نزع ملكية عقارات 3 مدارس في 3 محافظات    الرئيس السيسي يوافق على قرض فرنسي بقيمة 70 مليون يورو    وزير الاتصالات يبحث التعاون مع محافظ طوكيو بمجال دعم ريادة الأعمال    صور.. نائب محافظ الأقصر يشهد احتفالات عيد تحرير سيناء بمكتبة مصر العامة    الرئيس السيسي يغادر العاصمة اليونانية أثينا متوجها إلى روسيا    وزير الخارجية الإسرائيلي: ثمن التوصل إلى صفقة بشأن غزة قد يكون مؤلما    ضبط 40.2 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    نيابة أسوان تصرح بدفن أم وطفلها ضحايا انفجار أنبوبة بوتاجاز داخل منزل بمنطقة عباس فريد    «الداخلية» تقرر السماح ل63 مواطنًا مصريًا بالحصول على جنسيات أجنبية    وزير الثقافة: نسعى لوضع أسس علمية ومهنية تضمن محتوى درامي يرتقي بالذوق العام    محافظ القليوبية يشهد توقيع بروتوكول تعاون لإقامة معرض لمؤسسة دار المعارف ببنها    رئيس جامعة أسيوط يترأس لجنة اختيار عميد كلية العلوم بالجامعة    رئيس الوزراء يجرى حوارا وديا مع المواطنين بمستشفى محلة مرحوم بالغربية    فريق طبي مصري ينجح في ترميم فك مريض روسي باستخدام المنظار والميكروسكوب بمستشفى العلمين    لويس إنريكي: لم أتمنى مواجهة برشلونة في نهائي دوري الأبطال    محافظ أسيوط: تنظيم فعاليات بمكتبة مصر العامة احتفاءً بذكرى نجيب محفوظ    امتحانات الدبلومات الفنية.. رابط تسجيل استمارة التقدم قبل غلق ملء البيانات    تخفيف الحكم على قاتل والدته بالإسكندرية من الإعدام للسجن المشدد    الغندور: بيسير لا يرى سوى 14 لاعبا يصلحون للمشاركة في الزمالك    أزمة مباراة القمة.. هل تحرم لجنة التظلمات الأهلي من التتويج بفصل الختام؟    توريد 51 ألفا و652 طن قمح بكفر الشيخ    الولايات المتحدة تعتزم تعيين حاكمًا أمريكيًا للإدارة المؤقتة لقطاع غزة    أبناء محمود عبدالعزيز وبوسي شلبي في مواجهة نارية أمام القضاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    وزير التعليم يشيد بقرار رئيس المركزي للتنظيم والإدارة بشأن آلية نتيجة مسابقات وظائف المعلمين المساعدين    طقس اليوم الخميس.. درجات الحرارة تقفز ل 39 درجة    قسم الأمراض العصبية والنفسية بجامعة أسيوط ينظم يوما علميا حول مرض الصرع    عاجل- هيئة الدواء المصرية تسحب دواء «Tussinor» من الأسواق    البرلمان الألماني يحيي ذكرى مرور 80 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية    هجوم بطائرات درون على مستودعات نفطية في ولاية النيل الأبيض بالسودان    مدير مكتبة الإسكندرية يفتتح ندوة المثاقفة والترجمة والتقارب بين الشعوب - صور    لدعم فلسطين.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات الطلاب    جامعة عين شمس تفوز بجائزتين في المهرجان العربي لعلوم الإعلام    سعر جرام الذهب اليوم فى مصر الخميس 8 مايو 2025.. تراجع عيار 21    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الخميس 8-5-2025 صباحًا للمستهلك    الزمالك يستعيد مصطفى شلبى أمام سيراميكا في الدورى    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    وزير الصحة ونقيب التمريض يبحثان تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    اقتصادي: 2.3 تريليون جنيه فوائد الدين العام الجديد    دور المرأة في تعزيز وحماية الأمن والسلم القوميين في ندوة بالعريش    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 8 مايو 2025    البابا تواضروس الثاني يصل التشيك والسفارة المصرية تقيم حفل استقبال رسمي لقداسته    قاض أمريكى يحذر من ترحيل المهاجرين إلى ليبيا.. وترمب ينفى علمه بالخطة    بروشتة نبوية.. كيف نتخلص من العصبية؟.. أمين الفتوى يوضح    الطب الشرعي يفحص طفلة تعدى عليها مزارع بالوراق    جامعة حلوان الأهلية تفتح باب القبول للعام الجامعي 2025/2026.. المصروفات والتخصصات المتاحة    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    كم نقطة يحتاجها الاتحاد للتتويج بلقب الدوري السعودي على حساب الهلال؟    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ديوان (جنوبا..هي تلك المدينة..تلك الأناشيد) للشاعر عبد الكريم هدّاد
نشر في شموس يوم 06 - 10 - 2016

نوميديا جرّوفي، شاعرة و باحثة و ناقدة – الجزائر
عنوان الديوان يحمل في طيّاته الكثير من الحنين للوطن الأم العراق و تلك المدينة العريقة السماوة التي فتح عيونه فيها و أمضى طفولته و شبابه وأجمل الذكريات من ذلك الزمن الجميل و أحزن ذكريات أخرجته قسرا منها فحملها معه و هو بعيد في منفاه.
الشاعر في كتابته و إبداعه الواسع عاد بنا للتأريخ العريق لبابل و ملوك سومر بنبيذهم التاريخي الذي كتب عنه الكثيرون و كلكامش و الزقورة التي ما تزال شامخة ليومنا هذا.
لو أردنا أن نُحلّل عنوان الديوان يكون كما يلي: جنوبا هي تلك المدينة ، و المقصود هنا مدبنة السماوة. تلك الأناشيد، المقصود بها الوطن الأمّ العراق و بغداد بنسيمها و زمنها الجميل و حقبتها التاريخية العريقة بكلّ ما جادت به من ثقافة و أدب و فنّ.
السماوة مدينة عراقية تقع جنوب العراق على ضفاف نهر الفرات هي مركز محافظة المثنى،تبعد بمسافة 280 كم جنوب غرب بغداد.
تقع مدينة السماوة على نهر الفرات و تمتدّ على ضفّتي النّهر في جهتي الشامية و الجزيرة. و يتألّف القسم القديم من المدينة من عدّة مناطق و أسواق مثل سوق المسقوف و عكد اليهود، و تحيط بمدينة السماوة مساحة كبيرة من مزارع النخيل التي اشتهرت في العراق حتّى أنّه توجد أغنية شعبية عراقية بعنوان (نخل السماوة)، وتقع قرب المدينة بحيرة ملحية عميقة المياه تدعى بحيرة ساوة.
و لقد أورد الحسني عن ياقوت الحموي في كتابهِ (معجم البلدان) عام 1429م إنّما سُمّيت بالسماوة لأنّها أرض مستوية لا حجر فيها، و أمّا المنجد فيورد أنّ كلمة سماوة فلك البروج، و سما معناه في اللغة على و أرتفع. ويوضح الشيخ أحمد رضا في كتابهِ معجم اللغة أنّ سماوة : الشئ العالي لذا طرفها عالي.
السماوة مدينة خطّت على مدى التاريخ ملامح خالدة من حضارة عريقة امتدت لقرون عديدة ،وحينما نتحدث عن السماوة، هذا يعني أنّه حديث يعود إلى 7000 سنة و منها 5000 ق. م، وذلك لإتّصال هذه المدينة بمدينة أوروك الأثرية، مدينة الاكتشافات الأولى و الحرف الأول و العجلة و تاريخ التّمدّن للإنسان الأوّل على هذه الأرض بعد الطوفان.
و بعد أن زحف نهر «إنليل» المقدس عن محيط أوروك عن شرق المدينة، إلى غربها ظهر نهر الفرات فتشكلت السماوة، ومن نافلة القول إنّ تسمية السماوة تعني الارض العالية المستوية القريبة من السماء.
السماوة متخمة بالتاريخ وضاربة بالعمق، في صحرائها دفن السموأل بن عادياء الشاعر اليهودي، و أيضا في صحرائها تعلم المتنبي الفصاحة والبلاغة، وكانت إحدى محطات عمر بن أبي ربيعة حيث كتب قصيدته الشهيرة «وادي الغضا» ومازال هذا الوادي حتّى اللحظة يحتفظ بتضاريسه الأولى رغم تقادم السّنين عليه .
كتب عنها الشاعر كاظم الجابر السماوي قصيدة بالشعر الشعبي العراقي عنوانها (السماوه).
و عن مدينة السماوة العريقة كتب الشاعر عبد الكريم هدّاد ديوانا عنوانه (جنوبا هي ..تلك المدينة.. تلك الأناشيد)
عبد الكريم هدّاد شاعر يحتفظ بالحزن في أعماقه و يصيغه في كلمات تكشف عمّا بصدره ، كما قال نزار قباني ذات يوم: " كلّ شيء نستطيع أن نُمزّقه إلاّ الذّكريات هي التّي تُمزّقنا".
فالحياة تجربة جدّ صعبة و ما الذّكرى إلاّ ورقة خريف، و ما الدّنيا إلاّ وجهات نظر.
عندما نقرأ الديوان نغوص فيه عميقا لنستخلص رسالة الشاعر لنا في كتابته عن مدينته الحبيبة التي فتح عيونه فيها و تربّى فيها و أمضى معظم شبابه فيها ثمّ يُغادرها قسرا لبلاد المهجر، فيجد نفسه بعيدا عنها، لكن روحه فيها و قلبه نابض بها دائما يحنّ لها و يشتاق لكلّ نسمة عليلة فيها و كلّ ظلّ نخلة باسقة في صيفها.
في قصيدته (صندوق الحزن) قال:
وطني فقد الذاكرة
و ما عاد يذكر أغنيّات الطفولة
و ما عاد يذكرني..
و أنا أقف قبالته في المرآة.
ألمس سنيه المتخثرة
بالخيبة و الحسرات
يصرخُ في وجهي متوترا:
من أنت..؟؟
لماذا حين رأيتني بكيت..؟؟
ماذا تريد منّي..؟
و أنا المحاصر بالموت.
مقطع يختزل هول الحزن و الفقدان و الحنين و الألم لعراق الأمس الذي لم يعد هو نفسه في يومنا هذا.
حزن لوطن فقد نفسه و ما عاد هو و كأنّه مصاب بالزهايمر ليفقد ذاكرته.
وطن فقد ذاكرته و لا يتذكّر أبناءه ليسألهم بعد سنين مضت (من أنتم؟)
و كما قال الشاعر هنا( لماذا حين رأيتني بكيت؟).
النّسيان جزيرة أضاعت خريطتها الذّكريات.
البكاء للخراب الذي وصل إليه عراق اليوم من دمار بعد أن كان سيّد الثقافة و الفنّ و المعمار و الآثار، هو ذا مغزى الشاعر بين سطوره التي اختزلت الكثير من المعنى.
و هل ينفع الدّمع بعد اليوم في وطن من حرقة الدّمع ما عادت له مُقل؟
و في الشاعر قوله أيضا:
ها هو.. الشّتاء يطرقُ بابي،
و صيف السماوة
بعيد
بعيد..
هو وطني،
صندوق الحزن
يؤطّرني
على حائط الغربة.
كما قيل يوما: قد علّمني المدعو غربة أكثر من أيّ أستاذ آخر كيف أكتبُ اسم الوطن على سبّورة اللّيل.
هكذا شاعرنا يحنّ لصيف السماوة بحرارته و هو يعيش في بلاد الغرب و الغربة و المنفى الذي يمتاز ببرده و صقيعه و درجاته المنخفضة، عكس بلاد الشرق الذي يمتاز بالحرارة و مناخه الدافئ حتّى في شتائه.
لكن الشاعر هنا اشتاق للهيب صيف السّماوة و هو في منفاه حيث تنعدم حرارة مدينته السماوة و لا يهبّ حتى نسيمها حيث هو.
و كأنّه يقول: ما زلنا نحملُ جزءا من الوطن لا يُفارقنا في البُعد و يُؤرّقنا حزنا في البلايا.
و في قصيدته ( أرخبيل منفاك) يقول:
ما ذاك العطرُ الذي ترتديه
في صدفة اللّقاء..؟؟
ماذا تتركُ لي
أمام باب الحنين؟؟
و قد أثقل قميصي تُرابُ الطّريق
حينما.
ضيّعت منفاي
في أرخبيل منفاك.
عن حنين شاعرنا تذكّرتُ حوارا،
سُئل أحدهم : أتشتاق إلى وطنك؟
قال: كيف لا أشتاق إلى رمله؟ و قد كنتُ جنين رُكامه، و رضيع غُمامه.
و في قصيدته (نشيدُ الله) يقول:
تمنّت..
أن أكون لها سند
في دُنياها،
و في دهرها الأشدّ
هي أمّي..
كما الأمّهات،
أرضعتني العراق الأحد
و حين عصف الدّمار
تركتها
من دون ولد
كتابة تختزل الكثير بين سطورها، ألم فقدان في غربة، حنين لزمن الطّفولة، حنين لحضن الأمّ الدافئ الذي غاب في غربة، حزن لفراق قسري و إجباري هربا في ذلك الزّمن الظالم حين عصف الدّمار بعيدا عن تلك الأمّ الحنونة ليتركها و يهاجر بعيدا عنها.
و في قوله:
نهران شوقها،
و من صوبها
يأتي مدد
نهران شوقها هما عيناها الدّامعتان لولدها البعيد، شبّه دمعها الغزير بنهرين قصد بهما نهري دجلة و الفرات لمن يتمعّن في مقصوده الواسع بتعبيره المجازي و خياله الشّعري الواسع، ليُعبّر هنا عن كثرة بكائها عنه و هو هناك في غربته و منفاه بعيدا عنها.
و في قوله:
قسما
بلحدك
أمّاه
أنت العراق
جلّى البلد
قول الشاعر هنا هو نفس قول: الأمّ و الوطن لا يُمكنُ المزاح فيهما.
أقسم بقبرها أنّها هي الوطن الحقيقي و هي العراق.هي الأمّ و الوطن.رحمها الله و أسكنها فسيح جنانه.
و في قصيدته ( ربّما، يبدو الأمر عاديّا) يقول:
من صمتك..
حاملا صليبك
و الآلهة في معبدها البابليّ
نائمة.
أيّها المحاصر
بين الجدار و الرّصاصة
عوّدتني..
أن أستفرد الوحشة،
مثلك..
و أترك على بابي – لحزني-
حزنك..
ريثما تُنهي تيه المسافة
لأكتب لك عنواني الجديد
أيّها الجميل..؟
أيّها البعيد..؟
يمكن القول هنا من خلال كتابة شاعرنا:
لا يسكنُ المرء بلادا، بل يسكن لغة، ذلك هو الوطن و لا شيء غيره.
سافر بنا الشاعر للزمن البابليّ بآلهة سومر و أور حيث كانت نانا في معبدها هانئة و مرتاحة و نائمة لا يرعبها خوف أو كابوس.
ليأخذنا مباشرة لزمن البعث و الخوف بين الجدار و الرّصاصة، أعادنا لزمن الحزن و الألم و الدّمار و كوابيس الموت العبثيّ دون رحمة، حيث كان شاعرنا في تيهه بعيدا في مسافات لا يعرف أين يستقرّ به المقام هربا.
و في قصيدته ( لم يبق من الوقت الكثير) يقول:
لم يبق من الوقت
الكثير..
كي أعاند الدّنيا
بما عاندتني
و قد رشفتُ التّيه مُرغما
و ما من خطى
تكفي
لأختار ما يؤنسني.. أو..
أحزم حقيبتي،
مرّة أخرى
بعيدا..
شاعرنا سبح بعيدا خارج مياهه الإقليمية الدافئة و في ظلّ ما يُشبه التّشرّد و النّفي تحت وطأة قهر و ظلم مُبيّن و محنة.
كان في تيه يبحثُ عن وطن ليستقرّ فيه بعيدا عن بلاد القهر و الكتمان، حزم حقيبته من بلد لآخر ليستقرّ و أخيرا بعيدا في منفاه و غربته.
و في قوله:
هناك..
هي النّخلة السّمراء
تبقى..
و نايات المساء
على مشارف الأهوار
جنوبا..
هي السماوة الشامخة بنخيلها الباسقة الشامخة و نايات الأهوار بتراثها العالمي و تأريخها العريق منذ بدا تأريخ بلاد الرافدين.
جعلنا الشاعر نُدرك تأريخ مدينته العريقة و نُدرك الجنوب و تراثه و تاريخه و تقاليده التي تُميّزه.
في قصيدته التي وسم بها ديوانه بعنوانها (جنوبا..هي تلك المدينة..تلك الأناشيد..) يقول:
بقدر
ما تنسى الذّاكرة أوهام الماضي
أهملتّ الأشياء المثقلة
برعب الكوابيس
و النّكبات المتكرّرة،
و هي تبدو حادّة الزّوايا
خشنة،
و صعبة الإقناع
مثلما الغربة المزروعة
و على بعد السّنين من وطني..
أشياء..
لم يُصقّلها مجرى الضّياع
و العناوين المتغيّرة.
كما قال أحد شعراء العرب يوما:
أنا أنت يا وطني ::: كلانا واحدٌ رُهن الإتّفاق
أنا إن ذهبتُ فأنت ::: يا وطني على الأيّام باق
فبعض الذّكريات يصعُبُ علينا نسيانها، لأنّها ذات يوم أمتعتنا، لكن شاعرنا في غربته، يحمل من ذكريات الماضي الكوابيس الكثيرة اللامنسية على مرّ السّنين ما هو مرعب منها و رهيب في زمن البعث و الظّلم أيّام الدكتاتور.
يحمل شاعرنا في قلبه أحزانا و نكبات لا تمحيها الذّاكرة أبدا بالرّغم من أنّه بعيد ، لكنّها منقوشة في أعماقه.إنّه الزّمن المحفور في أوراق التاريخ من قتل و إبادة جماعيّة و دفن جماعي.
إنّه الزّمن الذي ذهب ضحيّته الملايين من خيرة شبّان العراق بسبب الجور و الظّلم.
الزّمن الذي عانى فيه الشّيوعي الويلات من سجن و تعذيب و إهانة و موت في السجون تحت وطأة التعذيب و الإعدام و غيرها ،و عن ذلك الزّمن الحديث يطول لأنّنا لو خصّصنا له الكلام لن ننتهي منه لآخر عمرنا.
و في قوله:
و الجنوب جنوبا..
يأخذ بيدي..
كما يودعه الفرات
ملامسا غابات القصب
و رماد حكايات الطين
المفخور
قريبا من فضاء الزقورة
من المطر..
و بيت أبي..
من مدار النّور
جنوبا..
هي تلك المدينة
هي تلك الأناشيد.
رحل بنا الشاعر بعيدا جدا للفرات و الزقورة الشامخة الباقية من حضارة سومر التأريخية ليومنا هذا، أخذنا لغابات القصب في الزمن الجميل، و تراث الطين المفخور و فخاره العريق للأجداد في تلك الأيام الجميلة ..أخذنا بكلّ بساطة جنوبا للسماوة.
و في قصيدته ( تفاصيل خارج التّقويم العادي) يقول:
أشهدُ
أنّ الشهر الثالث عشر
يُؤرّخُ الموت
و حكاية الخبز الحزين
يُؤرّخُ خجل الشهداء
في دقيقة الصّمت
و الأغنية
تفقدُ هاجسها
في الحروب الخاطئة
و في قوله:
آه.. لو تمرّ علينا
طارقا أسوار جند الغنيمة
محتشدا بالجوع الكافر، صيحة..
لك الحق..
أن تشهر السّيف و الراّية الحزينة
حيث ينتظرك فقراء المدينة
قال تشي جيفارا: "علّمني وطني بأنّ دماء الشهداء هي التي ترسمُ حدود الوطن"
و في هذا الصّد يقول نيكوس كازانتزاكيس: " عليك أن تموت كلّ يوم و أن تولد كلّ يوم و أن ترفض ما عندك كلّ يوم..
فالفضيلة الكبرى ليست في أن تكون حرّا و إنّما في أن تناضل من أجل الحريّة..
لا تتواضع و لا تساءل: هل سننتصر؟ هل سنهزم؟ بل حارب و في كلّ لحظة من حياتك اجعل من مغامرة العالم مغامرتك"
أخذنا الشاعر لشهر خارج التقويم للثمانينات، شهر الموت و الحزن ، أيّام الاستشهاد لخيرة أبناء الوطن الذين ذهبوا دون عودة، سافر بنا بعيدا حيث حرب الخليج حينها، في حروب على حدود الوطن و إجبار كلّ الشبان للالتحاق بالحرب .. تلك الأيّام التي لا تُنسى حيث بات الجنود الشبان جوعا و عطشا و خوفا في البراري، ناهيك عن التفجيرات غير المتوقعّة و الصواريخ و غيرها.
أجل إنّه تقويم غير عادي، لأنها أيام و أشهر لا تنتمي لتلك السّنة أصلا و خارج تقويمها و دورتها العاديّة.
و في قصيدته (كُنت العراق) يقول:
كُنت الحزين في حفلهم
كُنت الجنوب في تيههم
كُنت العنيد في صمتهم
كُنت الجميل في قبحهم
كُنت الحسين في حجّهم
كُنت اليسار في يمينهم
كُنت النّخيل حين حاصروك
كُنت الفتى حين ضيّعوك
كُنت الحيّ حين قتلوك
كُنت العراق حين خانوك
لو نتمعّن كثيرا و نغوص في أسطر كلّ بيت لكتبنا الكثير من مغزى كلّ كلمة.
شبّه الشاعر هنا العراق بشخص جمع كلّ الصفات فيه بشاعريته و خياله الواسع في الوصف و التّعبير.
العراق حزين منذ بدأ التأريخ، موسوم بذلك الحزن الرابض في أعماقه منذ بدأ التأسيس، يحمل حزنه قبل عهد كلكامش ليومنا هذا. ذرف دموعا كثيرة و ما يزال.
حين قال (كُنت الجنوب في تيهه) قصد بها تيه الشّبان في عودتهم من تلك الحرب التي ذهب ضحيّتها الكثير، حيث تاهوا في صحرائها للعودة لديارهم أو وصولا للبصرة و ما لاقوه من صعوبات مشيا على الأقدام.
العناد من تمسّك اليساريّ بما يؤمن به من دفاعه عن حقوقه و حقوق غيره، كما قال جيفارا: "إنّ حبّي الحقيقي الذي يرويني هي تلك الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين.. شعلة البحث عن الحريّة و الحقّ و العدالة" و هو كلّ ما يحمله كلّ شيوعيّ بطل في أعماقه.
و في قوله (كُنت الحسين في حجّهم) تذكّرت قول الكاتب و الشاعر نعيم عبد المهلهل في إحدى كتاباته:
تحزّم بالأخضر
و تعمّم بالأسود
أمّا الأبيض فاتركه لعرس أخيك
و في قوله (كُنت الفتى حين ضيّعوك) يتحدّث عن ضياع الشبان في زمن البعث، عن ذهاب بلا عودة و انتظار دون رجعة إلى سجون و موت تحت وطأة التعذيب و غيرها.
و في قوله( كُنت الحيّ حين قتلوك) كتابة تختزل إبادة جماعية و دفن الكثيرين أحياء في تلك المقابر الجماعية أيام البعث الظالم.
بكلّ بساطة كلّ سطر من القصيدة يحمل في طيّاته آلامه الخاصّة و أحزانه، و أسبابه و قصّته التي تجعلنا نذرف دموع الأسى لما آل إليه العراق في زمن لم يعد عراق الأمس بزمنه و زمانه الجميلين.
سُئل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري : لماذا عندما تقول عراق تلفظها ب ضمّ العين ( العُراق) فقال: "لأنهُ لا يعزّ على الجواهري أن يكسر عين العراق" و أنا أقول: لا يعزّ على المواطن العراقي الغيور أن يكسر العراق .
و في قصيدته ( إرتسامات لظلال قمر بغدادي) يقول:
أين أنت..؟
يا جذوري
حدائق روحي خائفة
و أنا..
خافت الظلّ أعود
للكأس
الذي يهامسُ اللّيل
بإرتسامات وجهك
قمرا بغداديا.
هنا حنين لقمر بغداد، حنين لأرض الوطن، حنين لنسمة ليل الوطن، حنين لجذور الوطن و شوق لكلّ ما يلمس صميمنا للوطن الأمّ.
ذكريات لزمن لا ينسى و لا يُمحى من عقولنا، فالذّكريات لا تعيش إلاّ مع النّسيان، و التأريخ لا يستقيمُ بدون ما أهمله الزّمن.
و شاعرنا لم ينس يوما قمر بغداد في لياليه.
في الأخير أقول عن الشاعر عبد الكريم هدّاد أنّه شاعر ذو خيال واسع لأنّه سافر بنا لأزمنة عديدة من التاريخ بين الصّفحات، من حانة ملوك بابل و سومر و نبيذهم لزقورة أور و زمن البعث ليومنا هذا.
شاعر يحمل في قلبه من حبّ وطنه و حنينه له الكثير في أعماقه.
كما قال أفلاطون يوما: "نحن لم نولد من أجل أنفسنا، بل من أجل أوطاننا"
إنّه الوطن الذي نقول عنه:
وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
نازعتني إليه بالخلد نفسي.
إنّه الشاعر الذي عانى الكثير في شبابه، و هو اليساريّ الذي دافع و ما يزال عن حقّ غيره، رغم بعده القسريّ في أرض المهجر بعيدا عن وطنه إلاّ أنّ العراق يسري في شرايينه و ينبض فيه حُبّا و شوقا و حنينا.
الشاعر المبدع عبد الكريم هدّاد له أسلوب كتابة شعري سحري،رائع و خاصّ حيث يختزل لنا سرد قصّة في جملة من ثلاث إلى أربع كلمات تحكي الكثير .
كتاباته واضحة جدّا لكنّها تحمل في أحرفها و سطورها مغزى عميق جدّا عندما نتوغّل فيها فنُبحرُ عميقا و نسافر بعيدا عبر التأريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.