رسالة بولس الرّسول إلى أهل رومية (3) ذاق بولس طعم الإيمان المبرِّر وانفتح على الله كما على الآخر وأدرك مفهوم الله البعيد عن العنصريّة، والتّقوقع والانغلاق. عشق المسيح فعشق البشر وعلم أنّ الله لا يختار شعباً دون آخر، ولا يفضّل جماعة على أخرى، ولا يبرّر قوماً ويرذل آخر. وإن تصوّر للبعض أنّ الله يحابي الوجوه فهذا لا يمسّ بالله ولا يقلل من محبّته الشّاملة، وإنّما جهالة الإنسان جعلته ينزل الله إلى مستواه. "ولكن الآن ظهر كيف يبرّر الله البشر من دون الشّريعة، كما تشهد له الشّريعة والأنبياء. فهو يبرّرهم بالإيمان بيسوع المسيح: ولا فرق بين البشر. فهم كلّهم خطئوا وحرموا مجد الله. ولكن الله برّرهم مجاناً بنعمته بالمسيح يسوع الّذي افتداهم، والّذي جعله الله كفّارة في دمه لكل من يؤمن به. والله فعل ذلك ليظهر برّه. فإذا كان تغاضى بصبره عن الخطايا الماضية، فهو في الزّمن الحاضر يظهر برّه ليكون بارّاً ويبرّر من يؤمن بيسوع." (رو 26،21:3). يجب أن نهتمّ بدقّة لما يقوله بولس في هذه الآيات البديعة. بل يقول لنا الرّبّ على لسان بولس إنّ الانفتاح واحترام الآخر أمر، وحجب الحقيقة أمر آخر. (كلّهم خطئوا وحرموا مجد الله. ولكن الله برّرهم مجّاناً بنعمته بالمسيح يسوع الّذي افتداهم). المسيح افتدى الجميع من أوّل إنسان حتّى آخر إنسان في التّاريخ، وهذا الفداء نعمة مجّانيّة غير مستحقّة من الإنسان. وبالتّالي بنى هذا الفداء جسراً بين الله والإنسان ولا يستطيع الإنسان أن يعبر إلى قلب الله إلّا بسلوكه. الكلّ مخلّص بنعمة الرّبّ، لكنّ كيف يعلم الآخر أنّه مبرَّر إذا لم يتعرّف على مخلّصه؟ وكيف يبني معه علاقة إن لم نلتزم بإعلان الحقيقة؟. الإيمان بالمسيح هو كلّ شيء، وهو إدراك الإنسان لحجمه أمام الله، واعترافه بأنّ الحبّ الإلهيّ وحده يخلّص البشر، وأن لا سبيل إلى الله إلّا بالحبّ. برّر الله الجميع لكنّ هذا التّبرير ليس فرضاً بالقوّة، لأنّ الحبّ لا يفرض نفسه. من هنا أهميّة التّفاعل مع هذا الحبّ والاتّحاد به، ذاك ما هو الإيمان بالمسيح. من هنا أهميّة قول بولس: " فأين الفخر؟ لا مجال له. وبماذا نفتخر؟ أبالأعمال؟ لا، بل بالإيمان.فنحن نعتقد أن الإنسان يتبرّر بالإيمان، لا بالعمل بأحكام الشّريعة؟". (رو 28،27:3). الافتخار بأعمال الشّريعة خطوة ناقصة نحو الخلاص، لأنّها تطبيق حرفي يمكن أن يكون ظاهريّاً، وعلى الأرجح هو كذلك لأنّه لا يبدّل الإنسان من داخله، ويقلب أعماقه. وقد يقول قائل: "أعبد الإله الواحد، لا أقتل، لا أزني، لا أسرق…"، وقد يكون صادقاً في ما يخص الظّاهر الإنسانيّ. وقد يكون كاذباً في العمق؛ لأنّ القتل والزّنى والسّرقة يتعدّى الجسد وينفذ إلى عمق الرّوح. ويمكن للإنسان أن يعبد الله الواحد بجسده فقط أي بطقوس وفروض تشريعيّة وفي قلبه يعبد المال والسّلطة. وأمّا الخلاص بيسوع المسيح فهو الانقلاب الإنساني الدّاخلي، الثّورة على الانسان العتيق المقيّد بالشّريعة للانطلاق نحو ملء قامة المسيح، الحرّيّة الكاملة. كما بولس الّذي خرج من رحم محبّة الرّبّ، جديداً، خلاقاً، بارعاً في رسوليّته، سفيراً حقّاً للمسيح.