لم يكن ضؤ القمر بدرا على أي حال ... ولم يكن حال القرية الصغيرة المختنقة في عمق دلتا النهر يختلف عن عتمة هذه الليلة على أي حال ... ولم تكن الهواجس التي تلاعبت برأس الشيخ رمضان وهو يشق طريقه عبر أخدود ضيق وسط زراعات الذرة حيث تمر الحيوانات والمواشي هينة على أي حال ... كان الوقت قبل أن يرفع مؤذن الفجر صوته بنصف ساعة ... وكان الأخدود متموجا ممدودا صلبا ... وكان فمه اليابس يرتعش بالتعويذة والحوقلة والبسملة ... وكان شتاء مارس باردا للغاية ... لا تقاومه كوفية قديمة متهرئة تغطي معظم وجه الشيخ ... أو جلباب صوف تآكلت أنسجته وبدا غير نظيف ... وكان الشيخ قد اعتاد الولوج عبر هذا الأخدود يوميا للصلاة منذ نصف قرن ... غير عابئ بما تحمله أعواد الذرة التي يراقصها هواء مارس البارد ... بزخاته التي تلفح سمرة وجه ... وقد بدا كالخارج لتوه من معركة جلل مع أيامه القاسية ... غير عابئ بما تحمله من أعاجيب لا يكشف غيبها غير عالم الغيب والشهادة ... فالرجل مضى أكثر من نصف عمره يبحث في كشف المستور... ويحكي عن الجن والعفاريت التي تسكن حقول الذرة في الشتاء ... وتتجول في حواري القرية الضيقة بحثا عن صيد تمضي معه الليل ... كان يدري إن حقل الذرة الذي يلفه الآن تسكنه العفاريت ... وكان يدري إن زوجته التي فارقته في العام الماضي رأته في منامها ذات مرة يصلي في الحجاز ... وماتت بعد المنام ببضعة أشهر ... ولكن كان لا يدري أن القروش القليلة التي يصرفها من البوسطة أول كل شهر ليقتات بها أيامه تخنقه ... وان كان يتذكر إن جلبابه الصوف المهتري ... الذي يمضي به الآن داخل الأخدود ... اشترته له امرأته منذ خمسة أعوام من سوق الثلاثاء مع جهاز ابنته عدليه ... كان بساما دائما ... وهو يتابع فقاعات الشاي المغلي تبتهج فوق السبرتاية ... مع رفاقه في ليالي الشتاء ... لم يلزم الصمت سوى أياما بعد جنازة ولده الأكبر ... الذي مات بداء الكبد ... وكان ذلك قبل جنازة امرأته بشهور ... لم يعتد أحد من أهل القرية الصغيرة أن يشفق عليه ... وهو يدفع بيديه المتيبستين عربة الخضار في السوق ... فالجميع هنا يدور بحثا عن قروش قليلة لا تكاد تبين في راحة يد متيبسة متشققة ... ومع ذلك لم يتفوه بالسؤال أو طلب حاجة ... بل على العكس ... رأى الناس في بشاشته ... ومرحه ... وإصراره على دعوات الشاي عنده علامة على يسر الحال ... حتى في سعي زوجته وقت الضيق ... أيام زواج الأبناء إلى أخيها التاجر الميسور في القاهرة لم يعلم به أحد ... تجاوز الشيخ السبعين عندما كان يدفع عربة الخضار ويمضي في السوق ... أبناؤه تزوجوا وانتشروا في أطراف القرية والقرى المجاورة وأحوالهم ربما أصعب من حاله ... ولا سبيل عن دفع عربة الخضار حتى آذان العصر ... وجاء اليوم الذي سقط مغشيا عليه في ساحة السوق ... بعد أن استلم بضاعته بلحظات ... حملوه إلى الوحدة الصحية وقضى فيها عشرة أيام للعلاج والملاحظة ... قالوا له إن قلبه لم يعد يتحمل المجهود ... وان عليه أن يرتاح ما بقى له من أيام ... لم يهتم الرجل ... بل ربما لم يسمع الكلام من أصله ... إذ كيف يقعد عن العمل ؟ ... ومن أين يأتي بقوته والقروش القليلة التي يسربها لأولاده... وأولاد أولاده ... بين الحين والآخر ... كيف يتحمل أن يضع يده في جيبه ولا يجد قرشا لأحفاده ... وهم اللذين اعتادوا على كفه الممتلئ دوما بالحلوى والقروش ... جزعته الفكرة فطردها على الفور ... ومضى إلى السوق أوفر نشاطا وأخف حركة ... يقعد مع أقرانه وزملاؤه من في مقام أحفاده وقت إن تخف الأقدام بعد صلاة الظهر ... يحكي عن أيامه الماضية ... والعفاريت التي تسكن الحقول ... والتي يبدأ لهوها مع دوران العتمة ... وفي غيبة كشافات القمر المحتجبة ... كان الشيخ ينتشي وهو يلحظ علامات الدهشة ... والوجوم ... التي تكسي الوجوه المتعبة في منتصف الظهر ... وقد فاضت بالاستغراب ... والصمت ... وكأنه تحلق بهم في سماء بعيدة وعالم بعيد ... لا تتسع له حدود ... أو تظهر له نهايات ... بدا الشيخ عالما ببواطن الأمور ... لا تضيع منه شاردة ... يملك ناصية العقول ببشاشة وجهه وغرابة حواديته ... التي يتسع زمانها لقبل مولده ببعيد ... وسقط ثانية ... وهو يدفع عربته في اتجاه بيته ... التم الناس ... وضعوه على العربة جوار الخضار ... وجاء الأبناء من أماكن متفرقة ... كان الشيخ متعبا للغاية ... سال عرقه ... تحشرجت أنفاسه ... أعلنت البنات وفاته بصيحات مدوية مفجعة للقلوب ... وهو لم يمت مازال ... وكان الأولاد مرتبكين ... لا يلوون على شيء ... نصحوهم ببقائه في البيت وعدم البهدلة في المستشفى العام ... قالوا لهم انه يحتضر ... ولا جدوى من أوهام الأطباء والعلاج ... امتثل الجميع للنصح ... وترقبوا لحظة وفاة الشيخ ... امتلأت الغرفة الضيقة بالسواد والنشيج ... الذي تتابع مع أنفاس الرجل المتعبة ... وقلبه المأزوم ... الذي يترنح وقد فاض من الفقر ... والعناد ... والأشغال الشاقة ... لأكثر من سبعين عاما دون كلل أو راحة ... كأن هذه الدقات العليلة تحتج بقسوة على الرجل ... الذي يتكوم على كنبة قديمة ... تفككت أوصالها ... مع ضراوة الأيام ... حتى إن لحافه الذي دثروه به الآن لم يعد يستر جسده ... كانوا يتحلقون حول الشيخ في وجل ... وبناته الثلاثة زاحموه الفراش ... تتابع نظراتهم أنفاسه الصاعدة ... ولون بشرته ... ولحيته الطيبة ... التي لم تفارق بشاشته ... وابتسامته على أي حال ... ازدحم الممر الضيق الذي يقطع التواء الحارة ... حيث مضى الرجل أيامه الطويلة ... وحيث تقف عربة الخضار رفيقته في حربه الضروس مع أيامه ... تقف جوار الباب شامخة ... وربما تكاد تنعى رفيقها الشيخ ... وكأن عجلاتها الخشبية ... وهي تدور منطلقة من والى السوق تآلفت مع روح الرجل ... ورائحة عرقه ... وملمس كفيه المتيبسين الرائعين ... فتزداد يهما خفة ... وحركة ونشاطا ... ولعل هذا المشهد نادر الحدوث ... حيث اصطف عشرات الرجال ... والنساء ممن هم على شاكلة الشيخ ... تختنق بهم الغرفة الضيقة ... وبأنفاسهم وأسمالهم المهترئة ... حيث يتمدد الرجل ... وكذلك داخل البيت والحارة الضيقة بممراتها ... وكأنهم يترقبون شيئا يأتي من السماء ... ليأخذ الشيخ إلى راحته الأبدية الموعودة ... لكن هذا الشيء لم يأتي ... إذ إن أنفاس الرجل لم تتوقف طوال الليل ... وعادت ضربات قلبه للانتظام ... على الرغم من الوهن ... ودخل الرجل في سبات آمن ... حتى قام إلى صلاة الفجر ... ولولا دفع بناته له لخرج يصلي الفجر في المسجد ... نشط الشيخ بعد أيام من هذه الحادثة التي تطاير صداها داخل البيوت الفقيرة ... وتناقلوها في المسجد بعد صلاة العشاء ... ولم يمض شهر حتى اخبروه إن خادم المسجد غرب البلد توفي ... ويحتاجون شخصا يحل مكانه ... انشرح قلب الرجل وفرح كما يفرح الأطفال ... ولما لا إنها وظيفة الحكومة التي انتظرها طوال سنوات عمره ... ويضمن بقاؤه في المسجد ليلا ونهارا ... لم يستطع كتمان هذا الشعور على نفسه وعلى الناس ... حتى إن رفاق السوق التموا حوله بعد آخر صلاة ظهر له معهم ... وظلوا يداعبونه ويستنفرون مخيلته ... وذاكرته ... حتى فاتهم صلاة العصر ... ولملموا حاجياتهم وانصرفوا ... انشغل الشيخ في العناية بالمسجد ورفع الآذان ... حتى إن ضربات قلبه التي كانت تصرخ عليه بين الحين والآخر ... لم تعد قادرة على زعزعة ذلك الجسد الناحل المتيبس... الذي أضفت علية مرارة السنون الطويلة رونقا ذهبيا مذهلا من القوة والصلابة والتحدي والحلاوة أيضا ... واليوم غادر الشيخ عامه الثامن بعد السبعين ... وهو يولج داخل الأخدود في اتجاه المسجد ... موفورا بالحركة والنشاط ... وعلى الرغم من الوهن الذي ضرب عينه اليمنى ... وثلثي عينه اليسرى ... تمضي قدماه بخطوات متسعة وجلة تخترق العتمة ... وتتسمع الحفيف بجلاء شديد ... كأنه ناقوس هائل يدق قلب الرجل الذي جزعته العتمة ... وعيدان الذرة المتراقصة المترسة بالعفاريت ... انشغل بال الرجل ... ازدحمت مخيلته بصور الحواديت التي يحكيها لأصحابه ... راعه أن يرى الطريق بلانهاية ... ضاعت وجهة المسجد من رأسه ... لما بدا يتسمع لصوت خلف ظهره ... وعندما استجمع شجاعته وثبت قدميه المرتعشتين اختفى الصوت ... تنفس الصعداء وتابع السير قلقا مرتبكا بحثا عن وجهة المسجد ... عاد الصوت خلف ظهره أكثر قوة ووضوحا ... ارتجف الرجل بشدة ... اكتست بشرته السمراء بعلامات الفزع والجزع ... ربما لأول مرة في حياته يشعر بجدية الأمر ... كثيرا ما يتحدث عن العفاريت ... ويقص الأقاصيص ... ويخوض في الموضوعات عن نوادرها ... وشهامتها ... ونذالتها أحيانا ... لكن لم يتصور نفسه أن قد يواجهها في الواقع مثلما واجهها في خياله أغلب الوقت ... " هذه المرة عفاريت حقيقي " ... هكذا قال لنفسه ... وهكذا لم يشعر بنفسه وهو يندفع وسط حقول الذرة ... يعدو ... والصوت خلف ظهره يطارده بتحدي بالغ ... يزيد كلما زاد الشيخ من سرعته ... ويتوقف كلما توقف الشيخ يبتلع انفاسه وريقه ... ارتطم كثيرا بالعتمة ... وأعواد الذرة ... وهو يواصل عدوه المتواصل في خفة شباب العشرين ... والصوت خلف ظهره لا يرحمه ... وراؤه ... يلاحقه في كل الأمكنة ... وفي خلاياه ... وتحت جلده ... وحتى بين أصابعه الخشنة ... ظل الشيخ يعدو بسرعة ... حتى سقط بلا حركة في حقل الذرة ... وفي الصباح الباكر جدا ... وبعد صلاة الفجر التي لم يشهدها الشيخ ... رأى الفلاحون ... جثة الشيخ رمضان ملقاة في أحد حقول الذرة ... بعيدا جدا عن الأخدود ... وقد علق عود حطب يابس في طرف جلبابه ... خلف ظهره ... وبدا وجهه ... كمن التقى وحشا أو هولا أو جنا .