منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مستجاب فى صحبة روائى غير عادى
نشر في شموس يوم 07 - 01 - 2014

عندما تجلس معه وتكون في صحبته فأنت مع شجرة وارفة الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها، وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب، كلها مترادفات لمعنى واحد، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير والمحيط الهادر من التجارب والخبرات والأحداث المتلاحقة والمتنوعة، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها. والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في أسلوب عفوي تلقائي ينساب - في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ، سمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان
بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف، في أسيوط بمصر في الثانية و العشرين من يوليو عام 1938، حيث المولد
و النشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف. وبعيدا عن التوقع لا يخفي محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة، والتي عضها الفقر بأنيابه ، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء، بعد أن يصلوا إلى مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتى لا تنقص أقدارهم في عيون الناس. فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته، أو يعيب عملاق المسرح و الشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء و الأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا؟!..
لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتى يصدقه الأخرون. وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة: كاتبا عند محامي، عاملا بسيطا في السد العالي، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية.... أعمالا عانى فيها كاتبنا الكثير و الكثير، حياة لم تعرف الاستقرار المادي، حتى استقر به الحال كاتبا وصحفيا متفردا فيما يكتبه، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسى موفقا حين وصف مستجاب قائلا :
" أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعنى الذي أقصده - ثم يضعها على كفه ويمر عليها بكفه الأخرى فتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير !
هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتى الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أقاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفوله وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي.
في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها على عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة على الشرف، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف. لقد سمع ورأى فرحا قليلا وحزنا كثيرا، وخبر وعانى بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة. وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل ) حين أجمعوا على قتله هو وزوجته وأبناؤه :
" وماجت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلى الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو، واندفعت في سرعة إلى رأس الطفل. ثم بلطة أخرى شرسة، وانشرخ رأس الطفل وسقطت قراعتها، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلى الخلف - بلطة إلى أعلى وبها قماشة الفستان.
هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي، لأنه يرى الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها. إنها بكارة الرؤية، لأنه يتعامل مع الأشياء و الأحداث وكأنه يراها لأول مرة، وقد أضفى ذلك نوعا من الطزاجة على معظم ما يكتبه. فأنت تقبض على الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون و الطعم و الرائحة.
عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي (هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوى رد قائلا:
- لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا.
وهذا يتطابق إلى حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته، إنه يقول ويحكي . يقص ويبلور كل ما هو قريب منه - يكتب عما يعرف ويشعر به وله مخزون في أعماقه، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا.
هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلى قلب القاهرة، والمترعة بكل صور المعاناة و الألم، إمتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة، إنه التنكيت و التبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما، يصف الناقد الكبير (إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول" يبدو أن الضحك الساخر له علاقة جمالية بالواقع، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلى الأنواع الأدبية من قصة ورواية".
وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان، ولا يملؤنا فرحا، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجه للتنفيس كي يحافظ على الأوضاع و القيم الراهنة. ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد على هذه الثلاثية المتناغمة وهي:
الذكاء و الألم و السخرية.
ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش، الذي يصل في تحليل الأحداث و الظواهر إلى جذورها الأولى - إلى بدايات التكوين، يساعده على ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساس عبقرى بكل ما يحيط به، لا يستسلم لمقولات الآخرين، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر على الفحص والدراسة و المقارنة و التحليل و الاستنباط، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص، بل ولد لديه شعورا بالتحدي و المقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم، ولا يحزن أبدا لفقدها، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معنى، يستمتع بالمكان و الزمان و الأحداث، يتأمل الناس و البحار و الجبال، ويتذوق الفن والفكر و الموسيقى، يعشق الجمال و الماء و الهواء، يقدس الحب و الصداقة و العمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية؛ فهو يستطيع أن يحول حتى الحديث العادي إلى مادة صالحة للتهكم و السخرية - إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوى القليل، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتى إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع، (وآل مستجاب جميعا). وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد اشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شئ من أول العنوان. فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما انهيارا للكون الفني و العالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره.
عالم مستجاب الروائي
إن ملكة التخيل عند الكاتب هي التي تفجر الإبداع؛ لأنها في الوقت نفسه تلملم أشلاء الواقع في أطر وأنساق فنية، ولا يوجد إبداع دون تفاعل الخيال مع الواقع، أما عن الواقع الذي كابده وعايشه مستجاب فإنه من الثراء و التنوع في مفرداته وعناصره إلى الدرجة التي تكفي لخلق عوالم إنسانية لا حد لها، فإذا علمنا أن صاحبها متفجر الخيال يفيض بالعاطفة و الحس الإنساني، لعرفنا إلى أي حد تمتد قدراته الإبداعية. فهو ينفخ من روحه وفكره في هذا الواقع، ويبلوره في صور وأشكال أقرب إلى الأساطير حتى يتعذر على القارئ أن يفصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، وعملية الدمج هذه تتم من خلال فنية عالية تتسم بالصدق والتلقائية، ويزيدها جمالا تلك اللغة الشفيفة الشاعرة التي لا تكتنز ولا تترهل، فالمبني على قدر المعنى، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية: ديروط الشريف، قيام وانهيار آل مستجاب، الحزن يميل للمازحة، كما ظهر في روايته"من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ""إنه الرابع من آل مستجاب"بل ومن خلال مقالاته في الصحف والدوريات: حرق الدم، بوابة جبر الخاطر، زهر الفول، نبش الغراب.
خاتمة
عندما أعترض أحد مديري الفنادق الفخمة على وجود محمد مستجاب وكنت معه فى مرسى مطروح لأنه يرتدي الجلباب الصعيدي دائما في صالة الطعام، عندئذ هاج مستجاب وغضب وأصر على مغادرة الفندق. ساعتها تراجع مدير الفندق واعتذر، واستمر مستجاب يتجول داخل وخارج الفندق وهو يرتدي هذا الزي التراثي. ورغم أنه - أحيانا - لا تؤمن عواقبه فإنه كان يمتلك وجدان الفنان المرهف، وعقل المفكر العميق، وقلب طفل لا يخلو من البراءة.
محمد مستجاب
فى صحبة روائى غير عادى
عندما تجلس معه وتكون في صحبته فأنت مع شجرة وارفة الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها، وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب، كلها مترادفات لمعنى واحد، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير والمحيط الهادر من التجارب والخبرات والأحداث المتلاحقة والمتنوعة، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها. والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في أسلوب عفوي تلقائي ينساب - في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ، سمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان
بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف، في أسيوط بمصر في الثانية و العشرين من يوليو عام 1938، حيث المولد
و النشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف. وبعيدا عن التوقع لا يخفي محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة، والتي عضها الفقر بأنيابه ، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء، بعد أن يصلوا إلى مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتى لا تنقص أقدارهم في عيون الناس. فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته، أو يعيب عملاق المسرح و الشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء و الأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا؟!..
لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتى يصدقه الأخرون. وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة: كاتبا عند محامي، عاملا بسيطا في السد العالي، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية.... أعمالا عانى فيها كاتبنا الكثير و الكثير، حياة لم تعرف الاستقرار المادي، حتى استقر به الحال كاتبا وصحفيا متفردا فيما يكتبه، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسى موفقا حين وصف مستجاب قائلا :
" أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعنى الذي أقصده - ثم يضعها على كفه ويمر عليها بكفه الأخرى فتصبح بيضة، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير !
هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتى الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أقاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفوله وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي.
في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها على عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة على الشرف، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف. لقد سمع ورأى فرحا قليلا وحزنا كثيرا، وخبر وعانى بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة. وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل ) حين أجمعوا على قتله هو وزوجته وأبناؤه :
" وماجت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلى الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو، واندفعت في سرعة إلى رأس الطفل. ثم بلطة أخرى شرسة، وانشرخ رأس الطفل وسقطت قراعتها، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلى الخلف - بلطة إلى أعلى وبها قماشة الفستان.
هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي، لأنه يرى الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها. إنها بكارة الرؤية، لأنه يتعامل مع الأشياء و الأحداث وكأنه يراها لأول مرة، وقد أضفى ذلك نوعا من الطزاجة على معظم ما يكتبه. فأنت تقبض على الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون و الطعم و الرائحة.
عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي (هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوى رد قائلا:
- لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا.
وهذا يتطابق إلى حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته، إنه يقول ويحكي . يقص ويبلور كل ما هو قريب منه - يكتب عما يعرف ويشعر به وله مخزون في أعماقه، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا.
هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلى قلب القاهرة، والمترعة بكل صور المعاناة و الألم، إمتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة، إنه التنكيت و التبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما، يصف الناقد الكبير (إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول" يبدو أن الضحك الساخر له علاقة جمالية بالواقع، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلى الأنواع الأدبية من قصة ورواية".
وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان، ولا يملؤنا فرحا، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجه للتنفيس كي يحافظ على الأوضاع و القيم الراهنة. ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد على هذه الثلاثية المتناغمة وهي:
الذكاء و الألم و السخرية.
ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش، الذي يصل في تحليل الأحداث و الظواهر إلى جذورها الأولى - إلى بدايات التكوين، يساعده على ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساس عبقرى بكل ما يحيط به، لا يستسلم لمقولات الآخرين، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر على الفحص والدراسة و المقارنة و التحليل و الاستنباط، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص، بل ولد لديه شعورا بالتحدي و المقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم، ولا يحزن أبدا لفقدها، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معنى، يستمتع بالمكان و الزمان و الأحداث، يتأمل الناس و البحار و الجبال، ويتذوق الفن والفكر و الموسيقى، يعشق الجمال و الماء و الهواء، يقدس الحب و الصداقة و العمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية؛ فهو يستطيع أن يحول حتى الحديث العادي إلى مادة صالحة للتهكم و السخرية - إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوى القليل، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتى إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع، (وآل مستجاب جميعا). وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد اشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شئ من أول العنوان. فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما انهيارا للكون الفني و العالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره.
عالم مستجاب الروائي
إن ملكة التخيل عند الكاتب هي التي تفجر الإبداع؛ لأنها في الوقت نفسه تلملم أشلاء الواقع في أطر وأنساق فنية، ولا يوجد إبداع دون تفاعل الخيال مع الواقع، أما عن الواقع الذي كابده وعايشه مستجاب فإنه من الثراء و التنوع في مفرداته وعناصره إلى الدرجة التي تكفي لخلق عوالم إنسانية لا حد لها، فإذا علمنا أن صاحبها متفجر الخيال يفيض بالعاطفة و الحس الإنساني، لعرفنا إلى أي حد تمتد قدراته الإبداعية. فهو ينفخ من روحه وفكره في هذا الواقع، ويبلوره في صور وأشكال أقرب إلى الأساطير حتى يتعذر على القارئ أن يفصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، وعملية الدمج هذه تتم من خلال فنية عالية تتسم بالصدق والتلقائية، ويزيدها جمالا تلك اللغة الشفيفة الشاعرة التي لا تكتنز ولا تترهل، فالمبني على قدر المعنى، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية: ديروط الشريف، قيام وانهيار آل مستجاب، الحزن يميل للمازحة، كما ظهر في روايته"من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ""إنه الرابع من آل مستجاب"بل ومن خلال مقالاته في الصحف والدوريات: حرق الدم، بوابة جبر الخاطر، زهر الفول، نبش الغراب.
خاتمة
عندما أعترض أحد مديري الفنادق الفخمة على وجود محمد مستجاب وكنت معه فى مرسى مطروح لأنه يرتدي الجلباب الصعيدي دائما في صالة الطعام، عندئذ هاج مستجاب وغضب وأصر على مغادرة الفندق. ساعتها تراجع مدير الفندق واعتذر، واستمر مستجاب يتجول داخل وخارج الفندق وهو يرتدي هذا الزي التراثي. ورغم أنه - أحيانا - لا تؤمن عواقبه فإنه كان يمتلك وجدان الفنان المرهف، وعقل المفكر العميق، وقلب طفل لا يخلو من البراءة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.