عشنا أوضاعا اقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية شديدة الصعوبة، في العديد من بلدان المنطقة وفي مقدمتها مصر وسوريا والعراق، لا أحد يستطيع أن ينكر هذا. عانينا من الفقر والجهل والرشوة والمحسوبية والبطالة والنظم الشمولية أو الفاسدة، هذه حقيقة نعرفها جميعا. أردنا التغيير بعدما فاض الكيل وحلمنا جميعا ببلداننا كما نحب أن نراها، نعم أخذنا الحلم إلي ما لا نهاية. ولكن حينما نفقد الخط الفاصل بين صراعنا مع حكامنا وبين تراب أرضنا، فهذه كارثة قادرة علي تحويل أجمل الأحلام إلي كوابيس متصلة، الله وحده يعلم كيف يمكن أن نستيقظ منها. منذ عقود، قاومنا الاحتلال وتصدت الحركات الطلابية لوجوده، وتشكلت المجموعات الفدائية، ولم تمس مؤسسة واحدة للدولة. خرجت المظاهرات بالآلاف في كافة البلدان العربية التي أنهكها المستعمر، ونفي الزعماء والثوار، ولم يروع الآمنين وأهل البلاد في يوم من الأيام كردة فعل. استمرت المظاهرات وكان لها أصولها وقواعدها التي لم تستند إلي مواثيق حقوقية أو منظمات دولية، بل كانت تنطلق من عمق الإنسانية والمعرفة وحب المواطن لبلاده وأهله وشركائه في هذا الوطن. وقتها لم تكن وسائل الاتصال عالية التقنية موجودة، فكان الطلاب يطوفون بالمدارس الابتدائية التي تقع في دائرة المظاهرات حتى يقوم المسئولون عن كل مدرسة بفتح الأبواب كي يعود الصغار آمنين إلي منازلهم قبل انطلاق المظاهرة. كيف انقلبت الأوضاع وفقدنا بوصلة التمييز بين المواطنين والبلاد وبين الحكام؟ هل تحرق البلاد ويقتل المسالمين وينكل بأفراد الأمن والجيش بدعوى رفض الحاكم والرغبة في تغيير الأوضاع؟ من منا يصدق هذا؟ وكيف يمكن أن يطلق علي هؤلاء معارضة أو ثوار أو أحرار؟ كيف غفلنا جميعا عما يحدث من حولنا، حتى تمكنت فئة، أيا كان عددها، من هدم فكرة الأوطان في ذهنية الكثير من شبابنا، حتى وصلنا لما نحن عليه ليس في مصر وحدها، والمشهد الحياتي في المنطقة يشهد علي هذا. تربينا منذ الصغر علي الربط بين الوطن والأم، ولكني لا أعرف كيف تمكن البعض علي مر السنوات من تمرير فكرة أن اغتيال الأم هو وجه نظر، وأن التنكيل بها أمر واجب في سبيل الله. بهذا المعنى فلتحترق كل الأوطان ولتقتل كل الأمهات ولنفتح القبور لتكن متسعا لكل من يختلف معنا أو مع مشروعنا. عشنا نقدس معنى أن الوطن يعيش في داخلنا نحمله أينما كنا، ونفخر حتى في الغربة أن لسنا نبتا شيطانيا بل هناك دائما وطن في انتظارنا، ففوجئنا بشباب في عمر الزهور يشقون بدم بارد صدر الجنود رمز حماية البلاد وشرفها وعزتها، ويتفاخرون بهذا أمام عدسات التصوير. رأينا فضائيات تتغنى بأن قتلى الجيوش اليوم هائلة ومن ثم الانتصار قريب. نحن في مواجهة هذا الفكر وهذه التركيبة النفسية شديدة التعقيد سوداوية النزعة المتعطشة للدماء، والتي لا تعرف حدودا تقف عندها. طبيعي أنه حينما تتآكل العقول، ويتحول البشر إلي مجرد سلع وأدوات، أن تفقد كل القيم معانيها، وتنهار فكرة الوطن الأم لتتحول إلي (حفنة تراب عفنة) كما تشير أدبياتهم وكما رددها كبيرهم ومؤسسهم. هؤلاء ببساطة هم أبناء السفاح في هذه الأوطان، لم ولن يكونوا يوما ضمن أبنائها الشرعيين. أما نحن فما نعانيه اليوم ما هو إلا نتاج تفريطنا في أغلي القيم لدينا، وإخفاقاتنا في حماية أجيالنا الجديدة من شرورهم وأحقادهم ومنظومتهم التي لا ترتكز إلا علي الكراهية. هم إلي زوال، فماذا عن دورنا تجاه شبابنا وصغارنا؟ كاتبة مصرية مقيمة بباريس