"أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّماوات". ( متى 44:5). عندما نتحدّث عن فكر مسيحيّ، نحن بصدد الولوج في فكر مغاير لفكر العالم. نستدلّ في هذا الفكر على كلام الرّبّ المناقض للمعاني البشريّة. فكلّ كلمة نطق بها المسيح شكّلت دعوة إلى الكمال. " كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ كامل." ( متى 48:5). ولفهم المعنى العميق للكمال، ينبغي الاستدلال بكلمة السّيّد، والاقتداء بشخصه. كما يلزم التّأمّل بدقّة وتأنٍّ بكلمته والولوج في عمق الكلمة حتّى نتبيّن مقاصد الرّبّ. – أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. المحبّة الّتي أوصى بها الرّبّ هي محبّة على مثال الإله لا محبّة بحسب العاطفة البشريّة. وبالتّالي فالدّعوة إلى محبّة الأعداء تنطلق من فعل حبّ إلهيّ لا إنسانيّ، إذ لا يمكن للعاطفة البشريّة أن تظهر الحبّ بذاتها للعدو، وستتعامل بردّة فعل مماثلة تلقائّيّاً. إلّا أنّ المحبّة الّتي تمكّن الإنسان من محبّة أعدائه، هي المحبّة الإلهيّة. وإذا قرأنا الآية من الخارج، سنجد تناقضاً ملموساً ( أحبّوا/ أعداءكم)، وأمّا إذا تعمّقنا في خفاياها سنتبيّن قوّة الغفران في تغيير وجه البشريّة، وتحويل مسار التّاريخ. لمّا كان يلزم المسيحيّ أن يحبّ على مثال سيّده، انتفى معنى العداوة. فليس للمسيحيّ عدوّ، لأنّه ينظر إليه كإنسان وشريك. وأمّا كلمة الرّبّ ( أحبّوا أعدائكم) قد تساوي عبارة ( أحبّوا معاديكم). فالمعادي هو من يظهر العداء والكراهية، وأمّا المسيحيّ فيحافظ على محبّته دون أن يعتدي ويعتبر الآخر عدوّه مهما كانت الظّروف. إلّا أنّ هذه المحبّة تفترض مواجهة، ومقاومة. مواجهة للحقد والكراهية، ومقاومة لردّات الفعل الإنسانيّة الطّبيعيّة. فيحافظ المسيحيّ على محبّة الله فيه من جهة، ومن جهة أخرى يوجّه المعادي بالمحبّة إلى السّبيل القويم. بمعنى آخر، المحبّة تفترض الرّدع عن الشّرّ، والمسامحة تأتي في سياق التّوجيه والإرشاد الصّامت، أي عدم الرّد بالمثل من جهة، ومن جهة أخرى تسليط الضّوء على الخطأ، وإلّا فنحن بصدد إغراق الإنسان في شرّه. على من أخطأ أن يعلم خطأه ويتداركه ويتحمّل مسؤوليّته، وإلّا فما معنى المحبّة، وأين تكمن قوّتها؟. – صلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّماوات". الصّلاة صلة الوصل في جسد المسيح، وهي حوار الحبّ غير المنقطع بين الإنسان والله، بعيداً عن الفروض والواجبات الدّينيّة. إنّها اللّقاء الّذي لا ينتهي، والقوّة المستمدّة من السّماء والحالّة على الأرض. الصّلاة من أجل المسيئين إلينا، هي دعوة لمعاينة إساءاتنا أوّلاً. وبقدر ما نعي مدى ضعفنا ونقصنا، نفهم ضعف الآخر ونصلّي من أجله. ولكن هذا لا يعني أن نسمح له بتخطّي حدوده، وإظهار تخاذل في ردّة فعلنا. على المسيء أن يعلم فداحة فعله، ويلمس في ذات الوقت قوّة محبّتنا ونحن نصلّي من أجله عودته عن هذا الفعل. فخرنا أنّنا أبناء لله، وعلى مثال أبينا نكون، وبحسب تربيته نسلك. نحبّ ونغفر بقلبه، ونصلّي بكلمته، ونبارك ببركته. وهنا تكمن كلّ قوّتنا وشجاعتنا، لأننا قبلنا الحبّ التّحدّي. نحبّ لأنّنا أقوياء، ونغفر لأنّنا نحمل في داخلنا قلباً إلهيّاً، ونصلّي من أجل من يطردوننا لأنّنا نريدهم شركاء معنا في الإنسانيّة وفي الملكوت السّماويّ. ما يعبّر عنه القدّيس يوحنا الذّهبي الفم: " المسامحة هي الفضيلة الّتي لا تسمو عليها أيّة فضيلة أخرى"، لأنّها وقوف أمام الّذات ونقصها، قبل إدانة الآخر. وهي المصالحة مع الذّات كخطوة أولى، ثمّ المصالحة مع الآخر.