مثل الحمامة يطير ، ذراعيه مفرودتين كأنهما تحلقان في السماء البعيدة ، وهو يمضي مهرولا بخفة ورشاقة في الحارة ، وتقافزا بنكهة راقص رشيق على درجات سلم البيت ، وفوق السطوح المتسع المساحة . ويدهشك للثمالة حين تراه يجري بسرعة على حافة السور الحجري لسطح المنزل والمعلق على مسافة خمسة طوابق من ارضية الحارة . الأمر الذي كان يستدعي في البداية صراخات حادة ممتزجة بالهلع والرعب من نسوة الحارة المتواجدات في شرفات المنازل حينها ، يعرضن غسيلهن للشمس والهواء ، تنبيها لوالدته ، قبل ان يتأكدن لا حقا انهن امام شخص حصنته السماء من كل سوء . ومع ذلك كانت كل امرأة يتصادف وجودها امامه في الجهة المقابلة ، وتعاينه وهو يهرول على الحافة الحجرية للسور المحيط بالمنزل مثل بهلوان محترف في سيرك ، ومن دون اكتراث وعلى مسافة اربعة عشر مترا من سطح الأرض تقريبا ، ودون تردد أو وجل ، كانت المرأة من دون ان تشعر تطلق صرخة تحذيرية هالعه لوالدته لكي تصعد وتمنعه خشية سقوطه من تلك المسافة المرتفعة . لكنه لم يكن يأبه ، وربما احتوت ضحكته التي لم تكن لتتوقف ابدا هلع المرأة ، ويمضى في طريقه المرسوم ، مندمجا ، ومتوحدا مع ابتسامته العريضة المصحوبة بنغمة صوتيه مميزة اشبه بالصفير لكنها ليست كذلك ، تصحبه في جولاته وقفزاته ، وتظلله بسحابة من الألفة والأمان ، وكأنه كان يستمد منها طاقته ونشاطه غير المحدودين ، ورشاقته التي تجملت بوسامة وجه فائقة . وذاكرة بعيدة تحتفظ بالأسماء ، والاشياء ، وربما الأحداث على الرغم من الانشغال الدائم طول الوقت بالجري ، والقفز ، والحركة المفرطة التي تبدو في الظاهر عشوائية ، لكنها اضحت كل عالمه وواقعه الحقيقي الذي ثابر بكل عنفوانه للبقاء من اجله . كان يمضى وسط الحارة حافي القدمين ، مفرود الصدر ، وجلباب مرتفع لقصبة الرجل حيث يظهر بوضوح بياض الساقين وغزارة شعرهما . ويبدو الجلباب متسخا من فرط حركته في الحارة والشارع وولوجه هنا وهناك ، والاطفال الصغار يمسكون بتلابيب الجلباب ويمرحون ، وكان وسطهم ، يضحك مع حركاتهم ودهشتهم ، واصواتهم التي كانوا يطلقونها من خلفه " العبيط أهو " . لكنه لا يكترث ، يعرفهم جميعا بالاسم وبعرف اسماء ابائهم ، وامهاتهم ، وربما ما هو أكثر على الرغم من عدم تواصله مع احد على الاطلاق . وكان عندما يهم بالجري تخلصا من زحمة الاطفال حوله ، يضع طرف جلبابه في فمه ، ويزوم ، ويظهر سرواله الداخلي الطويل متسخا ، ويجري بعفوية ورشاقة في الشوارع متخللا البشر ، والزحام قبل ان يعود ثانية الى الحارة من جولته ، كأنما يتابع شيء ما ، ويريد ان يطمئن ان الأمور تسير على ما يرام . وذات يوم خرج في احدى هذه الجولات ولم يعد . اختفى تماما . فتشوا في كل مكان ، المستشفيات ، اقسام البوليس ، ثلاجات الموتى بالمستشفيات ، لا أثر . كان والده يسير في الشوارع هائما على وجهه ، يبدو غير محتمل لفراقه الذي طال ، يحاول جاهدا التفرس في كل الوجوه التي يقابلها لعله يصادفه من بين تلك الوجوه . تضاربت الاخبار ، احدهم ابلغهم انه التقاه في الحسين ، بجوار الضريح ، وحينما اقترب منه اختفى . وآخر عائد لتوه من فريضة الحج اخبرهم انه التقاه جالسا القرفصاء في حجر اسماعيل ، ونظر اليه بحميمية ، وترك المكان قبل ان يقترب منه . وامرأة من الجيران اخبرتهم انها شاهدته يجري في مذبح الجيزة مثلما كان يفعل هنا . واستعانت بالرجال هناك لاصطياده لكنهم فشلوا . وتمضى الاخبار والشائعات بين يدي والدته المكلومة مثل سراب عصي عن الادراك والتحقق . وتذوي الآمال في عودة الشيخ كما اطلقوا عليه مؤخرا الى الحارة ، ولم يعد الاطفال يبحثون عنه في اخيلتهم ، ولا في احلامهم ، ولا حتى داخل أحد اركان الحارة حيث كان يجلس القرفصاء مستريحا بعد جولة كبيرة .