وهكذا كان " فوكبوكر " يحيا في فقر وبؤس ولكن في أمان من مكائد ديوان التفتيش .. بل من سخرية الزمن أن " فوكبوكر " الملقب بالهرطقي كان أكثر أمناً على نفسه من ديوان التفتيش المرعب أكثر من راعي الكنيسة نفسه ! ولكن ماذا عن " فوكبوكر " نفسه ؟! ............................ كانت قرية ( جيوبانيان ) تطل على نهر ( الجارون ) وكان هناك مرفأ للنهر ولكنه كان على الناحية الأخرى لأن شاطئ النهر المار أمام القرية المنكودة كان بالغ السوء ولا يصلح إطلاقاً لإقامة المرفأ .. وهكذا ؛ ولسوء حظها الذكر ؛ حرمت القرية البائسة من مرفأ كان يمكن أن يكون مصدراً لرزق الكثير من سكانها .. وقد تعود سكان ( جيوبانيان ) على رؤية السفن المارة في النهر ومشاهدتها وهي تلقي مراسيها على الشاطئ الآخر وتمكث قليلاً ريثما تواصل مسيرتها .. ولكن وفي الثاني عشر من ديسمبر عام ، وبينما كانت الاستعدادات تجري للاحتفال بعيد الميلاد الذي تبقي عليه أسبوعين حدث شيء غريب .. فقد شاهد بعض سكان القرية وقت الغسق سفينة غريبة الشكل تسير بمحاذاة شاطئ القرية .. في البداية اعتقدوا أن قائد هذه السفينة أحمق أو أعمي لا يري أن المرفأ يقع على الناحية الأخرى ، لذلك تطوع بعضهم وأخذ يصيح منادياً قائد السفينة مخبراً إياه أن المرفأ أمامه على الناحية الأخرى .. وفي المرفأ لاحظ عماله جنوح السفينة نحو الشاطئ الآخر فأشعلوا مشعلاً ضخماً وأخذوا يلوحون به مراراً منبهين ربان السفينة إلى المرفأ الصحيح .. ولكن الغريب أن السفينة لم تتحرك من مكانها قيد خطوة ! وطبعاً لم يبالي سكان ( جيوبانيان ) بهذه السفينة ولا بقائدها الأحمق بل هرعوا إلى داخل بيوتهم وأكواخهم بمجرد أن غاصت الشمس في البحر أمام عيونهم تاركين السفينة وأمرها لمن يهمه أمرها ! وهكذا لم يعد هناك من يرقب هذه السفينة الغريبة سوي " فوكبوكر " ! ............................ كعادته غادر " فوكبوكر " مخبأه النائي في أطراف القرية مع حلول الليل ؛ مثلما تفعل البوم والفئران ؛ ليبحث عن رزقه في القرية التي لا يجرؤ على دخولها نهاراً ! وفي هذا المساء لاحظ مثلما لاحظ غيره من قبل وجود هذه السفينة الغريبة في النهر أمام القرية مباشرة .. وفي البداية أتخذ " فوكبوكر " نفس الموقف الذي أتخذه سكان القرية وأعتبر الأمر لا يعنيه .. ومضي يبحث عن فضلات الطعام وفتات الخبز والحيوانات الداجنة الميتة ! والغريب أنه لم يجد شيئاً .. ظل أربعين عاماً يعيش على فضلات الطعام وبواقيه التي يجمعها من طرقات القرية وشوارعها وكان كل يوم يجد ما يكفيه .. ولكن الليلة ؛ والليلة بالذات ؛ لم يجد شيئاً يذكر ! تعجب " فوكبوكر " لذلك أشد العجب .. لابد أن كارثة مهولة حلت بسكان القرية الملاعين ! وظل المسكين يجوب الشوارع شارعاً شارعاً متحاملاً على قدميه العرجاوتين جاراً خلفه حدبته البشعة باحثاً عن كسرة خبز واحدة .. ولكنه لم يجد شيء بالمرة ! وأضطر " فوكبوكر " للعودة لمخبئه والبقاء هذه الليلة بدون طعام .. وكم عذب الجوع المسكين هذه الليلة وقرح جفونه البكاء ! .......................... في الصباح لم يستطع " فوكبوكر " أن يصبر على آلام الجوع أكثر من ذلك .. وهكذا ؛ ولأول مرة في حياته ؛ خرج الأحدب القبيح من مخبئه في وضح النهار وأمام كل سكان القرية الذين استبدت بهم الدهشة لرؤيته هكذا جهاراً نهاراً .. ومضي " فوكبوكر " بثقة رجل هده الجوع يسير في طرقات القرية غير مبال بالنظرات الساخرة النارية له ولا بهمسات الحسناوات الصغيرات وضحكاتهم الماجنة عندما يمر بهن .. وتوجه " فوكبوكر " نحو منزل " مارتاين " ثري القرية وعمدتها ودق الباب في إصرار .. وبعد دقائق فتحت له الباب خادم صغيرة أقرب للأطفال فقال لها " فوكبوكر " غير ملق بالاً لاشمئزازها ولا ذعرها من منظره المخيف : " قولي لسيدك أن يعطيني طعاماً ! " فنظرت له الخادم طويلاً بذعر ثم تركته واقفاً أمام الباب وأسرعت إلى الداخل .. وسمع " فوكبوكر " من مكانه عند الباب صوت كلام هامس ، تحول بعض ثانية لأصوات شجار عالية تخللها صوت صفعة قاسية واضح .. ثم بعد ثانية وجد رجلاً ضخماً يأتي من أعماق المنزل حاملاً طبقاً به قشور بصل وقشور بطاطس ويلقيه عليه بما فيه .. وترددت ضحكات من في البيت وأيضاً سكان القرية الذين كانوا واقفين يشاهدوا هذه المسرحية الهزلية ! وأحمر وجه " فوكبوكر " وصرخ بصوت وحشي مخيف لا يقل إخافة عن منظره : " أتضحكون يا حثالة المخلوقات ؟! أيسركم هذا الذي ترون ؟! أنتم تأكلون حتى تنتفخ أوداجكم وتستلقون على أسرتكم وتنامون بين زوجاتكم وأبنائكم وتستكثرون كسرة الخبز على جائع مثلي ؟! " تلفت الناس لبعضهم غير مصدقين بينما واصل " فوكبوكر " دون خوف : " أنتم حرمتم على الطعام والشراب وحرمتم على نور الشمس وأجبرتموني على البقاء بعيداً عن قريتكم العفنة .. عليكم اللعنة .. عليكم اللعنة .. ليلعنكم الشيطان .. ليأخذكم الشيطان ! " ومضي " فوكبوكر " مبتعداً وهو يردد بغل أسود : " ليلعنكم الشيطان .. ليلعنكم الشيطان ! " وبمجرد أن أختفي انفجرت عاصفة من الكلام والحوار والجدال الساخن بين أهل القرية المتجمعين عند باب بيت " مارتاين " .. وأخذ كل منهم يدلي بدلوه في هذه العجيبة التي حدثت أمامهم لتوها .. وحتى العمدة بجلال قدره خرج من داره ليشترك في النقاش حول هذا الذي حدث لتوه .. وطال الجدال وأمتد وتشعب .. وما بين ساخر وغاضب وخائف ومستهزأ دار نقاش طويل .. ولكن أخطر ما في الأمر أن الجميع اتفقوا على نتيجة واحدة وهي أن " فوكبوكر " ساحر يستعين بالشيطان بدليل ترديده للعنات الشيطانية ، وكذلك أنه هرطقي .. ولابد من إبلاغ أمره إلى مندوب ديوان التفتيش ! الجزء الثالث غدا إن شاء الله