كل بئر ينضح بما فيه .. كلمات مأثورة تقلّدت مكانة متميزة بين قواميس الحكمة وصحيح البيان ، وتقْبل الإسقاط دوماً على أفعالنا وأقوالنا تجاه أى شئ ، فشجرة واحدة .. يراها كل إنسان برؤية متفرّدة عن ما بداخله ، فالفلاح .. سيكون رد فعله التلقائى عن مدى احتياجها للرى أو تهذيب أوراقها ، والمهندس الزراعى من خلال دراساته فى العلوم والثقافة الزراعية .. قد يرى ضرورة احتياجها إلى الدّعم بالأسمدة أو العلاج من بعض أمراض النبات ، ويرى فيها تاجر الأخشاب قدر ما تحمله من سمات ومواصفات تصْلح أو لا تصلح للإستثمار عند بيع أخشابها ، ويراها المخطّط ملائِمة أو غير ملائِمة فى موقعها من التخطيط الذى يقوم به فى المنطقة التى توجد بها الشجرة ، ويرى صانع المراكب فى طول ساقها مواصفات مناسبة أو غير مناسبة للهيكل الخشبى فى صناعة المراكب ، ويرى عابر سبيل فى ظلّها ملاذاً من حرارة الشمس فى أحد أيام الصيف الحارة ، كما يرى فيها المتصوّف قدرة المولى سبحانه وتعالى على عبقرية نمائِها من بذرة صغيرة بدأت فى أحشاء الأرض ، وتتنوع رؤية الفنان لمفردات بنائها فى ألوانها وعلاقاتها بالضوء والظلال وتنوع الملامس بين الشكل وعلاقته بالفراغ فى الساق وأفرع الأغصان وإيقاعات الأوراق والثمار .. ثم علاقة تلك المنظومة الفنية بالتعبيرات اللامحدودة والتى توحى به تلك الشجرة لإبداعات الفنان ورؤى المتلقى . وها هو الشّاعر الألمانى العظيم ( ريلكه ) Rilke وهو يصف فى قصيدة بديعة له الشجر المرتفع فى أحد غابات ألمانيا ، حيث نراه يعبر ببلاغة شديدة الموهبة عن ارتفاع هذا الشجر .. فيقول : ( لقد رأيت رؤوس الأشجار .. وكأنها جذور تشرب من السماء ) !! ، تلك الصورة البديعة التى عبّر فيها عن ارتفاع الشجر العملاق .. وتصوّر أن رؤوس هذه الأشجار أصبحت قمتها .. وكأنها شفاهٌ ترتشف الحياة من السماء .. وتشرب منها بديلاً عن مياه الأرض ، وما أروع هذا الإيحاء المتصوّف من ذلك التصور استبدال مكان الجذور من باطن الأرض .. إلى أحضان السماء فى رؤية الشاعر العظيم ، حيث المكان الإفتراضى المطلق لله سبحانه وتعالى .. صاحب الإعجاز العبقرى لفكرة الإنبات على كوكب الأرض ، هذا بالطبع إلى جانب عظائم الخلق فيما علمناه وما لم نعلمه وما لن نعلمه من ابداعاته لهذا الكون الرحيب . وهكذا يزدان عطاء الكائنات بهذا التنوع وذلك الثراء - فى كل شئ - داخل تلك المنظومة المبْهرة لإيقاعات الكون المعجز .. بين الأرض والسماء ، وليس فيما يراه الإنسان والفنان لظاهرة واحدة من خلق الله سبحانه وتعالى ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . ولقد هامت الفنون - التشكيلية والتعبيرية - عشقاً منذ بدء الخليقة بعبقرية الإنبات وذلك التنوع المذهل فى أشكال وألوان وأحجام وملامس ومذاق الجذور والزهور والثمار من خلال تنوع لانهائى يفوق الحصر والإلمام .. تتألق فيه معجزة الوحدانية فى كل نبتة .. كى لا يكون هناك مثيل لها منذ نشأة الكوكب وحتى اليوم ، وهنا يكتنز المفكرون والمبدعون فى أقوالهم وأعمالهم وأفئدتهم .. كنوزاً من الصّور والأخيلة .. نتاجاً لا ينضب .. تتشكل فيه مباهج ومناهج التخيل والقيم الجمالية .. ليزدان الكون ثراءاً بقيم التأمل والإبداع الفنى .. امتثالاً لخلائق الخلق وأسرار الجمال . المصدر : جريدة نهضة مصر.