قليلون هم : _ أولئك الذين يبحثون عن الذهب وسط جبال عالية من الرمال ، ليتمكنوا من الحصول عليه ،لأنهم يمتلكون القدرة على التفريق بين الذهب والرمال ، وكذا كل علم حقيقي في الحياة وكل نقد جاد في الفنون والآداب . وأظنني من أوائل الذين تناولوا القصة الشاعرة بالنقد منذ ميلادها على يد مخترعها الشاعر / محمد الشحات محمد ، فقد هيأت لي الأقدار لقاءه أثناء المخاض ، حينما بدأ الشاعر في انتاج القصة الشاعرة ، ووضعها وانتبذ بها مكانا قصيا ، وكحال كل مخترع في الشرق والغرب تكال له الاتهامات ممن يعرف وممن لا يعرف، فقائل يرى أن القصة الشاعرة قديمة في أدبنا العربي ويدلل على القصة الشعرية التي كان الشاعر العربي يذكرها في قصيدته كما هو الحال عند امريء القيس وقصته مع فاطمة محبوبته : أ فاطمُ مهلا بعد هذا التدلل وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملِ أغركِ مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ وكما هو الحال مع المنخل اليشكري ومحبوبته حيث يقول :_ ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطيرِ فدفعتها فتدافعت مشي القطاة على الغديرِ ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي الغريرِ واحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري أو كالقصص الشعري في عصور الأدب العربي المتوالية ، أو كالشعر القصصي ، ليتهم حتى يفرقون بين القصة الشعرية وبين الشعر القصصي . وقائل آخر يزعم أن هذا الجنس الأدبي الجديد هو تطور طبيعي للشعر يسبق قصيدة النثر ، منكرا على الأديب حق الاختراع مثله مثل العالم الطبيعي . بيد أن النقاد في عصرنا حينما يتناولون النص الأدبي فإنهم يدخلون للنص بثقافتهم هم ، مما يجعلهم يلوون عنق النص لفهمهم الخاص وليس لفهم النص في ذاته . وقد أثرت هذه النقطة في أكثر من مؤتمر أدبي ، حيث إنها تمثل خطورة النقد على النصوص الأدبية ، فالناقد يحاول التقعيد للنص حسب مفهومه ، وليس حسب التشكيل والتقنية التي ابتدعها النص ، مما جعلهم لا يرون في القصة الشاعرة نوعا مستحدثا أو مستطرفا في الأدب العربي . وبعبارة أخرى حينما أتناول نصا شعرياً لشوقي يمتدح فيه السلطان سعيد ، فلن يمكنني أن أدخل على النص إلا بثقافة شوقي ومعرفته وعلاقته بالسلطان سعيد ، وبخبرة شوقي في التقنية الشعرية والتشكيل الفني للنص . أما إذا دخلت أنا بثقافتي ومعرفتي بالسلطان سعيد ، وبعلاقتي أنا به ، فلا شك أنني أقرأ كلاما وانتقد نصا من منظوري الشخصي وليس من المستوى الشعري أو المستوى الاجتماعي الذي نبع منه النص وصب فيه مرة أخرى . رغم غياب هذا الفهم عن النقاد على مستوى العالم إلا أنني أراه من المسلمات . خاصة وان مشكلة النص الأدبي تقبع في التشكيل اللغوي وليس في المعاني ، وقد سبق الجاحظ نقاد العالم حينما دلل على ذلك بأن المعاني ملقاة في الطريق يلتقطها كل لاقط ، ولكن المشكلة في كيفية تقديم هذه المعاني ، وهذا ما فطن إليه النقد الأوربي حديثا حينما بحثوا في أدبية النص ، لا في معانيه . باعتبار أن النص يقدم دلالات وشواهد قبل أن يقدم المعاني والمفردات . وتقبع مشكلة الأديب _ أي اديب _ في كونه يستخدم الوسيلة التي يستخدمها عموم بني قومه ، وهي اللغة ، فهو يختار مفردات على سبيل الاصطفاء لتبلغ ما يريده من رسالة . واللغة ليست كأي اداة أو وسيلة ، فكل صانع يقدم انتاجه دون وسيلته ، وعلى سبيل التمثيل ، فإن النجار حينما ينتهي من صناعة المنضدة ويعرضها للجمهور المشتري فإن الأدوات المستخدمة من منشار وقادوم وشاكوش وغيرها تنفصل عن المنتج نهائيا ، وكذا كل الصناعات ، ولكن صناعة الأديب لا تفصل بين الأداة وبين المنتج ، فالأداة هي اللغة التي تذهب مع المنتج وتذهب به ، وتقوم بعرضه . ومن ناحية أخرى فإن هذه اللغة لها مفهوم يشترك فيه جميع الناطقين بها ، مما يزيد المسئولية على الأديب ليحدث نشاطا مغايرا في هذه اللغة . الأداة من ناحية التوظيف والاصطفاء على سبيل الاختيار بحرية ، ووقوع الأداة في يد عامة المتكلمين باللغة تجعل الأديب الحق في مشكلة كبيرة ، وهذا ما يجعلنا نقول أن كثيرا مما يكتبه الكتاب ويحسبونه أدبا ليس بأدب ولكنه نوع آخر غير الأدب . من هذه المنطلقات المتعددة يمكننا التقعيد للقصة الشاعرة على سبيل الابتكار ، فلم تكن وجهة نظري من العنوان ترمي إلى تحديد جوانب الابتكار وجوانب التقعيد للقصة الشاعرة ، لأن القصة الشاعرة جنس مبتكر فكان من الضروري أن يكون النقد على مستوى مسئولية هذا الابتكار . وليس هذا من قبيل التحيز للأفكار المبتكرة بقدر ما هو وصف لواقع القصة الشاعرة ، التي تمثل ابتكارا يحتاج لتقعيد من نقادنا العرب ، وحتى ينسب الفضل لمخترعها الشاعر المصري العربي / محمد الشحات محمد ، ولا ينسب لغيره ، كما حدث سابقا مع علوم البلاغة والنقد التي نُسِبَتْ للأوربيين كنسبة الدم للذئب على قميص يوسف ، وكنسبة البنيوية الشكلية لحلقة براغ ، وكنسبة التوليدية للوسيان جولدمان .