هشام الششتاوي رئيسًا للجنة الصحة بمجلس الشيوخ    رئيس حزب الوفد: أعددنا خطة ورؤى تشريعية ترتكز على ثوابت الحزب التاريخية وطموح المستقبل    البنك التجاري الدولي وطلبات وماستركارد تطلق بطاقة ائتمان جديدة للجيل الرقمي في مصر    نائب محافظ القاهرة يتفقد أعمال التطوير الجارية بشوارع المنياوى والعسال    محافظ الغربية يتفقد إدارات الديوان العام ويوجه بتسهيل الإجراءات ورفع كفاءة الخدمات للمواطنين    الكرملين: روسيا سترد بقسوة على أي ضربات في عمق الأراضي الروسية    البرازيل تنضم إلى الدعوى الدولية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزة    نجمة وادى دجلة هانيا الحمامي تتوج ببطولة كومكاست بيزنس الولايات المتحدة المفتوحة 2025    شوبير: نتائج فحوصات إمام عاشور مبشرة.. وهذا موقف عودته للتدريبات    الأهلي يطالب الكاف بعدم إيقاف نيتس جراديشار    الخطيب يكشف سبب عدوله عن قرار الاعتزال وتفاصيل وضعه الصحي غدا مع لميس الحديدي    مدرب الزمالك 2009: أعد الجماهير بتجهيز 7 نجوم للفريق الأول في نهاية الموسم    من بينهم سورية.. إصابة 3 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص على الطريق الإقليمي    مصرع 4 تجار مخدرات وأسلحة وضبط آخرين عقب تبادل لإطلاق النيران مع الشرطة بأسوان    فتح باب التقديم للدورة السادسة من جائزة المبدع الصغير    الدكتور أحمد رجب: المتحف المصري الكبير شاهد على عبقرية المصريين عبر العصور    6 أفلام من مهرجان أسوان لأفلام المرأة في برنامج خاص بمهرجان لندن بريز    رئيس الوزراء يتفقد مستشفى دار صحة المرأة والطفل بمحافظة السويس    محافظ الشرقية يُهنىء الفرق الطبية المشاركة فى القوافل العلاجية المجانية    محافظ جنوب سيناء يوجه بدعم أبناء المحافظة من أصحاب الإرادة وذوي الهمم    انطلاق المرحلة الثانية من البرنامج القومي لتنمية مهارات اللغة العربية بمدارس بورسعيد    أبو الغيط عن حكومة نتنياهو: لن تستمر طويلا وإرادة الرئيس السيسي الحديدية أفشلت مخطط التهجير    لإعدادهم نفسيًا.. تقرير يكشف طريقة فليك في اختيار تشكيل برشلونة    اتفاق سلام تاريخي بين تايلاند وكمبوديا.. ترامب: أنهينا الحرب الثامنة خلال فترة ولايتي    الهلال الأحمر المصري يدفع بأكثر من 400 شاحنة حاملة 10 آلاف طن مساعدات إنسانية إلى غرة    فيديو.. الأرصاد: طقس خريفي مستقر على مدار الأسبوع    «كنت بربيهم».. تفاصيل ضبط سيدة بتهمة تعذيب طفليها داخل حمام منزلها في الغربية    ربة منزل تنهي حياة ابنها لتعاطيه مخدر الآيس فى بولاق الدكرور    الدعم السريع يعلن السيطرة على مقر للجيش بالفاشر| ماذا يحدث بالسودان؟    الاحتلال يعتقل 13 فلسطينيا من الضفة بينهم أسيران محرران    ماذا على جدول ترامب فى جولته الآسيوية؟.. صفقات وسلام وتهدئة لحرب تجارية    إجازة افتتاح المتحف المصري الكبير.. هل هي ليوم واحد أم ستصبح سنوية؟    عمرو الليثي: "يجب أن نتحلى بالصبر والرضا ونثق في حكمة الله وقدرته"    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم 26 اكتوبر وأذكار الصباح    منح مدير شئون البيئة بمحافظة كفر الشيخ صفة مأمور الضبط القضائي    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 26 أكتوبر 2025    الصحة: اعتماد البرنامج العلمي للنسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    رئيس جامعة المنيا: «وطن السلام» رسالة مصرية تؤكد دور الدولة في صناعة السلام    عاجل- التضامن تخصص 12 ألف تأشيرة حج لأعضاء الجمعيات الأهلية لعام 2026    د. فتحي حسين يكتب: الكلمة.. مسؤولية تبني الأمم أو تهدمها    روزاليوسف.. قرن من الصحافة الحرة وصناعة الوعى    مجلس طب قصر العيني يوافق على إنشاء أقسام تخصصية دقيقة في الجراحة    مصر للتأمين تسدد 200 مليون جنيه دفعة أولى للمصرية للاتصالات    مراسم تتويج مصطفى عسل وهانيا الحمامي ببطولة أمريكا المفتوحة للاسكواش    ضبط متعهد دقيق يجمع الدقيق البلدي المدعم داخل مخزن بكفر الزيات    بعد تصدره التريند.. التفاصيل الكاملة لمسلسل «كارثة طبيعية» بطولة محمد سلام    القومي للترجمة يقيم صالون "الترجمة وتحديات التقنية الحديثة" في دورته الأولى    أطعمة تعزز التركيز والذاكرة، أثناء فترة الامتحانات    7 ملايين و180 ألف خدمة طبية خلال حملة 100 يوم صحة بالإسكندرية    موعد بدء شهر رمضان 2026 في مصر وأول أيام الصيام    أسعار الأسماك اليوم الأحد 26 أكتوبر في سوق العبور للجملة    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الأحد 26 أكتوبر    «لأول مرة من 32 سنة».. ليفربول يسجل رقمًا كارثيًا بعد سقوطه أمام برينتفورد    رسميًا.. مواعيد بدء امتحانات الترم الأول 2025-2026 وإجازة نصف العام لجميع المراحل الدراسية    أسعار الفضة في مصر اليوم الأحد 26 أكتوبر 2025    مواقيت الصلوات الخمس في مطروح اليوم الأحد 26 أكتوبر 2025    بداية شهر من الصلابة.. حظ برج الدلو اليوم 26 أكتوبر    مواقيت الصلاه اليوم السبت 25 أكتوبر 2025 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في قصيدة "ويكبر المحال" للشّاعر التّونسي شكري مسعي.
نشر في شموس يوم 23 - 08 - 2016


شاعريّة السّؤال ومواجهة الواقع
أوّلاً: النّصّ:
ويكبر المحال …
أتعلمينَ ما الذِي يُوَرِّدُ الفصُولْ
وما الذِي يُضَمِّخُ البريق في البِحَارْ
وما الذِي يُعَطِّرُ مَوَاسِمَ الكَلامْ
وما الذِي يُرَتِّقُ الجِراحَ فيِ المحَارْ
وما الذِي يُعَتِّقُ سُلافَةَ الحَرامْ
جُنُونُنَا اللَّذِيذْ
يَقِينُنَا المُمَزَّقُ عَلَى ذُرَى الفِطامْ
وأَلْفُ ألْفُ مَوْتَةٍ يَرُجُّهَا احْتِضَارْ
وبَعْضُ مَا نُخَبِّئُ لِرِحْلَةِ الغَرامْ
أتعْلَمِينَ كيْفَ صِرْنا نَطْلُبُ الُمحَالْ
ونَسْأَلُ الضِّياءَ أنْ يُعاشِرُ الظلامْ
وتَسْتَحِي النِّساءُ مِنْ بُرودَةِ الرِّجالْ
ويخَجْلُ الصّغارُ منْ تَفاهَةِ الكِبارْ
يُحَدّقُ الجَرادُ في شَرانِقِ الغُصونْ
واللّيْلُ بِالمعَاوِلِ يُمَزِّقُ النَّهَارْ
وينْثُرُ الرَّمادَ في مَحاجرِ العيُونْ
ربيعُنَا حُطامْ .. وَعُمْرُنا رُكَامْ
جَنُوبُنَا مُمَزَّقٌ يَرُجُّهُ السُّؤالْ
إلَى مَتَى يُعَرْبِدُ بِكَوْنهِ الضَّلالْ
وتنْبُتُ منْ عَيْنِهِ مَواكِبُ الظنُونْ
إلىَ مَتى تُؤَجَّلُ مَوَاسِمُ السّلامْ
وَشَرْقُنَا كغَرْبِنَا .. جَنوبُنا شَمالْ
إلى متى تخيِّمُ جَحَافِلُ الهَوَانْ
بِعُمْرِنا الحَزينْ
وَيَكْبُرُ أطْفالُنَا وَ يَكْبرُ المُحالْ
أتعلمينَ أَنَّنَا نُبَاعُ في المَزادْ
وأَنَّكِ رَهِينَةٌ لمَوْسِمِ الفَسَادْ
رُعَاتُنَا .. حُماتُنا قَدْ أَخَلَفُوا العُهُودْ
وباعُوا لِلْغَريب تِبْر أرْضِنا الحَلالْ
وأعْدَمُوا الشهُودْ
وأرْضُنَا الجَريحَةُ نَزِيفُها رُعودْ
وجُرْحهَا حِكايَةٌ تَقُصُّها الجِبالْ
تُشَيِّبُ الرَّضِيعْ
وتزرَعُ الَمواجِعَ وتَنْحَرُ الرِّجالْ
أتعلمينَ مَعنَى أنْ نَعِيشَ مُعْدَمينْ
ونلبْسَ التَّعاسَةَ بِغُربَةِ الوجُودْ
وأرْضُنا سَبِيَّةٌ وَعُمْرُنَا سَرابْ
ومعنَى أنْ نُهَجَّرَ وَنَشْرَبَ العَذَابْ
ومعنَى أنْ نُشَرَّدَ وَأَرْضُنا خَرابْ
ومعْنى أَنْ نَضِيعَ في غَمَامَةَ الضَّبَابْ
كأنّنا خُلِقْنا كَيْ نَمُوتَ مَرّتيْنْ
ومَوْتُنَا يُرَدِّدُ حِكايَة الدّمَارْ
يا أيّها الخريف..
لماذا كلّما نطقتَ تصفع الشّجرْ
وتذبح الغصون ، والورود والزّهرْ
وتشرب الرحيق من عصارة المطرْ
وتغرق الضريرَ منّا تدهس الضعيف
أهذه حياتنا أم نحن في ضياع
أهذا حلمنا الذي من أجله نباعْ
ربيعنا مؤجّل ربيعنا دموع
وأرضنا سبيّة قد رجّها الكدرْ
يا أيّها القدرْ ..
لماذا تكبر جراحنا ويأفل القمر
هل نحن يا ترى حقيقة بشرْ
وعمرنا ممزّق نراه يُحتضَرْ
لماذا كلّما ضحكنا نذرف الدموع
وكلّما فرحنا وابتسمنا للضياء
تعيدنا النهاية لموسم الرجوع
لحزننا .. لموتنا .. للحظة الشقاء
لماذا كلّما حلمنا بالغد الجميل
لنرسم الربيع في المآقي والعيون
تبعثر أحلامَنا الريّاح والصقيع
وتشمت بعمرنا مواسم الفناء ..؟؟
أتعلمين معنى أن نذوب في اشتياق
للحظة تعيدنا إلى ذرى الخلود
لقاؤنا حكاية عنوانها الفراق
أبطالها حياتهم تذوب في احتراق
كشمعة تعانق الهواء في سجود
يمتصّها .. يفتضّها ويمعن العناق
كأنّني ألامس مواكب الرّحيل
وأنظر من شرفتي وأسمع العويل
كأنّني أرى الدّموع تهمي في التياع
ووجه أمّي في الظلام يشرب الدموع
تلوّح بشالها .. بكفّها العليل
وصوتها الممزّق يلوذ بالشراع
ويقتفي المجاذف وينخر القلوع
والبحر قد تثاءب يمدّ ناظريه
واللّيل قد جثا هنا وأطبق الضّلوع
أمّاه .. قد أسْرجتُ ناظريّ للوداع
لألثم من ناظريك سكّر الرجوع
أمّاه حال دونك موج الأسى العنيد
وها أنا هنا كالطفل تائها شريد
يُتْمي بأنّي لم أذق حلاوة اللّقاء
ولم أعمّد ناظريّ منك بالعناق
أمّاه شاب قلبي هل ترى نعود
وهل لوجهي أن يعبّ من شذا الرحيق
أمّاه ليتني أكون ريشة تطير
كي ألثم جبينك وأنثر العقيق
من وجنتيك في المدى أعطّر الطّريق
أمّاه حال بيننا الزّحام والخطوب
وأدمى خافقي اشتياقي إنّني غريق
وزورقي الضرير تاه في دجى القلوع
والحلم شاخ والضنى يفتّت الضلوع
القطْر شحّ في ربانا والنّدى غريب
والزّهر شاخ أذبلته دمعة الحبيب
وأنتِ تسرجين من رعافي موكب النحيب
هنا التقينا والشذا يضمّخ اللّحود
ونجمة الصّباح قد جثت على ربى الخدود
وحلمنا الذي ارتكبنا هل ترى يؤوب ؟
يُكفَّنُ بموته وموتُه قريب
وقبره بظلمة العويل والنّحيب
يرتّل المواجع وينحر القلوب
أحلمنا يموت يستبيحه الغروب ؟
يُذَبَّحُ ومن وريده يلوّن الدروب
أتعلمين أيّ شيء يمنح الخلود
يقيننا بأنّنا نموت في سجود
للحظة تعيدنا إلى ذرى الشرود
إلى ضياعنا وشوقنا
إلى الفنا الفريد…
ثانياً: القراءة:
ثمّة فرق شاسع بين أن نكتب الحزن وأن يكتبنا حزننا. فالحالة الأولى تأخذ منحى التّعاطف وتتوسّل مشاعر الشّفقة. وأمّا الحالة الثّانية فهي دعوة إلى التّأمّل والتّفكّر وطرح الأسئلة الاستفهاميّة الّتي من الممكن أن تقود القارئ إمّا إلى تبيّن أسباب الحزن ونتائجه، وإمّا إلى تشكيل وجوديّ إنسانيّ جديد يخضع لأحداث حاضرة وواقع متفلّت من عنصر التّحكّم والإرادة.
هذا التّشكيل الوجوديّ نشهده في قصيدة الشّاعر شكري مسعي "ويكبر المحال"، ويتجسّد من خلال بنية القصيدة، ليعبّر الشّاعر عن ولادة حدث كبير لا يمكن التّعبير عنه إلّا بقصيدة يمتدّ فيها النّفَس. فالشّاعر هنا لا يشهد لحظة شعريّة وإنّما مواجهة هذا الحدث أو الأحداث المتراكمة الّتي تشكّل الحدث الأساس، ألا وهو تبدّل الواقع الّذي أدّى إلى التّشرذم والضّياع والموت بسبب ربيع ظُنَ أنّه مزهر للأوطان. فكتبَ الشّاعر الحدث شعراً؛ لأنّ الوسائل التّعبيريّة المتاحة لم تعد قادرة على التّعبير، وتناولها ببعد دراميّ يرتقي بالحدث إلى مستوى الشّعر، العالم المغاير للواقع والمختلف عنه. فأتت القصيدة غنيّة بعدّة مواقف شعوريّة وخبرات فرديّة وإنسانية متنوّعة. وهنا تكمن جودة العمل الأدبي الّذي حقّق الإبداع الجماليّ، وأثّر في نفس القارئ، فأتى العمل كاملاً متكاملاً. ومن أهم سمات هذا الإبداع الجماليّ: اللّغة الشّعريّة، الصّورة الفنّيّة، والموسيقى الشّعريّة.
– اللّغة الشّعريّة:
الشّعر تعبير عن وجدانيّة الشّاعر نفسه وعصارة وجدانه وخبرته وتجربته، إلّا أنّه في ذات الوقت لا ينحصر بالشّاعر فقط، بل هو مشاركة بين الشّاعر والمتلقّي. وبالتّالي فالشّاعر إذ يخاطب القارئ بوجدانه ومشاعره يتشارك معه في تجربته وواقعه، فيقف الطّرفان وكأنّهما أمام مرآة تعكس مقاصد الواحد للآخر. من هنا أهميّة اللّغة الشّعريّة عند الشّاعر شكري مسعي، الّتي خلقت انسجاماً بينه وبين المتلقّي. إذ سكب الشّاعر قصيدته في قالب جماليّ لغويّ تداخلت فيه الصّور والتّعابير المجازيّة الّتي استخدمها مستثمراً دلالتها وإيقاعها على نحو فريد ارتقى بالعمل الإبداعيّ. برزت منه لغة الشّاعر الخاصّة الّتي وإن كانت تعبّر عن قضايا حاضرة في أذهان الكثير من الشّعراء والأدباء، إلّا أنّها متفرّدة في هذه القصيدة، مشحونة بالعاطفة الوجدانيّة.
وعند استقراء اللّغة الشّعريّة في قصيدة "ويكبر المحال"، نقف عند سمات أسلوبيّة جماليّة، كالتّكرار اللّفظي الّذي يوليه الشّاعر عناية خاصّة، ليسلّط الضّوء على نقطة حسّاسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المخاطب.
تتكرّر جملة (أتعلمين) ستّ مرّات، لتؤكّد من جهة البحث عن أسباب التّردّي الواقعيّ. (أتعلمينَ ما الذِي يُوَرِّدُ الفصُولْ/ وما الذِي يُضَمِّخُ البريق في البِحَارْ/ وما الذِي يُعَطِّرُ مَوَاسِمَ الكَلامْ / وما الذِي يُرَتِّقُ الجِراحَ فيِ المحَارْ/ وما الذِي يُعَتِّقُ سُلافَةَ الحَرامْ)، وهنا يظهر لنا تكرار عبارة (ما الّذي) لتكثيف معنى البحث التّأمّليّ، وإمعانه في طلب الجواب. (أتعْلَمِينَ كيْفَ صِرْنا نَطْلُبُ الُمحَالْ)، (أتعلمينَ أَنَّنَا نُبَاعُ في المَزادْ)، (أتعلمينَ مَعنَى أنْ نَعِيشَ مُعْدَمينْ)، (أتعلمين معنى أن نذوب في اشتياق). ومن جهة أخرى دلالة على النّقص استناداً إلى العدد (ستة) ليظهر الكاتب مرارة الواقع وعدم اكتماله، حتّى يتراءى لنا الاكتمال في يقين الموت (أتعلمين أيّ شيء يمنح الخلود/ يقيننا بأنّنا نموت في سجود). كذلك تكرار كلمة (معنى) ليغوص الشّاعر أكثر في تفكيك أسباب الواقع وتحديد المفاهيم واستنباط ما يمكن استنباطه من فحوى الأحداث.
(أتعلمينَ مَعنَى أنْ نَعِيشَ مُعْدَمينْ
ونلبْسَ التَّعاسَةَ بِغُربَةِ الوجُودْ
وأرْضُنا سَبِيَّةٌ وَعُمْرُنَا سَرابْ
ومعنَى أنْ نُهَجَّرَ وَنَشْرَبَ العَذَابْ
ومعنَى أنْ نُشَرَّدَ وَأَرْضُنا خَرابْ
ومعْنى أَنْ نَضِيعَ في غَمَامَةَ الضَّبَابْ)
كما نلحظ تراكم الأفعال الدّالة على حركة مكثّفة في النّصّ الشّعري تبيّن لنا المظهر الجماليّ كالأفعال (يُوَرِّدُ، يُضَمِّخُ، يُعَطِّر، يُرَتِّقُ، يُعَتِّقُ). وهنا نشهد تأثير الطّبيعة في اللّغة الشّعريّة الّتي تحيلنا إلى ربيع يفتّش عنه الشّاعر في الواقع.
(أتعلمينَ ما الذِي يُوَرِّدُ الفصُولْ
وما الذِي يُضَمِّخُ البريق في البِحَارْ
وما الذِي يُعَطِّرُ مَوَاسِمَ الكَلامْ
وما الذِي يُرَتِّقُ الجِراحَ فيِ المحَارْ
وما الذِي يُعَتِّقُ سُلافَةَ الحَرامْ
جُنُونُنَا اللَّذِيذْ
يَقِينُنَا المُمَزَّقُ عَلَى ذُرَى الفِطامْ
وأَلْفُ ألْفُ مَوْتَةٍ يَرُجُّهَا احْتِضَارْ
وبَعْضُ مَا نُخَبِّئُ لِرِحْلَةِ الغَرامْ)
كذلك الأفعال (نطلب، نَسْأَلُ، تَسْتَحِي، يخَجْلُ، يُحَدّقُ، ينْثُرُ)، دلالة على تتابع الأحداث وتدرّجها، وتبلور الرّبيع الحاضر في ذهن الشّاعر وانفصاله عن ماهيّته الأصيلة.
(أتعْلَمِينَ كيْفَ صِرْنا نَطْلُبُ الُمحَالْ
ونَسْأَلُ الضِّياءَ أنْ يُعاشِرُ الظلامْ
وتَسْتَحِي النِّساءُ مِنْ بُرودَةِ الرِّجالْ
ويخَجْلُ الصّغارُ منْ تَفاهَةِ الكِبارْ
يُحَدّقُ الجَرادُ في شَرانِقِ الغُصونْ
واللّيْلُ بِالمعَاوِلِ يُمَزِّقُ النَّهَارْ
وينْثُرُ الرَّمادَ في مَحاجرِ العيُونْ
ربيعُنَا حُطامْ .. وَعُمْرُنا رُكَامْ)
ومن سمات جماليّة اللّغة الاستفهام الّذي نستدلّ من خلاله على الحوار الذّاتيّ للشّاعر الّذي يعرب عن ألم ولوعة، سواء أكان هذا الاستفهام إنكاريّاً؛ ليثبت للمتلقي حزنه وألم، أم كان تقريريّا ليثبت حقيقة ما يرى من وجع الواقع الأليم.
(أهذه حياتنا أم نحن في ضياع/ أهذا حلمنا الذي من أجله نباعْ)، (لماذا تكبر جراحنا ويأفل القمر/ هل نحن يا ترى حقيقة بشرْ)، (لماذا كلّما ضحكنا نذرف الدموع)، (لماذا كلّما ضحكنا نذرف الدموع)، (وحلمنا الذي ارتكبنا هل ترى يؤوب ؟)، (أحلمنا يموت يستبيحه الغروب ؟). هذه الاستفهامات المتتابعة أوضحت مونولوجاً داخليّاً في نفس الشّاعر بسبب الهموم الّتي تسبّب بها ما ظُنّ ربيع مزهر.
– الصّور الفنّيّة:
تتحقّق جماليّة النّصّ الشّعريّ عند الشّاعر شكري مسعي في رسم الصّور التّشبيهيّة الّتي مرادها إظهار الحالة النّفسيّة الّتي خضع لها الشّاعر أثناء كتابة القصيدة:
(يا أيّها الخريف..
لماذا كلّما نطقتَ تصفع الشّجرْ
وتذبح الغصون، والورود والزّهرْ
وتشرب الرّحيق من عصارة المطرْ
وتغرق الضريرَ منّا تدهس الضّعيف)
لقد خلق لنا الشّاعر في هذه الصّور حالة القمع والظّلم والتّسلّط والقتل. فشبّه الخريف بهمجيّ إرهابيّ يتعدّى عمداً على كلّ ما هو رقيق لطيف ضعيف وبريء، وكأنّي به عدوّ محارب للرّبيع المتمثّل بالشّجر، والورود، والزّهور.
كما ترد في القصيدة الصّور المؤرّخة للواقع، وبها يلعب الشّاعر دور الشّاهد على مآسي الواقع فينقله كما هو للقارئ حتّى يتشارك معه في النّقمة على الأزمة والحزن والاغتمام.
(كأنّني ألامس مواكب الرّحيل
وأنظر من شرفتي وأسمع العويل
كأنّني أرى الدّموع تهمي في التياع
ووجه أمّي في الظّلام يشرب الدّموع
تلوّح بشالها .. بكفّها العليل
وصوتها الممزّق يلوذ بالشراع
ويقتفي المجاذف وينخر القلوع)
كذلك الصّور التّشخيصيّة المراد منها توظيف عناصر الكون في الوجع والألم بإدخال الإحساس إلى ماديّتها تعبيراً عن فظاعة الواقع ومرارته (والبحر قد تثاءب يمدّ ناظريه/ واللّيل قد جثا هنا وأطبق الضّلوع). وحفلت القصيدة بالكثير من الصور البلاغية التي تداخلت فيها عناصر التجسيم والتشخيص إلى حد صياغة الصور المركّبة، ومن تلك الصّور (وما الذِي يُضَمِّخُ البريق في البِحَارْ؟/ وما الذِي يُعَطِّرُ مَوَاسِمَ الكَلامْ؟)، فجعل الشّاعر المعنويات محسوسة ليقرّبها إلى ذهن المتلقي، كما أنّ هذه الصّور مكّنته من إضفاء الرّوح الجماليّة الشّعريّة، فرسم الشّاعر لحروفه لوحته الخاصّة.
– الموسيقى الشّعريّة:
تشكّل القوافي جزءاً مهمّاً من الموسيقى الشّعريّة وتمنحها إيقاعاً يستمتع به القارئ وكأنّي به يصغي إلى معزوفة موسيقيّة. تنوّعت القوافي في قصيدة "ويكبر المحال" ولم تتركّز على قافية واحدة:
(أتعلمينَ ما الذِي يُوَرِّدُ الفصُولْ
وما الذِي يُضَمِّخُ البريق في البِحَارْ
وما الذِي يُعَطِّرُ مَوَاسِمَ الكَلامْ)
/
(لماذا تكبر جراحنا ويأفل القمر
هل نحن يا ترى حقيقة بشرْ
وعمرنا ممزّق نراه يُحتضَرْ)
/
(لماذا كلّما ضحكنا نذرف الدموع
وكلّما فرحنا وابتسمنا للضياء
تعيدنا النهاية لموسم الرجوع
لحزننا .. لموتنا .. للحظة الشقاء)
وإن دلّ هذا التنوّع على أمر فهو يدلّ على حالة الشّاعر النّفسيّة، والحالة الشّعوريّة الذّاتيّة الّتي من خلالها يتّضح لنا إيقاع الألم القائم في نفسه، وتراكم الأفكار والعواطف ممّا يساعده على التّعبير ويمنح القصيدة بنية جماليّة إبداعيّة. لقد أفصح إيقاع القصيدة إيقاع الشّاعر الدّاخليّ ونقل لنا حركة مشاعره، كما هواجسه وهمومه وبعض من الأمل المفتوح على الفناء الفريد.
(أتعلمين أيّ شيء يمنح الخلود
يقيننا بأنّنا نموت في سجود
للحظة تعيدنا إلى ذرى الشرود
إلى ضياعنا وشوقنا
إلى الفنا الفريد…)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.