تقرير: العثور على الوثائق التحضيرية لقمة أنكوراج في طابعة بفندق في ألاسكا    السعودية ترحب بقمة ألاسكا وتؤكد دعمها للحوار الدبلوماسي    طلاب الثانوية العامة يبدأون امتحان مادة اللغة الثانية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    "محاولة التخلص منه وصدمة والدته".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة محمود الخطيب    القافلة السادسة عشرة.. شاحنات المساعدات تتدفق من مصر إلى قطاع غزة    قرار مترقب اليوم ضد المتهمين في واقعة مطاردة الفتيات بطريق الواحات    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    هل شعر بقرب الأجل؟.. منشور عن الغرق لتيمور تيمور يصدم محبيه: «كنت حاسسها وموت شهيد»    اليوم، البورصة المصرية تطلق رسميا أول تطبيق لها على الهواتف المحمولة    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري بعد هبوطه عالميًا    وزير الإسكان يتفقد مشروع "سكن لكل المصريين" و"كوبري C3" بالعلمين الجديدة    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    100 عام على ميلاد هدى سلطان ست الحسن    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    وزير خارجية روسيا يبحث مع نظيريه التركي والمجري نتائج قمة ألاسكا    صربيا تشتعل، متظاهرون يشعلون النار بالمباني الحكومية ومقر الحزب الحاكم في فالييفو (فيديو)    مصرع سيدة وإصابة 9 آخرين فى حادث مرورى بين سيارة أجرة وتروسيكل بالإسكندرية    فرح يتحوّل إلى جنازة.. مصرع 4 شباب وإصابة آخرين خلال زفة عروسين بالأقصر    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    7 شهداء فى غارة على ساحة المستشفى المعمدانى بمدينة غزة    الأهلي يعلن تفاصيل إصابة محمد علي بن رمضان لاعب الفريق    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    مصرع شابين وإصابة آخر في حادث انقلاب دراجة بخارية بأسوان    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    «بأمان».. مبادرات وطنية لتوعية الأهالي بمخاطر استخدام الأطفال للإنترنت    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    رئيس الأوبرا: واجهنا انتقادات لتقليص أيام مهرجان القلعة.. مش بأيدينا وسامحونا عن أي تقصير    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    نجم الزمالك السابق: سنندم على إهدار النقاط.. ومن المبكر الحكم على فيريرا    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    مي عمر على البحر ونسرين طافش بفستان قصير.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مستجاب فى صحبة روائى غير عادى
نشر في شموس يوم 07 - 01 - 2014

عندما تجلس معه وتكون في صحبته فأنت مع شجرة وارفة الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها، وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب، كلها مترادفات لمعنى واحد، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير والمحيط الهادر من التجارب والخبرات والأحداث المتلاحقة والمتنوعة، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها. والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في أسلوب عفوي تلقائي ينساب - في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ، سمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان
بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف، في أسيوط بمصر في الثانية و العشرين من يوليو عام 1938، حيث المولد
و النشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف. وبعيدا عن التوقع لا يخفي محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة، والتي عضها الفقر بأنيابه ، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء، بعد أن يصلوا إلى مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتى لا تنقص أقدارهم في عيون الناس. فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته، أو يعيب عملاق المسرح و الشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء و الأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا؟!..
لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتى يصدقه الأخرون. وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة: كاتبا عند محامي، عاملا بسيطا في السد العالي، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية.... أعمالا عانى فيها كاتبنا الكثير و الكثير، حياة لم تعرف الاستقرار المادي، حتى استقر به الحال كاتبا وصحفيا متفردا فيما يكتبه، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسى موفقا حين وصف مستجاب قائلا :
" أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعنى الذي أقصده - ثم يضعها على كفه ويمر عليها بكفه الأخرى فتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير !
هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتى الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أقاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفوله وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي.
في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها على عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة على الشرف، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف. لقد سمع ورأى فرحا قليلا وحزنا كثيرا، وخبر وعانى بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة. وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل ) حين أجمعوا على قتله هو وزوجته وأبناؤه :
" وماجت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلى الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو، واندفعت في سرعة إلى رأس الطفل. ثم بلطة أخرى شرسة، وانشرخ رأس الطفل وسقطت قراعتها، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلى الخلف - بلطة إلى أعلى وبها قماشة الفستان.
هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي، لأنه يرى الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها. إنها بكارة الرؤية، لأنه يتعامل مع الأشياء و الأحداث وكأنه يراها لأول مرة، وقد أضفى ذلك نوعا من الطزاجة على معظم ما يكتبه. فأنت تقبض على الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون و الطعم و الرائحة.
عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي (هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوى رد قائلا:
- لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا.
وهذا يتطابق إلى حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته، إنه يقول ويحكي . يقص ويبلور كل ما هو قريب منه - يكتب عما يعرف ويشعر به وله مخزون في أعماقه، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا.
هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلى قلب القاهرة، والمترعة بكل صور المعاناة و الألم، إمتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة، إنه التنكيت و التبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما، يصف الناقد الكبير (إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول" يبدو أن الضحك الساخر له علاقة جمالية بالواقع، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلى الأنواع الأدبية من قصة ورواية".
وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان، ولا يملؤنا فرحا، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجه للتنفيس كي يحافظ على الأوضاع و القيم الراهنة. ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد على هذه الثلاثية المتناغمة وهي:
الذكاء و الألم و السخرية.
ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش، الذي يصل في تحليل الأحداث و الظواهر إلى جذورها الأولى - إلى بدايات التكوين، يساعده على ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساس عبقرى بكل ما يحيط به، لا يستسلم لمقولات الآخرين، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر على الفحص والدراسة و المقارنة و التحليل و الاستنباط، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص، بل ولد لديه شعورا بالتحدي و المقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم، ولا يحزن أبدا لفقدها، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معنى، يستمتع بالمكان و الزمان و الأحداث، يتأمل الناس و البحار و الجبال، ويتذوق الفن والفكر و الموسيقى، يعشق الجمال و الماء و الهواء، يقدس الحب و الصداقة و العمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية؛ فهو يستطيع أن يحول حتى الحديث العادي إلى مادة صالحة للتهكم و السخرية - إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوى القليل، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتى إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع، (وآل مستجاب جميعا). وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد اشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شئ من أول العنوان. فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما انهيارا للكون الفني و العالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره.
عالم مستجاب الروائي
إن ملكة التخيل عند الكاتب هي التي تفجر الإبداع؛ لأنها في الوقت نفسه تلملم أشلاء الواقع في أطر وأنساق فنية، ولا يوجد إبداع دون تفاعل الخيال مع الواقع، أما عن الواقع الذي كابده وعايشه مستجاب فإنه من الثراء و التنوع في مفرداته وعناصره إلى الدرجة التي تكفي لخلق عوالم إنسانية لا حد لها، فإذا علمنا أن صاحبها متفجر الخيال يفيض بالعاطفة و الحس الإنساني، لعرفنا إلى أي حد تمتد قدراته الإبداعية. فهو ينفخ من روحه وفكره في هذا الواقع، ويبلوره في صور وأشكال أقرب إلى الأساطير حتى يتعذر على القارئ أن يفصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، وعملية الدمج هذه تتم من خلال فنية عالية تتسم بالصدق والتلقائية، ويزيدها جمالا تلك اللغة الشفيفة الشاعرة التي لا تكتنز ولا تترهل، فالمبني على قدر المعنى، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية: ديروط الشريف، قيام وانهيار آل مستجاب، الحزن يميل للمازحة، كما ظهر في روايته"من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ""إنه الرابع من آل مستجاب"بل ومن خلال مقالاته في الصحف والدوريات: حرق الدم، بوابة جبر الخاطر، زهر الفول، نبش الغراب.
خاتمة
عندما أعترض أحد مديري الفنادق الفخمة على وجود محمد مستجاب وكنت معه فى مرسى مطروح لأنه يرتدي الجلباب الصعيدي دائما في صالة الطعام، عندئذ هاج مستجاب وغضب وأصر على مغادرة الفندق. ساعتها تراجع مدير الفندق واعتذر، واستمر مستجاب يتجول داخل وخارج الفندق وهو يرتدي هذا الزي التراثي. ورغم أنه - أحيانا - لا تؤمن عواقبه فإنه كان يمتلك وجدان الفنان المرهف، وعقل المفكر العميق، وقلب طفل لا يخلو من البراءة.
محمد مستجاب
فى صحبة روائى غير عادى
عندما تجلس معه وتكون في صحبته فأنت مع شجرة وارفة الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها، وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب، كلها مترادفات لمعنى واحد، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير والمحيط الهادر من التجارب والخبرات والأحداث المتلاحقة والمتنوعة، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها. والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في أسلوب عفوي تلقائي ينساب - في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ، سمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان
بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف، في أسيوط بمصر في الثانية و العشرين من يوليو عام 1938، حيث المولد
و النشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف. وبعيدا عن التوقع لا يخفي محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة، والتي عضها الفقر بأنيابه ، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء، بعد أن يصلوا إلى مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتى لا تنقص أقدارهم في عيون الناس. فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته، أو يعيب عملاق المسرح و الشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء و الأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا؟!..
لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتى يصدقه الأخرون. وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة: كاتبا عند محامي، عاملا بسيطا في السد العالي، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية.... أعمالا عانى فيها كاتبنا الكثير و الكثير، حياة لم تعرف الاستقرار المادي، حتى استقر به الحال كاتبا وصحفيا متفردا فيما يكتبه، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسى موفقا حين وصف مستجاب قائلا :
" أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعنى الذي أقصده - ثم يضعها على كفه ويمر عليها بكفه الأخرى فتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير !
هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتى الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أقاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفوله وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي.
في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها على عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة على الشرف، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف. لقد سمع ورأى فرحا قليلا وحزنا كثيرا، وخبر وعانى بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة. وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل ) حين أجمعوا على قتله هو وزوجته وأبناؤه :
" وماجت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلى الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو، واندفعت في سرعة إلى رأس الطفل. ثم بلطة أخرى شرسة، وانشرخ رأس الطفل وسقطت قراعتها، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلى الخلف - بلطة إلى أعلى وبها قماشة الفستان.
هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي، لأنه يرى الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها. إنها بكارة الرؤية، لأنه يتعامل مع الأشياء و الأحداث وكأنه يراها لأول مرة، وقد أضفى ذلك نوعا من الطزاجة على معظم ما يكتبه. فأنت تقبض على الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون و الطعم و الرائحة.
عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي (هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوى رد قائلا:
- لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا.
وهذا يتطابق إلى حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته، إنه يقول ويحكي . يقص ويبلور كل ما هو قريب منه - يكتب عما يعرف ويشعر به وله مخزون في أعماقه، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا.
هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلى قلب القاهرة، والمترعة بكل صور المعاناة و الألم، إمتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة، إنه التنكيت و التبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما، يصف الناقد الكبير (إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول" يبدو أن الضحك الساخر له علاقة جمالية بالواقع، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلى الأنواع الأدبية من قصة ورواية".
وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان، ولا يملؤنا فرحا، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجه للتنفيس كي يحافظ على الأوضاع و القيم الراهنة. ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد على هذه الثلاثية المتناغمة وهي:
الذكاء و الألم و السخرية.
ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش، الذي يصل في تحليل الأحداث و الظواهر إلى جذورها الأولى - إلى بدايات التكوين، يساعده على ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساس عبقرى بكل ما يحيط به، لا يستسلم لمقولات الآخرين، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر على الفحص والدراسة و المقارنة و التحليل و الاستنباط، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص، بل ولد لديه شعورا بالتحدي و المقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم، ولا يحزن أبدا لفقدها، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معنى، يستمتع بالمكان و الزمان و الأحداث، يتأمل الناس و البحار و الجبال، ويتذوق الفن والفكر و الموسيقى، يعشق الجمال و الماء و الهواء، يقدس الحب و الصداقة و العمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية؛ فهو يستطيع أن يحول حتى الحديث العادي إلى مادة صالحة للتهكم و السخرية - إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوى القليل، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتى إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع، (وآل مستجاب جميعا). وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد اشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شئ من أول العنوان. فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما انهيارا للكون الفني و العالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره.
عالم مستجاب الروائي
إن ملكة التخيل عند الكاتب هي التي تفجر الإبداع؛ لأنها في الوقت نفسه تلملم أشلاء الواقع في أطر وأنساق فنية، ولا يوجد إبداع دون تفاعل الخيال مع الواقع، أما عن الواقع الذي كابده وعايشه مستجاب فإنه من الثراء و التنوع في مفرداته وعناصره إلى الدرجة التي تكفي لخلق عوالم إنسانية لا حد لها، فإذا علمنا أن صاحبها متفجر الخيال يفيض بالعاطفة و الحس الإنساني، لعرفنا إلى أي حد تمتد قدراته الإبداعية. فهو ينفخ من روحه وفكره في هذا الواقع، ويبلوره في صور وأشكال أقرب إلى الأساطير حتى يتعذر على القارئ أن يفصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، وعملية الدمج هذه تتم من خلال فنية عالية تتسم بالصدق والتلقائية، ويزيدها جمالا تلك اللغة الشفيفة الشاعرة التي لا تكتنز ولا تترهل، فالمبني على قدر المعنى، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية: ديروط الشريف، قيام وانهيار آل مستجاب، الحزن يميل للمازحة، كما ظهر في روايته"من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ""إنه الرابع من آل مستجاب"بل ومن خلال مقالاته في الصحف والدوريات: حرق الدم، بوابة جبر الخاطر، زهر الفول، نبش الغراب.
خاتمة
عندما أعترض أحد مديري الفنادق الفخمة على وجود محمد مستجاب وكنت معه فى مرسى مطروح لأنه يرتدي الجلباب الصعيدي دائما في صالة الطعام، عندئذ هاج مستجاب وغضب وأصر على مغادرة الفندق. ساعتها تراجع مدير الفندق واعتذر، واستمر مستجاب يتجول داخل وخارج الفندق وهو يرتدي هذا الزي التراثي. ورغم أنه - أحيانا - لا تؤمن عواقبه فإنه كان يمتلك وجدان الفنان المرهف، وعقل المفكر العميق، وقلب طفل لا يخلو من البراءة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.