نزلت من القطار في الساعة الثانية عشر مساءاً من محطة القطار البعيدة قليلاً عن المباني، وكان عليها أن تقطع المسافة على قدميها وسط الظلام، ولقد تكررت هذه الظروف معها كثيراً، ولكن كان بعض الركاب ينزلون معها في المحطة، وتسير معهم خلفهم أو أمامهم، لكنها كانت تحس بالطمأنينة لوجودهم معها، ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً ، فقد كانت بمفردها تماماً، ولم ترى أي أحد ينزل من القطار عداها، ولكن الجو الجميل أشاع في نفسها الطمأنينة في هذا الوقت المتأخر من الليل، وسارت في الشارع المظلم عدة خطوات، وفجأة أحست بأن هناك من يتبعها ولاحظت خياله من بعيد يحث الخطى خلفها فأحست بخوف وانقباض مفاجيء، فأسرعت في خطاها، فسمعت تسارع الخطى من خلفها، فتوجست شراً، واستعدت لأمر خطير قد يحدث، هل تصرخ، لكن من يسمع في هذه المنطقة الخالية من السكان؟ أم أنها تبدأ بالاستعداد للمعركة بأي شئ معها تدافع بها عن نفسها، ولكن ما عساها وهي أنثى ضعيفة لا حول لها ولا قوة، أم تهرول بسرعة لكن المسافة بعيدة، ولن تقوى على استمرار في الركض حتى تصل إلى منطقة السكن، وسيلحقها بالتأكيد قبل أن تصل، وقررت أن تواجه الأسوأ وهو الدفاع عن نفسها لآخر رمق، لأن الهروب سيغريه باللحاق بها، وسيشعره أنها ضعيفة وتخاف منه، والمواجهة قد تعطيها قوة وتعطيه إحساس بأنها واثقة من نفسها وغير خائفة فيرتدع، تسارعت أنفاسها وصعد الدم إلى عروقها واستجمعت كل ما فيها من قوة وغضب وعنف واستفزت مشاعرها لتواجه المجهول، وتباطأت في السير حتى كاد خياله أن يلمسها، ثم التفتت إليه فجأة لتواجه الخطر وهي تخبئ في يدها سكينة صغيرة لكنها حادة، وجدت أمامها رجل قوي البنية مفتول العضلات فوجهت إليه طعنة في قوة تفاداها في سرعة وقال لها في ود : هل حدث لك مكروه يا سيدتي؟ لقد تبعتك من محطة القطار لأني رأيت الطريق مظلماً والوقت متأخراً فتبعتك لأحميك من أي أحد قد تسول له نفسه أمر سوء ، إنني أؤدي وظيفتي فأنا أمين شرطة أتولى حراسة هذه المنطقة، ولن أدعك إلا عندما تصلين إلى العمار، دعيني أحمل عنك الشنطة، ابتسمت له وسارت بجواره وهي تشكره، ولكن لم تعد إليها سَكينَتها ولم تعد سِكٍينتها إلى الشنطة، إلا عندما أبصرت نور المساكن أمامها مباشرة، شكرته وحمدت الله على ما حدث وقررت في نفسها أن تتجنب الحضور في هذا الوقت لأن ليس في كل مرة تسلم الجرة. عندما وصلت إلى البيت وحكت لأبيها ما حدث، قال لها : إن إدراك الخطر بالحواس هو الذي يحفز البشر للدفاع أوالهرب، ولكن المشكلة الأكبر هي في الخطر الذي لا تدركه حواسنا، الذي لا نراه و لا نسمعه، الحواس تدرك التغيرات المثيرة وتهمل ما عداها، نفزع إذا صدمت سيارة إنسان أو حيوان ونقيم الدنيا و لا نقعدها، ولا نلقي بالاً للتلوث الذي يفتك بنا لأننا تعودنا عليه ولم تعد فيه إثارة، إن عدد الموتى بسبب التلوث من فشل كلوي وكبدي وسرطان يفوق كل أسباب الوفاة الأخرى، إننا نعيش عصر الضفدعة المسلوقة، سألته في عجب : كيف؟ أجابها : إذا أمسكنا ضفدعة ووضعناها في إناء على النار ورفعنا درجة الحرارة ببطء، لن تحس الضفدعة بالتغيير في درجة الحرارة حتى تموت، إننا نسلق حياتنا.