وقفَ على باب الكلام يطرقُه بوابلٍ من أسئلة. ارتعش قلبها. تكوّم على نفسه مذعوراً, وأخفى رأسه بين الضلوع. فتحتْ مظلّة التجاهل لتتفادى زخاتٍ غاضبةً من علامات التعجب والاستفهام, لكن انهمار الأسئلة تواصل ملحّاً على زجاج دهشتها, يوقظ عصافير الخوف المختبئة في دمها. كانت كلماته أثقل من أن تتبخر عطراً في الغرفة, بل تساقطت مثل كراتٍ ملتهبة تشعل المكان بنيران الظنّ والغيرة. التصقتْ بجذع الصمت, ولطالما ألفتْ ذراعيه حول خصرها يراقصها لساعات طويلة. ارتجفت الكلمات وراء شفتيها وغابت عن الوعي, فإذا صوتها يسقط مخنوقاً يعلن عجز المفردات عن ولادة إجابة في جملة أو عبارة! لبرهةٍ راح عنكبوت الهدوء يغزل غلالته الرقيقة في الزوايا, لكن صوته سرعان ما اقتحم قلعة الصمت بمنجنيقات صراخه. شدّ انتباهها من يده, وانتزعها من ذراع الشرود. رفعتْ رأسها المثقل بجثث الأفكار, وعيناها تتسلقان جسده ببطء. تعبران كلّ تفاصيل الرجولة الثائرة. تخترقان عينيه وتغوصان فيهما, فألفت نفسها وقد خرجتْ منه ومن المكان والزمان مثل كائنٍ أثيريّ شفاف يجوب الجهات في قطار من ذهول. صار صوته أشبه بطنين من النحل حول قرص من العسل. هو غاضبٌ ثائرٌ لأن تغيّراً ما قد فتح نافذة في حياتها, فامتدت أغصانٌ من الفراشات نحو الضوء. وهو الذي ما فتئ يقلّم أغصانها كي لا تنمو في غير الاتجاه الذي يريد. هو الذي امتلك صكّاً بإزالة شيوع أنوثتها, فكيف لأيّ غصنٍ أن يخترق الأسلاك الشائكة المغروسة حولها. بحثتْ عن إجابة تريح صداع إلحاحه, لكنّ بركاناً من المتناقضات يمور في أعماقها, يكاد يُشعل فتيل انتظاره.. لينفجر ضجيجاً وأشلاء صراخ. آثرت البقاء هادئة, تغسل جرح الصمت بكحول دمعها. تضمّده ببقايا صبر يحتضر.. ثمّ ترفو قميص أعصابها الممزق. بالامس حرّضها على التمرد وكسر القيود, لتطير في فضائه. حاول اغتصاب الخوف الموروث فيها, أمّا الآن فيرفض أن تندفع روحها خارج أسوار مجرّته' لتقف على بوابات الغياب تستجدي لحظة رجوع إلى ذاتها. لِمَ تغيّرتُ؟! ويريدُ تبريراً... همست مضطربة. فلطالما كانت كلماتها تتسكع على طرقات سمعه المجدبة مثل كلابٍ شاردة تطاردها بنادق سخريته, فتهوي على أنوفها ميتة... فما جدوى الكلام؟! وكيف تشرح له ما بداخلها من هدير متفاقمٍ يجتاحها شبراً فشبراً . كيف تقول له: إنّها ملّت اجترار الأيام والواجبات ورسم الابتسامات على وجهها, كيما تكون امرأة كاملة في نظر مجتمعه... كيف تقول له: إن جراد العقم يلتهم وجودها! منذ البداية كان عليها أت تنسكب في القالب الأزلي, لتخرج منه تمثالاً مشابهاً لكل من عبرنه قبلها, ليأتي هو- وبكل ما لديه من صلاحيات عليا- ويبدأ بكتابة تاريخ بطولاته على جسدها وروحها وعقلها! لعلّها كانت أوفر حظّاً, إذ إن لعقلها بعض الشرفات المطلّة على بحار أخرى.ز وكم حاول إقناعها بإغلاقها مسهباً في شرح الخطر الذي يتهددها بالسقوط نتيجة علوّها الشاهق.. وحين كانت تثور غاضبة, يسارع للقول: كوني عاقلة كما عهدتك! وكم كانت تشعر بالإطراء إذ قلّما يثني رجل على عقل امرأة. مع الأيام اكتشفت أن تلك الجملة ما كانت أكثر من قطعة حلوى تُقَدّم لطفلٍ لتعزيز سلوكٍ نرغبه فيه. كثيرةٌ هي المناقشات التي احتدمت بينهما, لكنّها انتهت دوماً بقوله: أنتِ امرأة متعِبة, صعبة المراس, خيالية, وما من شيء يرضيك! فكيف تشرح له ما يجول بخاطرها, وبأن صقيع الواقع الممل يجمّد أطرافها, ويصعد متراكماً على جسدها, يحوّل كلّ إحساس, وكلّ طموح إلى مستحاثات كفيَلةٍ من الماموث مدفونة في الثلج, بل إن يده امتدت إلى ذاكرتها, لتطفئ مصابيحها واحداً تلو آخر, لتبقى في العتمة المريحةوتفقد الأشياء خصوصية أشكالها وألوانها. وحدها العيون بقيت مضاءة بقنديل الحلم المتراقص كمحارةٍ تبذل لؤلؤها, وعندما يعزّ عليها التحليق.. تجلس في حديقة وِحدتها, تدعو المساء إلى فنجان من الثرثرة الجميلة. تلاحق مركب الليل المبحر إلى طفولة الكلمات, فتجعل منها طائرات شراعية ملونة, تعطيها أشكالاً خرافية, وتستجمع كلّ الصور المختبئة خلف صخور النسيان لترصّع بها أجنحتها. كانت تداعب الحلم كظبيّ يداعب خياله في ضوء القمر ظنّاً منه بأنّه برفقة أنثاه, وحين يكتشف غباءه, يسلم ساقيه للريح ويعدو. وهكذا كانت تكتشف غباء أحلامها. كانت أفكارها وطموحاتها تبدو كسائل زئبقي متوهجٍ لامعٍ على سطح الواقع.. وكم حاول مزجه بمائه رجّاً وخلطاً وتحريكاً. لكن الزئبق سرعان ما كان يطفو حرّاً محتفظاً بكينونته. تُرى ألا يستطيع أن يدرك أن الأرض أيضاً تعاف تكرار غرس ذات البذور في جوفها, فتغدو مواسمها أقل عطاء, بل إن الكون ذاته يشعر بالسأم, ولذا كان تعاقب الليل والنهار. قالت لنفسها ثمّ تابعت: أنا لستُ امرأةً متعِبة.. لكنني لا أقبل بتحويل عقلي إلى حدوة لخيل الركود, أو إلى عربة تجرّها أفراس التقوقع. كل ما أريده مقدارٌ من امتلاك الذات, وأن أمارس الوجود على طريقتي. شعرتْ باندفاع الحمم المصهورة في جوفها باحثة عن ثغر, فانطلق صوتها كحمامة أدركت للتوّ أن باب القفص مفتوح: لِمَ تغيّرتُ!! إنّه تراكم الحزن واليأس.. تراكم جثث الطموحات القتيلة, وصراخ الأحلام المؤجلة إلى ما لانهاية.. ولكن, ما جدوى الكلام؟! أيقظَتها خطواته المقتربة نحوها من شرودها, ويداه تسدلان ستائر النافذة المفتوحة, وهو يردد : هيّا... كوني عاقلة كما عهدتك! حملتْ وشاح كلماته, وأودعته في خزانة التحف التذكارية القديمة المتهالكة في ركن كئيب من الغرفة. رفعت كل الستائر, وأشرعت النوافذ على المدى, فهي لا تريد الموت خنقاً برطوبة اليأس وعفونة الخوف, أو شنقاً بأسطوانات التكرار, أو رميّاً برصاص الجمود والهرولة في المكان. ارتشفتْ رذاذ الضوء المنهمر على وجهها. مدّت أصابعها في جيب الأفق: أخيراً.. سأدرك نجمتي.