن شعر أنّه سكوني ، وأنّه يكتفي بالانتماء إلى هذا الدّين ، وأنّه يكتفي بالمشاعر الإيمانيّة ، يكتفي بالقناعات الفِكريّة ، هو في واد وعملهُ في واد ، مثل هذا الإنسان يجب أن يقلق ، ويجب أن يضع إشارة استفهام كبيرة على إيمانه لأنّ الجنّة لا يستحقّها الإنسان إلا بالعمل الصالح .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ؛ الكيّس من دان نفسه وعمل إلى ما بعد الموت ، والعاجز من أتبَع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تفسير قوله تعالى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ :
أيها الأخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم ، وفي سورة الحاقّة بالتحديد آيةٌ كريمة تلفتُ النظر ، وهي قوله تعالى :
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الحاقة : 38-39]
فما هو الذي لا نبصرُه ؟ قال العلماء : في عشرينِيّات هذا القرن ، كان علماء الفلك يعتمدون في دراساتهم على الضوء المرئيّ ، آلات من الأجرام فقط ، النجم الذي له ضوءٌ يصلنا هو النجم الموجود ، وما كانوا يعتقدون أنّ هناك نجومًا لا نراها ، ثمّ اكْتشفوا فجأةً أنّ حقيقة الضوء حركة مَوْجِيَّة ، وأنّ لون الضوء يعتمد على طول هذه الموجة ، وأنّ العين البشريّة لا تستطيع أن ترى من طول هذه الأمواج إلا ما بين أربعة آلاف بوحدة قياس الموجة وسبعة آلاف ومئتين ، بين هذين التردّدَين المَوْجِيّيْن الإنسان يرى ، وقبل هذا التردّد وكذا بعده لا يرى ، فإذا وقع الضوء خارج هذين الحدّين البنفسجي أربعة آلاف وحدة ، والأحمر سبعة آلاف ومئتان، إذا وقعَت تموُّجات الضوء قبل أو بعد هذين الحدَّين فإنّ الشيء مع أنَّه موجود لا يُرى ، لذلك هناك الأشعّة التي وراء البنفسجيّة لا نراها ، الأشعّة السينيّة ، أشعة غاما النافذة لا نراها ، والأشعة التي تحت الحمراء ، الموجات الدقيقة لا نراها ، الموجات الإشعاعيّة لا نراها ، فالعين لا ترى إلا في حدود ضيّقة جدًّا ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى قال :
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الحاقة : 38-39]
بِتَفسير أبسط هناك كائنات لا نراها ، فالجراثيم لا نراها ، الفيروسات لا نراها ، هناك ما وراء حدود رؤيتنا ، إذًا يجب أن نؤمن أنّ الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل والتي لا نراها ربّما كانت أكثر عدَداً وأعظم شأناً من التي نراها ، لذلك وردتْ هذه الآية الكريمة لِتَلفِتَ نظر المؤمن إلى أنّ هناك آيات كثيرة لا نراها ، قال تعالى :
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الحاقة : 38-39]
وحدِّثْ الشيء نفسه عن السَّمع ، هناك أصوات لا نسمعها بين عتبتين ، وهناك أشياء لا نلمسُها ، فربّنا سبحانه وتعالى قال :
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾
[ سورة القمر : 49]
بالقدر المناسب ، وبالقدر الحكيم ، وبالقدر الذي لا يزْعج ، ولا يؤذي ، فلو أنّ الله سبحانه وتعالى رفع عتبة الحواسّ في الإنسان إلى درجة أعلى لأصبحَت حياة الإنسان جحيمًا ، أقلّ شاهدٍ على ذلك أنّ كيس الماء الصافي الذي تنعم بِصفائه ومذاقِهِ ، لو رأيتَ ما فيه من الكائنات الحيّة لعافَتْ نفسُكَ أن تشربهُ ، فالحدّ الذي جعله الله في الرؤية حدًّا مناسبًا ، وحكيمًا ومعقولاً ، ولكن يجب أن تعلم أنّ هناك أشياء كثيرة لا تراها ، وأنّ من الحكمة ألا تراها ، ولكنّها آيات عظيمة دالّة على وُجود الله ، وعلى وحدانيّته ، وعلى عظمته .
أيها الأخوة الكرام ؛ كلّما جال فكركم في آيات الله الدالة على عظمته ارتقى إيمانكم ، أقول هذا مِرارًا وتَكرارًا : الكون بِسَمواته وأرضه ، والإنسان بِخَلقه المعجز ، بِطَعامه بِشَرابه ، بِتَوالُدِهِ ، وما حوله من نباتات ومظاهر طبيعيّة ، الكون أوْسعُ باب إلى الله ، وأقصر طريق إليه .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.