لا غنى عنك* إذا هجرتَ فمن لي؟ ومن يجمّل كلّي؟ ومن لروحي وراحي يا أكثري وأقلّي أَحَبَّكَ البعض منّي فقد ذهبت بكلّي يا كلّ كلّي فكنْ لي إنْ لم تكن لي فمن لي؟ يا كل كلّي وأهلي عند انقطاعي وذلّي ما لي سوى الروح خذها والروح جهد المقلّ الحبّ هو السّبيل الوحيد إلى الحقيقة، وهو الّذي يمنحنا القدرة على اكتشافها وتلمّسها، فنحياها يقيناً ثابتاً، لا يزعزعه هبوب مصاعب ولا عصف مخاطر. هو القوّة الحريريّة الّتي تدلّ البصيرة على الحكمة، وتمسك بيدنا لتسير معنا على درب الألم لنصل إلى رحاب الجمال الحقيقيّ. والحبّ علاقة حميمة بين الحبيب والمحبوب، تنشأ كبيرة وتخلص إلى الإتّحاد الكامل، فيصير الحبيب هو المحبوب والمحبوب هو الحبيب، وتنصهر الأنا بالأنتَ والأنتَ بالأنا. وعجباً، فلا يرى هذا الاتّحاد إلّا المتحابّيْن، يحملانه في قلبيهما، ويعيشان في العالم وهما ليسا من العالم. قد يعتقد البعض أنّ هذا الحبّ خياليّ، أو خارج عن قدرة الإنسان، أو لأشخاص معيّنين، اختاروا أن يزهدوا بالعالم، ويحيوا للحبّ فقط. وقد يستخفّ البعض الآخر بهذا الحبّ، وذلك لعدم قدرتهم على منح القلب رتبة أرفع من العقل، ظنّاً منهم أنّ الحبّ ضعف أو استسلام. بيد أنّ الحبّ الحقيقيّ هو التّوازن بين العقل والقلب، يستنير به الأوّل ويحيا به الثّاني، فتتشكّل حياة أبديّة سرمديّة يحياها المحبّيْن وهم في العالم، وينتظران بشوق عظيم ذاك اللّقاء الّذي لا ينتهي في موطن الحبّ والجمال. أدرك الحلّاج هذه الوحدويّة في الحبّ وهذا الانصهار الفاتن، فنطق به شعراً، والشّعر هو الكلام المقدّس الّذي يتلى في حضرة الحبّ. فحين يتعطّل التّعبير وتقسو اللّغة العاديّة، يلجأ المحبوب إلى مناجاة الحبيب شعراً، حيث الحرف سراج الكلمة، والكلمة سراج القلب. أدرك عالم الحبّ الحقيقيّ حيث الألم عظمة، والشّوق نعمة، والتّوق جوع لا يرويه شيء. دخل وامّحى في عالم العشق زاهداً بكلّ بهرجات الأرض. والزّهد ليس عدم الاستمتاع بالحياة، وإنّما هو أن نضع نصب أعيننا أنّها، وإن قدّمت لنا كلّ السعادة، تبقى فارغة وناقصة. كما أنّ الزّهد ليس فقط الانقطاع عن ملذّات الدّنيا وإنّما هو أنْ نحسب كلّ شيء كنفاية أمام عظمة الحبيب وحبّه. هو عدم الاكتفاء بالذّات وقدراتها بل أن نستمدّ منه كلّ قوّتنا لنحيا بسعادة. أمّا خشية الهجر في هذه الحال، فلا يعني الفراق أو تخلّي الحبيب عن محبوبه، وإنّما هو الخوف من العودة إلى حالة الشّقاء الّتي كان عليها الإنسان ما قبل الحبّ. فبملامسة الحبّ يعاين الإنسان جماله الحقيقيّ وصورته الإنسانيّة العظيمة الّتي لا تكشفها إلّا مرآة الحبّ الحقيقيّ. فبالحبّ يتجمّل كلّه، عقلاً وفكراً وقلباً وروحاً، وبالتّالي يفيض حبّاً وجمالاً على الآخرين. فهذا الحبّ لا يعرف الانغلاق والفرديّة، بل ينطلق من الذّات نحو الآخر لينعم بالسّلام والحبّ. فإذا هجرت فمن لي؟ سأفرغ من نفسي، من ذاتي، إذا هجرت فلا أكون، لأن وجود الحبيب وجودي، ووجودي وجوده، وأكون لأنه كائن. وكيف تحيا الرّوح مرتاحة بدون هذا الحبّ الّذي يعطّرها فتعبق عبيراً سماويّاً. فحبّي مهما بلغ من رفعة وسموّ لا يمكن أن يدرك عظمة الحبيب، إذ إنّني لا أعرف كيفيّة الحبّ بقلبي الإنسانيّ. أنا أحتاج لمن أستمدّ منه الحبّ وأنصهر به حتّى أصبح حبّاً متنقّلاً. أحبّك قلبي، أمّا حبّك فظلّلني حتى بات كلّي يحبّك، وصرت مالك الكيان بكلّيّته. فلا عجب إذن في أن يترنّم الحلّاج قائلاً: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا * من (المجتّث)، ديوان الحلّاج، أبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي (244 ه- 309 ه/ 858-922 م)، صنعه وأصلحه أبو طرف كامل بن مصطفى الشيبي، منشورات الجمل 1997- الطبعة الاولى- ألمانيا- كولونيا.