كان " فوكبوكر " يعيش في الزمن الذي كان فيه الغرب يعيش حياة بدائية همجية كحياة الحيوانات البرية .. كان " فوكبوكر " يعيش في زمن الخرافات والأساطير والتخاريف والرعب الخرافي المجنون .. كان " فوكبوكر " يعيش في زمن السحر والساحرات والمتهمين بالسحر .. كان " فوكبوكر " يعيش في الزمن الذي كانت فيه أي فكرة جديدة أو كلمة لم تقال من قبل أو أي لمحة من فهم أو ذكاء تعتبر هرطقة ! كان " فوكبوكر " يحيا في الزمن الأسود .. زمن الهرطقة ! .................................. في عام 1212م وبينما كان " نيقولا " و" ستيفن " يقومان بالدعوة للحملة الصليبية العجيبة المسماة حملة الأطفال في القرى والمدن المليئة بالفقر والبؤس والمحرومين داعين إياهم إلى جنة وهمية لن ينالونها أبداً .. وفي قرية فرنسية صغيرة تضج بالفقر والحرمان ومظالم الإقطاعيين المجردين من كل معاني الرحمة كانت هناك غانية فقيرة تدعي " سيبيل " .. ولم تكن " سيبيل " سوي واحدة من عشرات مثلها من فتيات الفلاحين الذين لم يجدوا أمامهن مورد للرزق سوي أحط مورد في الكون .. بيع أجسادهن لمن يدفع لهن قروش قليلة تكفي للحصول على الخبز الأسود الحاف بدون غموس طبعاً .. فالغموس حكر على السادة والنبلاء ! وهكذا تنقلت " سيبيل " من رجل إلى رجل .. ومن كلب إلى كلب .. ومن حيوان إلى حيوان .. حتى وصلت إلى آخر حيوان والذي كان لقاءها به نكبة عليها ..فقد انتهت علاقتها العابرة به بحمل غير مرغوب فيه طبعاً ! .................................. ولم يكن الحل صعب فما أكثر وأرخص وسائل الإجهاض في قرية بائسة كهذه .. حيث تفضل الكثير من النساء قتل أطفالهن قبل مولدهم بدلاً من رؤيتهم يتضورون جوعاً بعد ذلك .. وهكذا بدأت " سيبيل " في التجربة .. جربت هذا وذاك ، ونفذت تلك الطريقة وهذه وتلكم دون فائدة تذكر ! فالجنين كان مصراً على البقاء والتشبث بالحياة ويبدو أنه فعلاً وكما قالت " سيبيل " لواحدة من رفيقاتها التعيسات : " يبدو أنه جنين أحمق يعتقد أنه سيجد خبزاً يأكله عندما يولد و ..... " وطبعاً كان الباقي تجديف مريع .. فالتجديف كان بمثابة حق طبيعي لكل مواطن بائس في تلك القرون السوداء ! المهم أن شهور الحمل مرت سريعاً وجاء يوم الولادة الأسود .. أسوأ يوم في حياة " سيبيل " وفي حياة " فوكبوكر " أيضاً ! ........................... كانت قابلة القرية امرأة عفنة ذات أسنان سوداء نخرة وعيون متقاربة كعيون البومة وعود نحيل أنحل من عود القطن .. ولكنها حقاً كانت تجيد عملها وتستطيع ؛ بلا فخر ؛ أن تسحب أي جنين خارج رحم أمه مهما بذل من جهد ليبقي في الداخل ومهما تمسك بموقفه فقد كانت دائماً الكلمة العليا ل" فورستينيه " ! ولكن هذه المرة لا يدري أحد ما حدث .. فالجنين ؛ فيما يبدو ؛ كان عنيداً أكثر من المعتاد وكان إصراره على عدم مغادرة الرحم أقوي من محاولات القابلة لإخراجه .. وهكذا فقدت " فورستينيه " أعصابها وجذبت الجنين بقوة رهيبة وهي تصرخ فيه : " أخرج عليك اللعنة ! " وبالفعل خرج الجنين .. ولكن اللعنة أصابتها هي ! ........................... كانت " سيبيل " راقدة على ظهرها تعاني آلاماً مبرحة بينما القابلة العفنة " فورستينيه " تقوم بمحاولات يائسة لإخراج هذا الجنين اللعين ! وفجأة سمعت " سيبيل " صوتاً خافتاً حسبته صوت الجنين أعقبه صوت سقوط جسم ثقيل .. وتخلصت من آلامها .. وظلت راقدة مكانها تعاني إنهاكاً فظيعاً ورغبة جارفة في أن تلتقي بالسيد " عزرائيل " فوراً ليخلصها من آلامها وشقاءها وحياتها لو كان هذا ممكناً ! ولكن السيد " عزرائيل " لم يحضر .. ولكن الأغرب هو أن " فورستينيه " اللعينة لم تترك مكانها وتأتي حاملة الجنين لأمه .. لكي تلقي عليه نظرة قبل أن تلقيه أمام باب الكنيسة كما هي العادة ! وطالت المدة أكثر من اللازم فشعرت " سيبيل " بالقلق .. وتحاملت على نفسها ونهضت من رقدتها فوجدت شيئاً صغيراً عارياً يلبط بين قدميها ، فلابد أن يكون هذا هو الجنين .. ولكن أين ذهبت " فورستينيه " القابلة الملعونة ؟! وظلت " سيبيل " ترتفع في جلستها شيئاً فشيئاً حتى تمكنت من رؤية المساحة الواقعة أمام الفراش وهناك وجدت القابلة مكومة ملقاة على ظهرها وعيناها شاخصتان تحدقان في المجهول .. ذعرت " سيبيل " وهمت بالنهوض لكي تري هذه المصيبة التي حطت على رأسها لتكتمل مصائبها .. ولكن حانت منها التفاتة إلى الجنين ووقعت عيناها على وجهه الملوث بالدماء الحمراء القانية .. وعند ذلك كادت تند منها صرخة مدوية .. ولكنها أسرعت تكتم فاها براحة يدها في قسوة ! ........................... بعد مرور أربعين عاماً .. وبالتحديد في عام 1252م ! في قرية ( جيوبانيان ) الفرنسية البائسة التي يضج أهلها بالفقر والبؤس والضنك كان الناس يسيرون في الشوارع كالنيام أو كالمخدرين .. ولم يكن هذا بعيداً عن الحقيقة ، فالناس ومن فرط بؤسهم وعذابهم كانوا يعيشون حياة سوداء مقززة ويتمنون الموت في كل يوم ألف مرة .. والمفارقة أنهم لم يقفوا للحظة ليعرفوا أنهم موتي بالفعل ولكن مع إيقاف التنفيذ مؤقتاً ! وكانت هذه السنوات مليئة بالأحداث الهائلة في فرنسا في أوربا وفي العالم بأسره ، ما بين حملات صليبية فاشلة ، ما بين انتصارات أوربية مؤقتة على المسلمين وهزائم مريرة على أيديهم ، ما بين احتلال بلاد إسلامية وعودتها مرة أخري للمسلمين على أيدي أبطال صناديد .. ولكن شيئاً من هذه الأحداث لم يشغل بال سكان قرية ( جيوبانيان ) وأهلها للحظة .. وهل يمكن أن يهتم الناس بشيء من تلك الأحداث الهائلة وهم لديهم في قريتهم أكبر أعجوبة وأهم حدث وأبلغ مصيبة .. هرطوقي في قرية ( جيوبانيان ) تصوروا ذلك ! ............................ لم يكن هذا الهرطقي رجلاً عادياً .. فقد كان قزماً أحدب بشع الخلقة ذا لون أسمر غريب .. فهو بين الأصفر والأسمر والأخضر كذلك .. حتى اسمه لم يكن اسماً عادياً أو متداولاً .. فقد كان اسم هذا الرجل غريب وعجيب مثله .. " فوكبوكر " .. لم يسمع أحد بهذا الاسم من قبل ! وكان المدعو " فوكبوكر " هذا رجلاً منعزلاً انطوائيا يعيش في كوخ حقير متهدم على أطرف القرية .. كان يعيش وحيداً هذا طبيعي .. فلا أب ولا أم ولا أخوة له .. وبالطبع فلا توجد امرأة أياً كانت تقبل الزواج من هذا ( العفريت ) .. فقد كان أهل القرية يدعون " فوكبوكر " ( العفريت ) .. وهو في الحقيقة ؛ ودون تحيز ؛ اسم ملائم له تماماً ! ........................... في السادسة مساء كانت طرقات القرية تقفر تماماً من السابلة والمارة .. فلم يكن أحد يجرؤ على الخروج من بيته بعد الغروب ليجول في الظلام الدامس الذي يخيم على القرية بعد ذهاب الشمس لبيتها الدافئ المضيء تاركة سكان قرية ( جيوبانيان ) وأمثالها من القرى البائسة يتلظون بين البرد والظلام .. ولكن رجل واحد في القرية ؛ وربما في طول فرنسا وعرضها ؛ كان يجرؤ على الخروج من بيته في هذا الوقت .. بل في الواقع أنه لم يكن يخرج من بيته إلا في هذا الوقت ! " فوكبوكر " كان يجوب طرقات القرية كل يوم بعد الغروب وبعد أن تخلو طرقات القرية ودروبها من المارة .. لا لم يكن يرش سوائل تجلب اللعنة أو يدفن أعمالاً سحرية أو يخبئ أدواته السحرية أو يبحث عن جثث يمارس عليها سحر ( النكرومانسي ) .. لا لا كل ما جال بخاطركم هو هراء .. فالحقيقة أن الرجل كان يخرج في هذا الوقت ليبحث عن رزقه .. يجد لقيمات ملقاة هنا أوهناك ، أو يجد دجاجة أو أرنباً ميتاً .. أو ؛ في بعض الحالات ؛ يسرق بعض الخضر أو بعض سنابل القمح أو أعواد الذرة من حقل هذا أو ذاك .. المهم أن يكون الحقل الذي يسرق منه حقل يخص ثري من الأثرياء لن يؤذيه ما يُسرق منه أو يؤثر عليه ! وهكذا كان " فوكبوكر " يعيش .. يعيش على اللقم والفتات وقليل من الطعام المسروق ! وماذا يفعل غير ذلك والقرية كلها اعتبرته ملعوناً لا يجب أن يخرج في ضوء الشمس وإلا طارده الصبية السفهاء بالحجارة والروث .. ولا أحد يقبل أن يعطيه عملاً لأنه ؛ كما يقولون ؛ هرطوقي لعين وكافر مارق وستكون نهايته الحرق حياً ! والحقيقة أن تهمة الهرطقة هذه كانت ناتجة عن سبب واحد وهو أن " فوكبوكر " لم يزر الكنيسة مرة واحدة في حياته ولم يؤد فيها صلاة واحدة منذ يوم خلق ولم يشارك أهل القرية عيداً واحداً من أعيادهم الدينية .. ولكن الواقع أن " فوكبوكر " لم يكن يذهب للكنيسة لسبب بسيط جداً أبسط كثيراً مما يتخيل ويفلسف هؤلاء البسطاء المعدمون .. إن الناس ؛ في رأي " فوكبوكر " ؛ يذهبون إلى الكنيسة ليشكروا رب الكنيسة على آبائهم أو أبنائهم أو زوجاتهم أو أعمالهم أو أصدقائهم أو حتى مصائبهم .. حسناً إن رب الكنيسة لم يعطي ل" فوكبوكر " أي شيء من كل هذا .. فما هو داعي ذهابه للكنيسة إذن .. وماذا سيقول للرب هناك وهولا يعرف كيف يبدو هذا الرب أصلاً ! والغريب أن الناس رغم اتهامهم ل" فوكبوكر " بالهرطقة لم يفكروا إطلاقاً ؛ حتى أكثرهم شراً ودناءة ؛ في الوشاية به لدي جواسيس ديوان التفتيش .. ربما كانوا في الحقيقة ورغم خوفهم منه ونبذهم القاسي له يشفقون عليه .. بل إن بعضهم كانوا يعتبرون التجديف والهرطقة حقاً طبيعياً لمن كان مثله : " حسناً لقد كانت أمه اللعينة تجدف طوال النهار في أيامها ولم يفكر أحد في الوشاية بها .. دع أولئك البؤساء ينفسون عن غلهم ! " هكذا كان أهل القرية يناقشون موضوع " فوكبوكر " ثم ينهونه فيما بينهم بهذه العبارة التي تحمل من الشفقة والأسى قد ما تحمل من القسوة والسخرية المريرة ! وهكذا عاش " فوكبوكر " في قرية ( جيوبانيان ) ؛ منذ أن ولدته أمه الساقطة ذات ليلة سوداء ؛ ثم تركته في أحد الغابات البعيدة ليأكله أسد أو وشق جائع وتتخلص من الذكري السوداء التي يمثلها لها بيوم مولده النحس وحياتها النحس ووجهه الأكثر نحساً !