أعَدْتُ مؤخراً قراءتي لكتاب "كنزا ربا"، الكتاب المقدس للصابئة المندائيين، في طبعته العربية الصادرة ببغداد عام 2000، بعد ترجمتها من اللغة المندائية، بواسطة لجنة الترجمة المُشَكَّلة عام 1997، والمكونة من مجموعة من علماء اللغة الآرامية والمتخصصين في الاصطلاح المندائي وشريعته، إضافة لعدد من اللغويين والشعراء العرب. يُشَكِّلُ البحثُ في شؤون الأديان المقارنة جزءاً لا يتجزأ من اهتماماتي الأثيرة إلى نفسي، منذ زمنٍ بعيد، وهو ما امتد أثرُه على نواحٍ عديدةٍ من حياتي، بدايةً من تَوَجُّهي البحثي الأكاديمي؛ فكانت أُطروحَتي للماجستير بعنوان "المعالجة الفنية لفكرة الموت في أعمال الحفر والطباعة"، تَلَتها أُطروحَة الدكتوراة بعنوان "المعالجة الجرافيكية لفكرة الشيطان ورموز قوى الشر الغيبية"، وهما موضوعان – الموت والشيطان – مِحوَريان في بِنْية كافة الديانات، الوثنية منها والسماوية. كما ظهر أثر هذا الاهتمام في العديد من مؤلفاتي، سواء الفنية منها، أو التي تعالج موضوعات أخرى؛ ككتابي "فنانون وهراطقة: شفرات سرية في أعمال رواد الفن"، الذي عالج فكرة الهرطقة خارج سياقها الاعتيادي، وعلاقتها بعالم الفنون والرموز البصرية، وكذا كان الحال في عدد من عناوين كتبي التي تناولت موضوعات ذات صلة بحقول الأنثروبولوجيا والخوارق والتراث الغيبي للحضارات القديمة. ومن الديانات التي طالما توقفتًُ عندها بالتأمل والدراسة ومحاولة الفهم، الديانة "المندائية"، المعروفة في السياق العربي باسم ديانة "الصابئة"، وهم أتباع دين كتابي توحيدي، ينتسبون في شريعتهم لسيدنا "يحيى بن زكريا" – عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام – الذي يعرفونه بالاسم "يحيى"، الذي يشاركهم في استعماله المسلمون تصديقاً للنص القرآني الكريم، كما يعرفونه باسم "يوحنا"، كما هو معروف لدى الإخوة المسيحيين وفقاً للكتاب المقدس. كما يعتقد الصابئة المندائيون أن كتابهم المقدس "كنزا ربا" هو التعاليم الربانية التي أُعطِيَت لآدم عليه السلام، والتي أكملتها صُحُف "إبراهيم" عليه السلام، لتُجددها شريعة "يحيى" عليه السلام. وال"كنزا رَبّا" يُنطَق "جنزا رَبّا"، غير أنه يُكتَبُ بالكاف الفارسية (گ) – أو ال"جيم المعقودة"، أو (الجاف) كما يسمّيها أشِقّاؤنا العراقيون، والتي تُنطَقُ كالجيم المصرية (غير المُعَطَّشة)؛ وذلك على النحو: "گنزا رَبّا"، وهو الكتاب الأَهَمّ من كتب الصابئة، ويليه في الأهمية كتاب "دراشة إد يِهيا" – بمعنى (تعاليم يحيى)، الذي يضم مجموعة من التعاليم والشروح، التي يعتقد الصابئة في نِسبَتِها إلى النبي "يحيى بن زكريا" عليه السلام. ويتميز ال"كنزا رَبّا" بميزةٍ فريدة، وهي إمكانية قراءته من اليمين واليسار، في نَصَّين مختلِفَين مُتكامِلَين. تتشابه الديانة المندائية في العديد من نواحيها، بشكل مدهش، مع كُلٍّ من المسيحية والإسلام؛ ومن أمثلة هذه التشابهات: وضوء الصلاة، الذي يكاد يتطابق مع الوضوء الإسلامي، وكذلك العديد من النواهي والتعاليم الأخلاقية والتعَبُّدية التي تتطابق مع كثرة من أحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك الحال مع كثير من اعتقاداتهم وتشريعاتهم التي تتطابق مع المعتقد المسيحي وشريعته في جوانب أخرى كثيرة. وتتميز ديانة الصابئة المندائيين باحترام أتباعها لكافة رُسُل الديانات السماوية وأنبيائها، كما يتميزون بالوداعة والمِسالمة، والميل للزهد في متع الدنيا. ومن الحقائق ذات الدلالات المهمة أن القرآن الكريم قد ذكر الصابئة في عددٍ من آياته بِنَصٍّ صريح، في سياق الحديث عن الإيمان والعمل الصالح، وكذلك في سياق الحُكم بين الأديان يوم القيامة، قارناً بينهم وبين أتباع الديانات السماوية الكبرى الثلاث: المسلمين، واليهود والمسيحيين؛ وهو ما يتجلى في الآيات التالية: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". البقرة (62). "إنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". المائدة (69). "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ". الحج (17). جديرٌ بالذكر أن اللجنة التي أشرفت على ترجمة الكتاب للعربية، وتحريره وصياغته ومراجعته، تتكون من اللغويين والأدباء وباحثي الديانة المندائية الآتية أسماؤهم: السيد بشير عبد الواحد يوسف … رئيساً للَّجنة السيد داخل يوسف عمارة … عضواً للجنة السيد حمودي مطَشَّر … عضواً السيد نزار ياسر صكر .. عضواً ثانياً: أعضاء الترجمة من الآرامية إلى العربية: أ. د. صبيح مدلول السهيري الدكتور يوسف متي قوزي أستاذ اللغات السامية ثالثاً: الصياغة اللغوية للشاعر العراقي المعروف عبد الرزاق عبد الواحد رابعاً: لجنة التدقيق والسلامة الفكرية: الدكتور أنيس زهرون داغر السيد أمين فعيل حطاب السيد سميع داود سلمان السيد همام عبد الغني غياظ السيد صلاح جبار عوفي