بالأسماء.. المقبولون في مسابقة 30 ألف معلم بالبحر الأحمر    ننشر النص الكامل لتعديل قانون مجلس الشيوخ    «شوف مدينتك».. جدول مواعيد الصلاة في المحافظات غداً الأحد 25 مايو 2025    سعر الذهب اليوم السبت 24 مايو 2025 وعيار 21 بالمصنعية في الصاغة.. آخر تحديث    رئيس الوزراء يسلم عددا من عقود «سكن لكل المصريين» بمدينة أكتوبر الجديدة    وزير البترول ومحافظ الوادي الجديد يفتتحان محطة تخفيض ضغط الغاز الطبيعي الدائمة    «رغم المخاوف بشأن النفايات المشعة».. ترامب يتخذ قرارات ل«نهضة الطاقة النووية» الأمريكية    الاثنين.. وزير خارجية تركيا يزور روسيا لمناقشة حرب أوكرانيا والأوضاع في سوريا    لازاريني: مخطط الإمداد الإسرائيلي المقترح في غزة لن ينجح    الفريق أحمد خليفة يعود لأرض الوطن بعد انتهاء زيارته الرسمية لفرنسا    "المادة R52"..الحقيقة وراء رفض المحكمة الرياضية الدولية لطلب بيراميدز وحالة استثنائية تنتظر الفصل    وصلة مدح من هيثم فاروق ل محمد صلاح بعد فوزه بجائزة الأفضل في الدوري الإنجليزي    تواجد وائل جمعة.. توقيت وتفاصيل حفل قرعة كأس العرب 2025 بمشاركة مصر    مراجعة مادة الدراسات الاجتماعية للصف السادس الابتدائي الترم الثاني 2025 عبر قناة مدرستنا (فيديو)    تحديثات حالة الطقس اليوم السبت وأهم التوقعات    حبس عاطل متهم باستدراج طفل والتعدي عليه بالحوامدية    سفر الفوج الأول لحجاج بيت الله الحرام من البحيرة    سقوط عصابة سرقة المواقع الإنشائية بالقاهرة والنيابة تحقق    إيرادات مرتفعة دائما.. تعرف على أرقام أفلام كريم عبدالعزيز في شباك التذاكر؟    الخميس.. قصور الثقافة تطلق قافلة ثقافية إلى قرية منية شبين بالقليوبية    المتحف القومي للحضارة المصرية يستقبل وفداً من الحزب الشيوعي الصيني    مدبولي: تدشين تطبيق "اسعفني" لتمكين المواطنين من طلب الخدمة غير الطارئة ب 13 محافظة    رئيس الوزراء يتفقد المركز القومي للتدريب بمقر هيئة الإسعاف المصرية.. صور    إقبال كثيف على صناديق الاقتراع في الجنوب اللبناني    مقال رأي لوزير الخارجية عن انعكاسات خفض التصعيد على أمن الملاحة في البحر الأحمر    رئيس وزراء كوت ديفوار يستقبل وفدًا من اتحاد الصناعات المصرية لبحث التعاون    ب3 من نجوم ماسبيرو.. القناة الأولى تستعد لبث "العالم غدا"    بطريقة خاصة.. رحمة أحمد تحتفل بعيد ميلاد نجلها «صاصا»    فضائل العشر من ذي الحجة.. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة    لتطوير البنية التحتية..الانتهاء من رصف عدة طرق بالواحات البحرية بتكلفة 11.5 مليون جنيه    دراسة: النوم بين الساعة 10 و11 مساءً يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب    بعد توليها منصبها في الأمم المتحدة.. ياسمين فؤاد توجه الشكر للرئيس السيسي    مطالبًا بتعديل النظام الانتخابي.. رئيس«اقتصادية الشيوخ»: «لا توجد دول تجمع بين القائمة والفردي إلا ساحل العاج وموريتانيا»    «فركش».. دنيا سمير غانم تنتهي من تصوير «روكي الغلابة»    الهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل تطلق حملة «تأمين شامل.. لجيل آمن» بأسوان استعدادا لبدء التطبيق الفعلي للمنظومة في المحافظة 1 يوليو المقبل    مستقبل وريثة عرش بلجيكا في خطر.. بسبب أزمة جامعة هارفارد وترامب    طاقم تحكيم مباراة البنك الأهلي والمصري في الجولة الثامنة للدوري    13 لاعبة ولاعبًا مصريًا يحققون الفوز ويتأهلون للربع النهائي من بطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    في ذكرى رحيل إسماعيل ياسين.. أحمد الإبياري يكشف عن بوستر نادر ل مسرحية «الست عايزة كده»    كواليس إحالة المتهمة بسب وقذف الفنانة هند عاكف للمحاكمة    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    لحظة أيقونية لمؤمن واحتفالات جنونية.. لقطات من تتويج بالأهلي ببطولة أفريقيا لليد (صور وفيديو)    "الشيوخ" يبدأ مناقشة تعديل قانونه.. ووكيل "التشريعية" يستعرض التفاصيل    احتفاء بتاريخ عريق.. رئيس الوزراء في جولة بين عربات الإسعاف القديمة    جامعة سوهاج: اعتماد 250 مليون جنيه لفرش وتجهيز مستشفى شفا الأطفال    التحقيق مع 3 عناصر جنائية حاولوا غسل 60 مليون جنيه حصيلة اتجار بالمخدرات    3 تحديات تنتظر بيراميدز أمام صن داونز في ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    محافظ أسيوط يزور جامعة بدر ويتفقد قافلة طبية مجانية ومعرضًا فنيًا لطلاب الفنون التطبيقية    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    وزير الري يوجه بتطهير مصرف البلبيسي بالقليوبية    لماذا يصل تأثير زلزال كريت إلى سكان مصر؟.. خبير فلكي يجيب    أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت 24 مايو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    البابا تواضروس يترأس القداس من كنيسة العذراء بمناسبة يوبيلها الذهبى    اليوم.. محاكمة متهمين ب«داعش العمرانية»    عمرو أديب: ليه العالم بيعمل 100 حساب لإسرائيل وإحنا مالناش سعر؟    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    القيعي: الأهلي لم يحضر فقط في القمة.. وقرارات المسابقة «توصيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عامر موسى الشيخ في الخامسِ والعشرين من أيلول
نشر في شموس يوم 13 - 10 - 2016

عامر موسى شاعر وأعلامي و روائي شاب في غاية الذكاء والفطنة التي جعلت بمستطاعه أن يكون مراسلاً صحفيا في فضائية الحرية وفضائية العراقية فكان لبقاً وحاذقا غير منزلقٍ في أية شاردة أو واردة . عامر من الجيل الألفيني ، بدأ محاولاته الشعرية منذ عام 2000 وهو اليوم شاعرُّ متميزُّ بشهادة الناقد جابر حسين ، ثم كتب سلسلة مقالات اجتماعية عن الهامش الثقافي أثمرت عن كتابه الموسوم ( مشكينو سماوي) ، ثم روايته موضوعة دراستنا هذه (الخامس و العشرون من أيلول ) . عامر يكتب الوجع العراقي بلارتوش و بلا تورية . ينطلق في روايته هذه من أنّ الإبداع الإنساني الذي يأتي من المخيال الخلاّق هو السائد في أغلب الأحيان وأما الطبيعةِ بدون ذلك الإبداع فهي صماء لانفقه منها شيئا.
عامر موسى في هذه الرواية المثيرة يعطينا سمفونية حزينة للغاية عن أغاني الخلق المتنوعة ، الأغاني التي تختلف في تلحينها ومعانيها وأهدافها، وكل أغنية تتحدث عن ألم يخص إنساناً قد أدى دوره في هذا الكون الشاسع بأكمل وجه ثم تعرض لأبشع أنواع القهر والتعذيب والتشريد على أيدي بني جلدته من الجلاوزة والمجرمين فجاءت الأغاني التي لحن نغماتها عامر بهذه الدراما المذهلة مع ما ألمّ بشخوص الرواية اليساريين الذين تحولوا إلى أبطال في تضحياتهم وقصصهم الغريبة العجيبة كما سنبين لاحقا .
الروائي عامر في روايته ( الخامس و العشرون من أيلول) مدار دراستنا هذه اشتغل على موضوعة أساسية في غاية الأهمية ومن دون دراية منه أو دراية ، على ذلك التفحص الذي كان يشتغل عليه الروائي الشهير نجيب محفوظ في أغلب رواياته ، ومنها يوم موت الزعيم ، حيث اشتغل بشكل عظيم على ذلك التفحص الخلاق بين السلطة والتاريخ والإنسان الفرد ، الإنسان المعذب على الدوام ، وفي الانطولوجيا الدينية يقول عنه ( الإنسان المبتلى) . ولذلك نرى الذات الإنسانية لا يمكن لها القرار والطمأنينة حتى تنال حقوقها ، وبالنتيجة هو صراع من أجل البقاء شئنا أم أبينا ، صراع كان أخويا في بدء الخليقة ، فلقبوا بالإخوة الأعداء ، ثم تطور الصراع مع ازدياد عدد البشر وتطور آلته فتحول إلى صراع قبلي ثم تحول اليوم إلى صراع دول وأمم وأديان وهكذا دواليك ، فنشأ نتيجة هذا الصراع الكثير من الآلام التي وصلت إلينا عن طريق ما كتبه المبدعون على مختلف العصور كما قرأناها في الإلياذة و الأوديسة لهوميروس . لكن أروع ما نقرؤه هو ما ينقل لنا عن تراجيديا فردية، دراما بطلها أشخاص معينون، و إلاّ ستكون واهية ضعيفة خالية من التشويق . كما وإن آلام الإنسان يشترك بها العديد من الناس ، لكن الذي يصل إلينا هو أسماء محدودة فقط ، يعني الذي يموت في الحروب آلاف بل الملايين ، لكننا نسمع عن أبطالها فقط ، وبقية الخلق تنتهي وكأنها مثلما القول الدارج ( بولُّ في نهر) ، هذه هي الحياة بكل تجلياتها و ما علينا سوى الرضوخ إليها بما هي . ولذلك راح عامر ينقل لنا هذه الدراما الحزينة بشكلها الذي نقرؤه اعتمادا على ما ذكرناه أعلاه ، هناك العديد من الثوريين الذين ضحوا بالغالي والنفيس لكننا نقرأ في رواية ( الخامس والعشرون) عن أبطال معينين ومن خلالهم نستطيع أن نعرف تأريخ تلك الحقبة الزمنية التي عاشوها وضحوا بأنفسهم في سبيل تحقيق العدالة التي نشدوها آنذاك ، فنقرأ هنا في هذه الرواية عن أبطال شيوعيين سجلوا أنفسهم في صفحات التأريخ ( كاظم ، وصفي ، علي) و ما كان من عامر سوى أن يكون هوميروس زمانه ، وماجد هو الآخر راوي زمانه .
الروائي عامر موسى استطاع أن يرسم النسبية في أخلاقيات البشر ، و لا يميل إلى فلسفة المطلق كما لدى المثاليين والأصولية الدينية التي تمتلك مفاتيح اليقين ، والتي هي سبب معاناة البشر في تعامله اليومي على الساحة الاجتماعية و السياسية على حد سواء ، عامر يكتب عن الموت والميلاد باعتبارهما وجهين لحياة واحدة ، فهناك موت في الأقبية والسجون وهناك أعراس لأناسٍ لها ارتباط وثيق لمن هم في السجون والمعتقلات ، يعني بعد كل موت هناك ميلاد ، فلا يمكن للطاغية أن يمسك بزمام كل ما يريده من مطلقياته لأنّ الحياة شئنا أم أبينا هي مبنية على النسبية لا المطلقية التي تؤدي إلى التناحر المستمر ، باعتبار إن كل الأطراف المتناحرة تمسك بعصا المطلق فكيف لنا التوافق حينها ، وهذا ما يحصل في شعوب الصومال وتناحرها العشائري المستمر حتى اليوم دون إيجاد حل يرضي الأطراف المتناحرة ، لأن كل طرف يدعي انتماءه المطلق لنسب الرسول الأعظم فيتوجب أن تكون السلطة و الحاكمية له و ليس لغيره و تلك هي الطامة الكبرى التي حلت بهذه الشعوب الغبية .
تتميز شخوص عامر الروائية بعدم الأنانية والشهوانية في غمرة هذا الوجود المغرور الذي يبدو في أكثر أحواله ضد البشر الذي يعاني الأمرين وما من حلٍ ماثل أمامه سوى التضحية بالنفس تلك التي هي أقصى غاية الجود.
هناك قوة خفية تحرك الأشياء ومن دون هذه القوة لأصبحت الأشياء في مكانها ، الحجر يتجه نحو الأرض ، النبات نحو الماء ، الحيوان نحو الطعام ، ثم الإنسان نحو الحرية ، و ما يحركه هو تلك القوة الخفية التي تشبه قوة إنعتاق السهم من القوس . ولذلك نرى في السرد الروائي لعامر هناك الكثير مما يتعلق بحرية الإنسان كفرد وثوري أو انتمائي مجتمعي .
الرواية عبارة عن عمل حكائي متواصل كان بطله شخصية شابة بلحمها ودمها من أهالي السماوة ، ذلك اليساري الوسيم ( ماجد وروار) من مواليد تلك السنين الستينية التي ذاقت بها الحركة الوطنية العراقية اليسارية من أهوال وتعذيب وقتل وتشريد إلى المنافي على أيدي جلاوزة البعث والحرس القومي.
الرواية تتناول تأريخ عائلة( الوسيم ماجد وروار) لما ألم بها من أهوال موجعة مبكية ، علاوة على تحمّل الأبوين إرهاب رجالات الأمن في ذلك الزمن الأغبر، حيث تتم مداهمتهم في البيت الكائن غربي السماوة بين الفينة والأخرى. ولذلك يصلح لها أن تكون عملا درامياً مذهلا كما هذا الذي نقرؤه على لسان ماجد وروار والذي نقله لنا على الورق الصقيل الروائي الشاب عامر موسى الشيخ .
الوسيم ماجد وروار وهو في ريعان الصبا يفقد اثنين من إخوته استشهدا على أيدي جلاوزة البعث ( وصفي وكاظم ) كما سنبين لاحقا ، ثم قاسم الخفيف الظل الذي لم نتوقع موته ، ربما هو الآخر مات كمدا بعد أن أصيب بالسكري نتيجة إرهاص أيامٍ مريرة لا تحتمل على أخوين استشهدا فيلاقي هو أهوال حسرته على شبابهم الذي لم يأخذ حقه في هذه الحياة التي لابد لنا أن نعيشها بكل تفاصيلها القبيحة والجميلة . ثم يلحقهم هذه الأيام من عام 2016 المقدم اليساري (علي وروار) الذي استشهد و هو يدافع عن أرض الوطن ضد بعث الدواعش وغلاة الدين .
ولذلك هذا الشاب الوسيم ( ماجد وروار) أصبح رجلا متلازما مع الألم أينما حلّ و إرتحل منذ ذلك الوقت حتى اليوم ، هو وعائلته وأبوه الذي وافاه الأجل مبكراً محترقا بنار غيضه وعذاباته بعد إن ذاق الويل من الجلاوزة . ثم الأم المناضلة التي أعطت الكثير والكثير ولم تجنِ غير الحسرة والبكاء والنحيب ، حقا هي المرأة التي ينطبق عليها القول السائد ( امرأة ثكلى) . ورغم كل الألم البادي على محيّا الوسيم ماجد نتيجة هذا الفقد المهول لإخوته الأربعة ، لكننا نراه الشاب المعطاء الضحوك المؤنس لكل من يرافقه ويتخذه صديقا فيجد فيه كل الإخلاص والإخوّة .
تنقلنا البانوراما الروائية في أحد فصولها إلى تأريخ الحركة اليسارية في العراق ثم نزولا إلى ما أصاب الجيش العراقي من انكسار وهزيمة في حرب الخليج الأولى 1991 كما سنقرأ لاحقا .
تناولت الرواية في فصولها الأولى عن أخلاق أهالي السماوة الثورية منذ ذلك الوقت العصيب ، حيث نرى كيف أوقفوا قطار الموت الصاعد وهو ينقل خيرة العناصر الثورية اليسارية آنذاك تمهيدا لنقلهم إلى نقرة السلمان ..(ومن ضمنهم الشاعر مظفر النواب ، عريان السيد خلف ، الكاتب الكردي محمد جميل والكاتب أبو سرحان وغيرهم من الأكاديميين والأطباء والحقوقيين والمثقفين ، اعتقلوا بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي العراقي ).
(سائق القطار عبد عباس المفرجي قد علم بأن القطار معبأ بالمعتقلين وعرف ذلك لحظة توقفه في محطة المحمودية ، هذا التوقف غير من كيانه وفكرته التي زرعتها السلطة بأنه يحمل حيوانات وماشية ) …
ولذلك سائق القطار سارع كثيرا في إيصال هؤلاء الثوريين إلى السماوة كي ينقذهم من الموت المحقق نتيجة الجوع والحرّ اللاّهب ، وصل القطار السماوة فهبت العشائر وكل الرجال والنساء وتم إنقاذ كل هؤلاء الشرفاء بعد إعطائهم الطعام والشراب ونجوا من موت محقق قد رسمته لهم السلطة الغاشمة آنذاك .
في السبعينيات والثمانينيات أصبح ماجد فتىً مقداما ، ليتحمل تبعات نضال أشقائه ضد السلطة البعثية ، أحدهم التحق بالأنصار ( كاظم وروار..الملقب ثوريا بيوسف عرب ) والثاني ذاب في شوارع بغداد ( وصفي وروار) وفيها كان طالبا في كلية الإدارة و الاقتصاد ويناضل بسرية تامة حيث تقطعت أوصال الحزب بعد ضرب الجبهة الوطنية . ولذلك ظل ماجد نتيجة متابعة رجالات الأمن له ولعائلته وإخوته ملازما إلى الآه والألم ، لكنه فتىَ فنان موهوب يستطيع تقمص أي شخصية في سبيل التماهي والتمويه على شخصيته الفعلية التي تحب إخوته وطريق نضالهم ، ظل ماجد يتأفف من الدواخل دون أن يقول للآخرين ( إنّ الآه أمرُّ عسير ..هي الماضي الذي ينهيك وأنت في حاضرك) . ولذلك ماجد راح ينطلق بعكس مقولة باولو كويلو (إذا كنت تعتقد أن المغامرة خطرة /فجرب الروتين فهو قاتل) ، فيقرر ماجد الخروج من الروتين الى فضاء المغامرة ، ولهذا كان بين الفينة والأخرى يخرج بزي الهيب هوب وألوانه البراقة وقبعته والأساور وغيرها من الرتوش التي تجلب الأنظار ويقف في أشهر شارع في السماوة حيث تمرق الجميلات للتحرش بهذا الفتى الوسيم . فيقول ماجد على لسان حاله :
( كانت تلك اللحظة بالنسبة لي لحظة مغايرة لأني أصبحت حديث كل اثنين منفردين ، اكلك شفت ماجد شلابس اليوم ، خرب عرضة والله دالغة ، بس هو فنان وحلو بكيفه). ثم يستمر ماجد فيقول :
(مشهد استفز حتى تلك الفتاة الجميلة التي تركت أمها وعبرت لي من جانب مدرسة المعرفة أمام مصور الجماهير أو ساحة الساعة حيث أقف لتقول لي …… أنت شني عود تسوي روحك حلو ) رشقتني بهذه الجملة ثم انصرفت ، وأنا أدرت وجهي مبتسما دون أن أُشعرها بأني ابتسمت).
هنا ماجد قام بدور تمثيلي بارع لأنه يمتلك هذه القدرة لكونه ممثلاً وفنانا ، والتمثيل حسب ما تقوله بطون الكتب هو غريزة وجدت قبل السينما والمسرح وقبل ظهور المدنية فهي وجدت في العصور الأولى للفراعنة حيث تتجلى في رقصهم المقدس حول الموتى وفي حفلاتهم الدينية التي يقدمون فيها الضحايا للآلهة أو يقومون فيها بأساليب السحر والشعوذة لاستدرار رضا وبركة آلهتهم التي يخشون منها البطش و الانتقام. ولذلك راح ماجد بما تمليه غريزته التمثيلية يمثل هذا المظهر الهيبهوبي الغريب الذي أصبح له باب رحمة فيما بعد ، حيث أنه برفقة عدد من الأصدقاء في اليوم التالي القي القبض عليهم لسكرهم الشديد ، لكن رجال البوليس عرفوه في اليوم الماضي وهم في دوريتهم في الشوارع حيث كان واقفا بزيه الغريب ، وسألوه فيما إذا كان هو الشخص المقصود بالأمس و أجاب بنعم ، فضحك المسؤول الأمني لجرأته وأخرجوه بعد إن أخذت الوساوس تلعب في رأسه ، إذ أنه ظن بأنهم القوا القبض عليه نتيجة لكونه أخاً لشقيقين شيوعيين هاربين من وجه البوليس القمعي . هذا الشخص ذو التصرف الهيبهوبي يطلق عليه في بلداننا (ابن شارع )، لكن الغالبية العظمى لا تعرف إنّ هذه التسمية ( ابن الشارع) جاءتنا من الكاتبة ( فرانسوا ساغان ) الفرنسية الشهيرة في روايتها بعد شهر أوسنة لما لها من مدلولات عظيمة تخص الشأن الاجتماعي .
ماجد في ذلك الوقت أراد أن يصرخ صامتاً ، أن يحاور نفسه المتأرجحة فيقول ( كن أنت التغيير الذي تنشده في العالم) ولذلك أستطاع أن يتجرأ ويرتدي زيا غربيا في نظر البعض وبأنه تصرف لا يليق بالواقع الثقافي و لا الاجتماعي و لا حتى الأعراف ، بينما الحالة النفسية لماجد دون أن يدري أو يدرك تماما كانت تنشد الحرية في كل شيء ، لكن نتيجة الظروف القاهرة من إرهاب السلطة ظهرت المناشدة للحرية لدى ماجد في الملبس فقط ، لكون التعبير عن الرأي في فكرة ما آنذاك كان يطيح بصاحبه ويرميه في غياهب السجون والموت . كان ماجد يريد أن يصرخ بالديمقراطية دون الشعور الحقيقي بذلك ، ولكن الإرهاص والقيد والخوف الذي بداخل ماجد والذي لا يعرفه أيّ شخص آنذاك سواه هو و عائلته المضطهدة من مطاردة وإرهاب السلطة البعثية نتيجة الأشقاء الشيوعيين لماجد ، فراح ماجد يريّح النفس الصادية بتصرف كهذا وكان هو أحوج إليه . الفنان فريدريكو فلليني والمخرج الإيطالي الشهير كان ينقل لنا في مذكراته عن إيطاليا في الأربعينيات والخمسينيات عن كيفية السطوع بملابس تشبه بألوانها الستائر و الشراشف لتكون من أزياء المودرن التي يغتر بها الشباب أمام الفتيات تعبيرا عن النزوح من التقليدي الممل . ولذلك راح ماجد يتقمص هذه الشخصية العجيبة الغريبة في ملبسه دون أن يدري من أنّ ( برجستون) الكاتب الشهير والمنظّر في نشر الديمقراطية آنذاك كان يقول :
(استطعنا أن ننشر تعاليم الديمقراطية عن طريق الديسكوات والمراقص والبارات والأزياء الصارخة في غرابتها ، أكثر بكثير من الكتب و التنظيرات والملصقات والتعاليم المكتوبة و المقروءة ) . ولذلك كانت نفسية ماجد وتركيبته الثقافية وتربية عائلته والبيئة والمحيط الذي عاش فيه جعلت منه يعبر عن الديمقراطية بأشكال أخرى ، بشكلها الذي دعا إليه برجستون ، روحية ماجد القلقة نتيجة الخوف المتلازم له والذي أصبح مزمنا له أينما حل وارتحل ، والقلق الذي يفتك بماجد بين الآونة والأخرى( على قلقِ كأن الريح تحتي ….المتنبي) ، و الاضطراب الناجم عن ملاحقة البعثيين له ولعائلته جعلت نفسيته تنشد الديمقراطية والحرية وعدم الالتزام بالزيّ الرسمي والتقليدي السائد آنذاك ، أنه يصرخ صامتاً بزيه ، أنا أتطلّعُ إلى الديمقراطية يا عالم فهل من مجيب .
في ذلك الزمن المرير لم نكن نفهم ماجد لماذا يرتدي هذا الزيّ ولا هو ربما ، لكن الأحداث تتوالى ، فتجعل منا قادرين على فهم حقيقة هذا الشاب المثير للجدل بالأمس وغدا واليوم ، فنفهم أن الأمر بارتداء زيّ كهذا هو الهروب من خوف قد جثم على صدر ماجد دون أن يستطيع البوح به لأحد من أصدقائه ، وتلك هي الطامة الكبرى ، ماجد لا يستطيع التفوه أمام الآخرين بما حلّ به وبعائلته فراح ينشد الحرية بطريقة أخرى عن طريق صرخة الملابس قبل أن يختنق من التعسف و الاضطهاد والخوف من رجالات الأمن ، و هذا أضعف الأيمان لدى الشاب الوسيم ماجد .
الكبت هو أساس أمراضنا وعللنا كما ورد في خطابات كل من شوبنهاور و فرويد اللذين عاشا في نفس الفترة الزمنية وتطابقت أفكارهم في بعض المجالات فيما يخص غريزة الموت والكبت والرغبة واللذة . ولذلك تفجرت كل هذه الطاقة لدى ماجد في أول عبثية له فجاءت على هذا الشكل الهيبي ، أي أن ّ ماجد انقاد إلى العبث الذي تبناه شوبنهاور الفيلسوف الشهير الذي له الأصداء الكثيرة في الأدب والفكر ، والذي ساهم في الفلسفة النسبية لماركس و نيتشه و فرويد.
هذا التصرف في نيل الحرية جعل ماجد باقيا على قيد الحياة حتى الآن ، باقيا فنانا بارعا ويجسد الآن فضح النظام البعثي المجرم في أكثر من عمل مسرحي كي يشفي غليله مما أصابه من حيف وضيم وهذا بحد ذاته ذكاء كبير من قبله في هذا الباب ، والذي جعل منه أن يتجاوز مرحلة خطيرة عاشها بين ملاحقة رجال الأمن له ، كادت أن تطيح به هو الآخر فيلحق أشقاءه على درب الشهادة لا سامح الله .
يستمر بطل الرواية ماجد في روايته وبوحه المؤلم فيتذكر أخاه وصفي الذي هو الآخر وسيم ( على فكرة هذه العائلة كلها ذات وجوه وسيمة ، الرب أعطاهم هذه الخصلة ) ، يستمر ماجد في بوحه فيوصلنا الى حفل زفاف أخيه الأكبر الشيوعي الطيب الذكر ( محمد ) في عام 1983 في الخامس والعشرين من أيلول ، وفي هذا اليوم يدخل خفية الشيوعي الهارب من بطش النظام البعثي ( وصفي) ، هذا الشاب رغم الخطورة التي يتعرض لها لكنه لم يثينه ذلك من حضور حفل زفاف أخيه ( محمد) ، فكانت هذه مفاجأة كبيرة لماجد بينما هو يرفع صحون الحلاوة . ثم يغادر وصفي حفل الزفاف وبعد ساعات يُداهَم البيت من قبل رجال الأمن حيث أنهم عرفوا بقدومه عن طريق المخبرين السريين آنذاك وما أكثرهم.
ينقلنا ماجد الذي أتخذ دور شهرزاد في القص الجميل هذا ، إلى العيد وكيف كان يأخذ مصروف أخوته الصغار وحين يعلم أخوه الكبير المرحوم ( قاسم) فيوبخه على ذلك فيقول ماجد :
(وهما يبكيان بدموع مخلوطة بما جادت به الأنوف تتخللها شهقات وكلمات غير مفهومة تندب ضياع العيديات في غياهب جيبي) ..
تلك كانت أياما جميلة رغم ما يشوبها من أحزان متوالية ، هذا هو الطفل العراقي عبر الأزمنة و الأنظمة الجائرة في حين أنّ الطفل الدنماركي هو الأساس بالدرجة الأولى من ناحية الرعاية الاجتماعية ، يُصرف له راتب شهري منذ ميلاده حتى موته ومهما اختلفت الظروف .
تنقلنا الكاميرا الروائية إلى ماجد وبوحه وهو في الجيش وحرب الخليج و ما هي العقوبة التي تلحق بالجندي لو انه غادر الثكنة العسكرية هاربا :
(كان النظام يهيّئ الخلفيات العسكرية لهذا الأمر…. آمراً جنديا مغلوبا على أمره بإطلاق رصاصة على الهارب يتم دفع سعرها من أهله ).
بعد الخسارة الفادحة للجيش العراقي يبدأ الجنود بالهرب من ثكناتهم في البصرة وما جاورها بين العبدلي وأم قصر ، حيث يهرب ماجد وأصدقاؤه من وحدتهم بعد رؤيا الموت المحقق أمامهم لو بقوا هناك في ثكناتهم ، أضف إلى ذلك إلى عدم وجود قناعة لدى الجندي العراقي في القتال ، حيث يشعر الجندي بأنه يدافع عن نظام بعثي قمعي يترأسه صدام وعائلته ، تلك العائلة التي أوصلت العراق إلى هذا المآل المتردي الذي لازلنا ندفع ثمنه حتى اليوم .
الكاميرا البانورامية تدور إلى ذكريات مؤلمة على لسان شهرزادي يبوح به ماجد حيث حرب الخليج وخسارة الجيش العراقي أمام قوات التحالف وهروب جنوده وضباطه بحالة لم تشهد لها جيوش العالم المنهزمة مثيلا على مر التأريخ . جنود فزعون أضناهم الجوع والخوف تاركون ثكناتهم المميتة فيسلكون الطرق الصحراوية التي تؤدي هي الأخرى إلى الموت في حال الضياع وفقدان البوصلة ، رتب عسكرية لجنرلات و مارشالات رميت على الطرق في أضخم إهانة للجيش العراقي . جنود سبعة بقيادة ماجد الجندي الذي يكون لهم دليلاً في تلك الطرق المقفرة الموحشة ، ولو إنه يرفض أن يكون قائدهم لما في القيادة من أعباء كثيرة وانطلاقا من قول البير كامو الكاتب الفرنسي الشهير (لا تمشِ ورائي أنا لستُ قائدا و لا تمشِ أمامي أنا لستُ تابعاً امشِ بجانبي وكن صديقي) . الجنود بصحبة ماجد يهربون خوفا من موت محقق في ساحات الوغى الرهيبة ، ورغم كل ذلك أمامهم فرق الإعدام التي نصبها الأوغاد لكل من يترك ثكنته ، يعني الموت أمامهم والموت وراءهم فأين المفر ، وما عليهم سوى الاستمرار . يستمرون قاطعين الطرق حيث حريق الآبار النفطية مستمر بسحبه الكثيفة ، ينشطر رفاق الهروب السبعة إلى فريقين ، ثلاثة منهم يسلكون الجانب الأيمن قاصدين أم قصر حيث المنفذ إلى البصرة من ثم الناصرية حتى السماوة ومن هناك إلى الديوانية حيث أهل رفاق ماجد وروار. في وصف رائع من قبل الروائي عامر حيثُ يضيف لمحة التراجيديا و البؤس وكل معاني الحزن على هؤلاء الجنود الضائعين في لجة الصحراء القيضية اللاهبة فيقول :
(هم ليسوا يعقوب بن إسحاق الكندي أو أبا نصر الفارابي ولا أبا علي بن سينا رواد الفلسفة المشائية عند العرب المتأثرين بمدرسة أرسطو المشائية الساعية لنثر التعاليم وسط أثينا وصولا إلى ملعبها ، لا مطلقا ، هم تائهون , ضائعون ، يريدون الوصول إلى ملعب الميناء حتى يشعروا بأنهم وصلوا إلى مدينة فيها حياة ليقولوا : نحن مازلنا نمارس التنفس في هذه الحياة ، اللا حياة ).
إصرار ماجد على الوصول إلى إيثاكاه ( سماوته) كان يأتيه من ذكراه إلى إخوته الذين غيبهم نظام بعثي قمعي ، فلابد له إذا ما وصل أن يسحق ببسطاله النتن تلك الرؤوس التي تسببت بغياب إخوته الشيوعيين ( كاظم ، ووصفي ) ، هي إرهاصات تأتي من المقولة الشائعة التي تتردد في هكذا مواقف عصيبة( يوم المظلوم على الظالم أشد ) ، أو انطلاقا من مقولة شوبنهاور ( الإنسان الغاضِب يلعب دور الغضب والطََموح يلعب دور الطُُموح ، وسط عالم مخيب للآمال حيث الرغبات التي لا تشبِع) .
ماجد وهو في عمق مخاضه وخلاصه من الدكتاتور و العسكرتارية أثناء هروبه من ساحات الوغى مع الخوف الفظيع من إمكانية عودة الدكتاتور من جديد ، لما في الحالة الضبابية عن العراق ومصيره ، نرى ماجد يتمتع بذاكرة قويه وحنين الى إخوته الذين انتقلوا إلى العالم اللامرئي نتيجة الظلم والسياسة اللعينة فاستشهدوا ، وها هو اليوم يتذكرهم و يريد أن ينال من مجرميهم بشتى الوسائل وهذا بحد ذاته هو الكبت الرهيب الذي أصيب به اغلب العراقيين الشرفاء نتيجة الضغط النفسي من جراء سياسات هوجاء. ، لكننا نرى ماجد يتحرك بفعل ما قاله شوبنهاور ( إن الإنسان سليم العقل هو بالتحديد ذاك الذي لا يحتاج إلى النسيان ) ، وهذه حقيقة فرويدية ( الصحة الحقيقية للعقل تكمن في كمال الذاكرة ) ، ولذلك ماجد استخدم الذاكرة كصنارة أراد بها صيد أولئك من تسببوا في قلقه وعدم راحته وقتل أخوته . هذه الحالة تسمى الفلاش باك أي الرجوع إلى الخلف عن طريق الذاكرة ، حصلت مع سلفستر ستالون في الفلم الشهير رامبو حين يسرّح من الجيش ويجد نفسه عاطلاً عن العمل فيتذكر ما فعله هناك ويلعن كل من تسبب في تشويهه من الداخل فيقوم بالانتقام تعبيراً عن حقده و عطالته ، رغم أن الفلم يظهر البطولة الأمريكية بشكلها الإنساني المغاير لقباحتها الحقيقية .
ماجد يصل السماوة بعد إن يتذكر كل شخوصها بدكاكينها وطرقها الشائعة وأصدقائه ، فيصرخ مع نفسه من شدة فرحه حين الوصول ( أنا حي في السماوة) ، يعني هو موجود ، مازال يفكر في هذا الكون الظالم والمرير رغم كل المستحيلات التي مرت به وأصبحت طي الماضي ، وعليه أن يستعد لمرارات أخرى في هذا الوطن المبتلى حيث تبدأ الانتفاضة عام 1991.
(انها نهاية الحرب ، مع بداية لحرب أخرى ، إنها الانتفاضة ، انه الهروب الجماعي إلى ذات الصحراء ، إلى المخيمات المشيدة في الارطاوية و رفحاء ، الجنود الأسرى عادوا ، الأهل هربوا ، الحرس الجمهوري قمع الجنوب ، قمع الناس ، الباقون ، إما شَيبة ، أو قتلى في المقابر الجماعية …)
مع كل هذه الآلام يتذكر ماجد تلك الضحكات العالية لأخيه ( كاظم…يوسف عرب) في تلك الأيام السبعينية، وكأنها لازالت تدور في البيت مع كل الهواء الداخل في رئتيه، ضحكات غير آبهة بالخطر المحدق به، ضحكات كانت تفزع لها أمه فتذهب لتتأكد إذا كان الزقاق يخلو من رجال الأمن. كاظم المناضل الشيوعي يهرب الى الناصرية وهناك يكمل الدراسة الإعدادية حيث ينام في سيارة رف روسية عاطلة ويعمل كي يقيت نفسه ، ثم يدخل الجامعة التكنلوجيه التي يتركها بعد مطاردته من قبل الأمن إلى الكاظميه حيث أكثر الشيوعيين المطاردين هناك ( جمال وناس ، جودي ، زهير عمران ، خالد ديبس ، محمد وروار ، باقر ملك) . بعد هذه يترك بغداد ولم يره أحد سوى أنه قال لماجد مودعا إياه ???? سيأتي اليوم الذي تعرف فيه لماذا انا على هذا الطريق ، يا ماجد ان المسيحي يمكن أن يصبح مسلما ولكن المسلم لا يمكن ان يتحول مسيحيا ، يا ماجد أريدك أن تكون كذلك ، قالها ، ورحل).
ينقلنا البوح الشهرزادي على لسان ماجد إلى ( وصفي) الأخ الأصغر من كاظم وأكبر من ماجد ، كان هو الآخر مناضلا منذ إن كان عمره سبعة عشر ربيعا ، يدخل الإدارة و الاقتصاد 1981و يبدأ نشاطه مع الكثير من الطلاب ( محمد جعاز، موفق صبحي ، ناجح صدام ، طلال محسن ، ناجي الصفار وسامي الجبلاوي و غيرهم) .النشاط السري لوصفي في بغداد ولقاؤه مع الشهيد عبد الحسين كحوش ، وبصفته حلقة الوصل بين أهله وكاظم أخيه في الشمال الذي كان يقاتل مع الأنصار الشيوعيين هو الذي قاده إلى حبل المشنقة وهو في عمر الثالثة والعشرين . الأنصار كلمة أطلقها أيضا اليوناني الشهير ( كزانتزاكيس) في روايته المسيح يصلب من جديد على الثوار الذين كانوا يقاتلون الظلم في أعالي الجبال .
في قرية (سويلة مش) في السليمانية كان كاظم( يوسف عرب) قائدا لمجموعة من الأنصار تقاتل ضد عصابات البعث ، وفي نفس الوقت كان وصفي في بغداد يخطط لاغتيال صدام حسين مع الشهيد عبد الحسين كحوش .
يُلقى القبض على كاظم ( يوسف عرب)في سويلة مش بعد أن يحاصر هو ومجموعته ، يعذب ، يُقطع لسانه فيبصق بوجه الجلاد ليكون البصاق مضمخا بالدم تقلعُ عينه الأولى ثم الأخرى وهو يبصق مرة أخرى بوجه مجرميه حتى أمطروه بوابل من الرصاص فيموت ضاحكاً باسماً مستهزئاً صارخا بهم (إننا لا نرهب الموت /ولكن يا جميع الأصدقاء / يا جميع الشرفاء/ إرفعوا أصواتكم من أجل شعبي/إننا نطلب من أعمالكم /صيحة حبٍ ورصاصة ….سعدي يوسف)
يموت كاظم فتنتهي صفحة النضال المدوية في الخامس والعشرين من أيلول لكن صفحة الذكريات باقية عبر الأجيال لا تمحى مهما مرت الأعاصير ، يموت كاظم وفي نفس اليوم تشاء الأقدار أن يتم عرس الأخ الأكبر ( محمد) في العام 1983وكأنّ الحياة تقول بلسان حالها : ( أنا لن أتوقف… هناك موت وهنا ميلاد )، والموت نهاية بيولوجية فحسب ….. لكن الحياة تستحق التخصيب والتخليد ، فيا أيها الأوغاد إن أردتم إطفاءنا فنحن باقون . يدفن كاظم في سفوح الجبال ، على يد امرأة كردية وهي أم لصديق كاظم ( آراس) الذي صعد هو الآخر إلى سماء الشهادة ، فتدفنهم سوية وتترك مسافة لقبرها لو ماتت في قادم الأيام ، فيكون كاظم مطمئنا هانئا في نومه الأبدي بين الأم و ابنها ، ما أروع هذه البطولة وما أعظم هذه الأم التي حفظت هذه النهاية البطولية بدفنها الكريم . يموت كاظم وهو يحاكي الإنسان في عشقه واحتراقه ، يموت الميتة الجميلة التي تليق بجمال وجهه وزرقة عينيه ، يموت ثائراً ويسقطُ واقفا باسما هادئاً كهدوء بطل الفلم السوفيتي( الحرية تلك الكلمة الحلوة) . ومن يزور قبر الشهيد كاظم اليوم سيراه يصرخ بالورد وبدع الورد وجمال الورد . و سيرى ما قاله الكاتب الإنكليزي الشهير شكسبير مُجَسدا بشكلٍ جلي (الهدوء المقدس الوحيد هو هدوء الموتى ) . فما بالنا إذ نرى هدوء الموت لثائرٍ تصرخُ عيناه بزرقة السماء ، ألا وهو ( يوسف عرب) .
وصفي وروار كان يتخذ بيتا مقرا له في مدينة الثورة مع رفيقة قد استشهد زوجها على أيدي رجال الأمن ثم بعد ذلك في بيت أم نصير في اليرموك ، المرأة الشجاعة التي أحبته مثل ابنها ، لكن أصابع الخيانة قد أوقعت بوصفي عن طريق امرأة أخرى كانت معه في درب النضال السري :
(المرأة التي اسمها (نادية) الشقراء زوجة الرفيق قد قطعت موعدا مع وصفي عند الساعة السابعة صباحا أمام مستشفى اليرموك غدا من أجل التهيؤ للقيام بالهجمة ، حيث سيمّرُ صدام من ساحة التحرير عابرا جسر الجمهورية ليصل إلى القصر الجمهوري ، وقبل التحويلة التي في بداية شارع الزيتون ستتم عملية تفجير العبوة الناسفة على رتل صدام حسين عند مدخل العلاوي) …
لكنّ هذا لن يتم إذ تشي به الفتاة الشقراء مثلما وشت بعبد الحسين كحوش وفتاة أخرى اسمها وصال ، ففي السيارة حيث تواعد معها للقيام بإنجاز مهمة الاغتيال يطوّق من قبل رجال الأمن ويلقى القبض عليه ويرحل الى الشعبة الخامسة وهناك يلاقي البطل الشهيد عبد الحسين كحوش ، وأثناء التعذيب الرهيب يُطلب منه أن يعترف كي يُخفف الحكم عليه كي يعيش الحياة بما فيها من مغريات لكونه صغير السن ، لكنه يرفض وكأنه يتذكر ذلك الشخص (الذي حُكم عليه بالجلوس على إسفين فقال للقضاة ، سوف اُخترق ولكن هذه مجرد حادثة وسوف نواصل نقاشنا في الأبدية …. الشاعر الأرجنتيني الشهير بورخيس ). يعذب ويضرب و يركل و تقلع أظافره يسيل الدم من جسده العشريني ، جسده الطري والمعافى ، أمام سجانيه المتعطشين للدماء كما قالها يوما أحد النازيين ( الدم عصيرُ مميز) ، وآخرُّ يقول ( إنّ الحياة نفسها لا يمكنها أن تتنفس بدون أذني) فما أقبحكم أيها الأوغاد ، أيها المصاصون . وفي لعبة محكمة قذرة ، يجهّز وصفي الشقي القوي البهي ليعدم في ليلة عيده الواحد والثلاثين من آذار في العام 1984 في القباء المخيف بعد وقفة بطولية صامدة أكبر بكثير من عمره البالغ آنذاك الثالثة والعشرين ، يستشهد الفتى الصغير والجميل وصفي ومعه حاصل العالم الذي لا يُطاق ، يموت لينشد أغنية المناضل المعذب ، يموت وكأنني أتخيله يُردد على شفتيه ( أتطلّع بسعادة إلى موتي )، وما بوسعي سوى أن أقول على هذا الموت الفتي والتراجيدي الهادر لوصفي الوسيم ( يا زمان…… غريب يا زمان).
تشاء الأقدار أن يكون عامر موسى كاتب الرواية في مصر لأغراض الدراسة في عام 2016 فيسمع بخبر استشهاد الأخ الثالث لماجد وروار وهو المقدم اليساري( علي وروار) يستشهد وهو يقارع أيضا كما ( كاظم ووصفي) فلول البعث الدواعش بعد إن ارتدوا أقنعة الدين .
كلمة أخيرة:
أستطيع القول أن الروائي عامر استطاع أن يرسم لنا فنتازيا ذات قدرية عظيمة في سرده الروائي ، تلك القدرية التي لها شأن عظيم بين موت الأخوين وأعراس تخصهم بالصميم ، حيث يتزامن موت المناضل كاظم ووار مع عرس أخيه محمد في الخامس والعشرين من أيلول . ويتزامن موت المناضل وصفي وروار مع عيد الحزب الشيوعي الذي جاد بنفسه من أجله ، حيث يعدم في ليلة الواحد والثلاثين من آذار . فهذه بحد ذاتها رسالة إلى الطغاة من أن ّالحياة تستمر مع الحب، مع الأفراح والتناسل مهما نشرتم الذعر و الموت.
هناك رسالة أخرى في الرواية مفادها : إذا أردت أنْ تقتل مخاوفك عليك بتدوينها ، فكان الخوف بالنسبة لماجد سجنا رهيبا قيّد كل حركاته وإبداعه ، لكن اليوم , و ما نقرؤه في هذه الرواية فهو إعلان من ماجد من أن تلك المخاوف الجاثمة على الصدر قد أطلق عليها رصاصة الرحمة لحظة كتابتها والى الأبد رغم إنها جاءت متأخرة .
كما وإنني أرى من خلال ما رسمه لنا الروائي الجميل عامر حول مصير الإخوة الثلاثة ( كاظم ، وصفي ، علي ) إنهم ماتوا واستشهدوا جميعا في أرضٍ غريبة ، بقعة بعيدة عن ديارهم وميلاد صرخاتهم الأولى ( السماوة) ، ماتوا ناضحين تلك الغربة الأليمة والفراق العظيم ، ماتوا لكنهم أصبحوا أكثر حياة ً بعد مماتهم ، ماتوا وكأنهم يجسدون ما أراده الثائر البوليفي ( جيفارا) حين يقول :
(لا يهمّني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقَ الثوار يملؤون العالم ضجيجا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء و البائسين المظلومين).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.