واحدة من مميزات الربيع العربى أنه رفع الحصار عن الألسنة وأطلق للفكر العنان ليغنى كلٌ على ليلاه .. أقلام كثيرة تستنزف يوميا كميات كبيرة من الأحبار على الأوراق .. بعضها عبث وبعضها يسير نحو شئ من المعنى .. شئ من القيمة ... ومنها مايرقى إلى مستوى الأدب الحقيقى . أفرزت لنا هذه المرحلة كُتاباً بمختلف الألوان .. ساعدهم على الظهور وسائل التواصل الإجتماعى الحديثة ومنابر الإعلام المختلفة .. فاشتد عود الراسخين منهم .. وانحنى عود المتسلقين .. وانكشف زيف المختلسين .. وصفا جوهر النبلاء .. حتى أولئك الذين يتمتعون بكم لا باس به من التصفيق والتهليل .. ونقاط الإعجاب .. والتعليقات السخية .. إنكشف غطائهم الفضفاض وتعرت وسائدهم المذخرفه .. ذلك أن أعداد المتذوقون الحقيقيون لما ينزفه القلم على الورق .. هم قلائل وإن تزايدت أعداد المعجبين . قلم آثر .. أن يزهو رغم الشحوب .. وأن يعلو فوق هامات الحروف المنطفئة يضئ أعلاها وأسفلها .. فى توقيت هو الأشد احتياجا إليه .. حين نقرأ " بهيجه البقالى القاسمى" لابد أن نتوقف .. ليس فقط عند حد الكلمة بل عند حد الحرف .. لكى نبحر حينا ونغوص أحيانا كثيرة .. نبحر مع سلاسة اللفظ .. ورونق الكلمات وزهو المعنى .. وروعة الصورة .. ونغوص بحثا عن الدر والمرجان .. فى بحر رغم هدوء أمواجه وصفاء أعماقه فهو الأكثر جاذبية للبحث فى أعماقه وأغواره . ربما لا تختلف البيئات العربية ومجتمعاتها كثيرا من حيث الثقافة العامة والتركيبة النفسية والذوق العام .. غير أن الكاتبة " بهيجة البقالى القاسمى " إبنة المملكة المغربية التى تطل عليها الثقافة الفرنسية من شرفة قريبة وتخصبها الثقافة العربية من أخمص قدميها .. إستطاعت باختيارها أصعب أساليب الكتابة أن تصل إلى الكثير من الشمولية والتعبير الدقيق عن تفاصيل وملامح عجزت أساليب أدبية عديدة أكثر يسرا وسهولة من الوصول إليها . اختارت " بهيجة البقالى القاسمى " أن تكتب المقطع القصير والخاطرة النثرية أحيانا .. وربما الشعرية فى بعض الأحيان .. وهو الأسلوب الذى استخدمه الحكماء والفلاسفة قديما .. فى التعبير بالإيجاز عن معان كثيرة .. فخرجت لنا بنوع من الحكمة الحديثة العصرية التى تصلح للوصول السريع .. وتفجر خلفها دروبا لعشاق الترحال والتوغل بحثا عن الوصول .. استخدمت اللغة البسيطة السهلة لتعبر بجملتين عن عالم من المعانى .. وكأنها تكتب رواية طويلة تعصرها بإحكام لتستخلص منها قطرات هى سلافة المعنى لتقدمها لقارئها فى رشفة صغيرة لها طعم الرحيق ومفعول الترياق . تميل إلى رسم الصورة الواضحة الواقعية الملموسة فتخرج بك إلى عالم من علامات الإستفهام .. كلما أجبت واحدة منها توالت توابعها . وإذا نظرنا الى هذا المقطع لها بعنوان ( طفولتان ) : ( حدثَّها طويلاً عن ذكرياتِ طفولته . خرج من مكتبها و تركها مع ذكريات طفولتها ) مقطع بسيط من جملتين أنجزت فيه رواية كاملة بأحداثها وشخوصها ومناظرها الطبيعية وأزمنتها المتعددة .. ومثيراتها ومشوقاتها .. ذلك الحوار الذى دار بينهما .. طفولته بكل ما فيها من حلو ومر .. وذكرياته الباقية فى ذهنه تنبض فى كيانه .. استقتها منه لتعيش طفولتها .. هذا الإستبدال الزمانى والمكانى .. الذى استطاعت أن تصنعه فى تلقائية سلسه هو قدرة فائقة على امتلاك الأدوات النفسية والخطوط الخفية المتداخلة التى تتحكم من خلالها فى توجيه الفكر والعقل فى إطار هادئ ناعم راقى محتفظة بتوازنها وهدوءها .. لتراوغ دون حوار بذهن القارئ وأفكاره .. فتهئ الجو النفسى لإستدراجه دون عناء لمعايشة موقف يبنى عليه تركيزه ثم تنتقل به فى فجائية غير متوقعة إلى عالم آخر دون أن يفقد توازنه .. فتضعه فى حيرة .. أدعى للابتسامة الهادئة التى تعبر عن اعترافه أمام نفسه بحقيقة انخداعه وقدرتها الذكية على المراوغة النفسية . ثم كل علامات الإستفهام التى تدفعه للتساؤل عن أشياء كثيره تمنحه الحق المطلق فى تصورها . أسلوب يميزه الصمت .. والجاذبية .. ويسخر أرقى فنون الحوار للتعبير الحركى والمكانى والإنتقال عبر الزمان .. إلى أزمنة أخرى .. وأشد ما أراه إبداعا فى هذا المقطع .. هو تحويل القارئ إلى البطل الحقيقى للقصة .. فذلك الذى يقرا فيستمتع فيتنبه .. فيفكر .. يجد نفسه دون أن يشعر يعيش فى عالم من الخيال يتصور كيفما شاء تلك الذكريات الطفولية التى سرعان مايرى طفولته فيها .. ليتعايش معها . تلك الحالة الذاتية التى نقلتها عن شخوص آخرين هى ليست بينهم تمكنت من خلالها أن تضعك بينهم .. فى لغز يوقفك عند حد الإبتسام . وهكذا أرى فى " بهيجه البقالى القاسمى " قلما جديدا بين كتاب المقطع القصير , فقد أضافت إليه دراما خفية وفلسفة جديده وموسيقى تصويرية ناعمه خافتة تتساير وروح العمل وشعور القارئ . وفى مقطع آخر بعنوان (صمود) تقول : ( فوق أعالي الجبال يحلق الرقي ... تتعبه الرياح ... والعواصف ... يود الإنتحار .. يفكر.. يتذكر ...يتراجع .. لا ... ليس هذا أنجح قرار ... ينشر جناحيه من جديد . ) هى لغة جديدة تعبر عن معنى تجسده فى الصورة الأمثل له فهو الذى لا يهبط إلى الأرض ولا يتوقف عن التحليق ولا ينكسر انحناءا للضغوط أو الظروف حيث مكانه فى الأجواء السامية مهما أتعبته الرياح والعواصف ومهما أنهكته العقبات وتسرب إلى نفسه الياس يظل كبرياؤه أقوى .. فيعود للتحليق .. ونشر جناحيه فى كل مكان عاليا . تغيرت هنا نهاية الأحداث فلم تتركها للقارئ يعيشها ويتعايش معها .. فالحديث هنا عن معنى سامى هو الرقى بجوهره الثابت الذى لا يتغير .. ولا يتجزأ .. فهو مفهوم ثابت لا يرتبط بخصائص فردية متنوعه كما هو فى الذكريات الطفولية المتنوعة بطبيعتها حسب الأفراد ومحيطاتهم البيئية . ويظل محور التحكم فى الآداء فى يد الكاتب .. يحول به القارئ من جو نفسى إلى آخر دون أن يمنحه الإرادة فى التحول أو التوقع فى سرد الحدث .. هى لغة تفردت بها " بهيجه البقالى القاسمى " فن الحوار .. ولغته .. والتحكم النفسى .. والتصوير بطريقة ( الزووم ) وتحريك قرص العدسة من البعد ألى القرب إلى بؤرة الصورة لا يتوقف عند حد بل تستمر فى تقريب الصورة وجذبها حتى تسكنها فى أعماق القارئ ليقلب عينيه إلى داخله ليتابع رؤيتها .. هى إمكانية فريدة اختصت بها " بهيجة البقالى القاسمى " . جمعت بين اللفظ .. والصورة .. والمضمون .. فكانت رؤيتها الخاصة التى تتناول العام من منظور الخاص فى ثوب جديد لا يتعارض مع واقعية الحدث بل ويجد مكانه فى عقل القارئ وقلبه ويستدرجه فى متعة خاصة للتخيل .