«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



“وصايا لا تلزمُ أحداً” ديوان للشاعر المغربي مصطفى الشليح
نشر في شموس يوم 17 - 08 - 2019


يرصدُ تحوُّلات العاشق بأسلوب مشبع بالدلالات
“وصايا لا تلزمُ أحداً” ديوان للشاعر المغربي مصطفى الشليح
نمر سعدي/ فلسطين
في خضَّمِ الأطنانِ المهولةِ من الكلامِ اليوميِّ السطحيِّ المرصوفِ في دواوينَ أنيقةِ الشكلِ أو المبعثرِ بصورةٍ عشوائيَّةٍ على جدرانِ الفيسبوك نبحثُ دائماً عن التجربةِ الحقيقيَّةِ.. عن عبارةٍ متوِّهجة مثقلةٍ بضوءِ الخيالِ والعاطفةِ والوجدانِ.. كمن يبحثُ في بيدرٍ مترامي الأطرافِ عن سنبلةٍ واحدةٍ، كما لو أننا في لحظةٍ عبثيَّةٍ قد فقدنا البوصلةَ ونسينا غناءَ الريحِ الخضراءِ المتردِّدةِ في أغاني الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، قد نرجعُ على أيَّةِ حالٍ بتلكَ العبارةِ أو السنبلةِ الضوئيَّةِ مبتهجينَ بهجةَ الصيَّادِ الذي عادَ بعدَ مكابدةِ نهارٍ طويلٍ بسمكةٍ فضيَّةٍ تتقافزُ في شباكهِ، كما عدتُ من قراءةِ قصائدِ الشاعرِ المغربي الكبير الدكتور مصطفى الشليحِ بكميَّةٍ وافرةٍ من السنابلِ والأسماكِ معاً.
وأنا الذي ينبهرُ عادةً بالعناوينِ الشعريَّةِ منذُ النظرةِ الأولى تركتُ لنفسي زمامَ هذه الفتنةِ الجميلةِ وهذا الاكتشافِ المكثَّفِ بالدلالاتِ وهي تتوغَّلُ شيئاً فشيئاً في حنايا هذا السفرِ الشعريِّ الجماليِّ الخلَّابِ.. فكثيراً ما تشي عناوين الكتب بمضامينها أو بمكنوناتها العاطفيَّةِ ولكن ديوان الشاعر المغربي الدكتور مصطفى الشليح المعنون ب (وصايا لا تلزمُ أحداً) لا يشي بمضمونهِ أبداً لأنهُ من البدايةِ الى النهايةِ يلزمُ أي قارئٍ بقراءتهِ والتمعُّنِ بسحر الشِعر الحلال الذي يفيضُ من ضفافهِ الكثيرةِ، هو محاولةٌ للتماهي مع الفرحِ بالحياةِ وتأثيثِ الوقعِ بمثاليَّاتِ الفنِّ أو بالقيمِ العليا.. أو دعوةٌ شعريَّةٌ للبحثِ عن فراديسِ الجمالِ والحبِّ المفقودةِ في عالمٍ النحاسِ والمادَّةِ.
والديوانُ الجديد صادرٌ عن مطبعة الأمنية بالرباط وقد جاء في 250 صفحة من الحجم المتوسط، تتصدَّره اضاءات شعريَّة لكل من: ريلكه، فريناندو بيسوا ومحمود درويش، ما يكشف عن العوالم الجمالية والفنية لواحد من أهم شعراء القصيدة المغربية الحديثة، الذي درج على إغناء متنها ليس الشعري فحسب، بل والنقدي كذلك.
انسجاماً مع روح العنوانِ، الذي لا يكتفي بتصدُّرِ المجموعة الشعريَّةِ، ولكنه ينسلُّ إلى ثنايا العمل الشعري يفتتحُ الشاعر ديوانهُ الجميل المقسَّم إلى أبواب شعريَّة بعناوين لافتة يبدؤها ب (لاعبُ النردِ) ويختمها ب (لا أحدَ في السفينةِ) مستعملاً أسلوب الترقيمِ الذي شُغفَ بهِ شعراءُ الإغريقِ القدامى وشعراءُ عصر النهضة الأوربيَّةِ وعلى رأسهم الانجليز.. ونذكر ولع شكسبير بهذا الأسلوب المستمَّدِ من الآداب القديمة التي تأثَّرَ بها.
هنا قصائدُ مشغولةٌ بالخفوتِ حينا وحينا آخر بالحفرِ في جوَّانياتِ الذاكرةِ والمنابعِ الأولى وأصداءِ اللغةِ وأقاصي الذاتِ.. مع الحفاظِ على مسافةٍ بينها وبينَ العبثِ الكلاميِّ واللغوِ المجَّانيِّ التقريري، فأغلبُ قصائدِ المجموعةِ الشعريَّة تنبضُ باحتراقاتِ كاتبها المشعَّةِ وانفعالاتهِ المتوَّجةِ بالقلقِ الوجوديِّ والشعورِ بالاغترابِ.
يبدأُ الشاعرُ بابهُ الشعريَّ الأوَّل في الديوان بهذا المقطع اللافت تحتَ عنوان (شيءٌ ما):
الجهاتُ التي أسلمتْني مناديلَها
لتَراني تآويلَها نائمة
في يديَّ استواءُ البداياتِ
كيفَ تكون البدايةُ محبرةً للجهاتِ؟
كتبتُ على ردهةٍ للذَّهاب إلى جبهة الوقتِ
شيئا من الخوف
يمشي إليَّ
هنا استحضارٌ للأُنثى العصيَّةِ حتى في كلامهِ عن مناديلِ الجهاتِ التي يريدُ لحبرهِ السريِّ أن يكونَ بدايةً لها.. لا خوفَ مع القصيدةِ التي يمشي إليها الشاعرُ وتمشي إليهِ، فمنذُ مطالعِ هذا الديوانِ العذبِ يتجوَّلُ الشاعر المغربي
الكبير الأُستاذ الدكتور مصطفى الشليح في حدائق المجازِ المعلَّقةِ، يقطفُ ما يروقهُ من ورودٍ وبراعمَ وأكمامٍ، كيفَ لا وهو الصائغُ الأمهر للقصيدةِ المغربيَّةِ الموزونةِ، بشكليها العمودي والتفعيلي، وأحدُ الشعراء العرب القلائل الذين يجيدون موسقةَ القصيدةِ وإتقانَ ايقاعها الهادرِ شأنه في هذا شأن سعدي يوسف والمنصف الوهايبي وقاسم حدَّاد ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وغيرهم، إذ نلمسُ مقدرةَ الشاعر العالية على تطويعِ البحورِ والايقاعات في أغلبِ قصائدِ هذا الديوان، ونجد معانقات شعريَّة كثيرة مع شعراء عرب وغربيِّين كالمتنبِّي وبودلير ومالارميه ودرويش، إذ نشعرُ بتأثُّر واضحٍ بموروثهم الشعري الممتدِّ والمتصِّلِ في كثير من الأماكن والاشارات.
ينعجنُ حبُّ الشاعرُ بالمكانِ.. بالتضاريسِ المتخيَّلةِ.. بالأرضِ الأُولى الخضراءِ التي يريدها ناياً واحداً يصبُّ فيهِ مزاميرَ العشقِ، أو يسكبُ عليها ماءَ الصباحِ.. وهذهِ العبارةُ الشعريَّةُ من أجملِ الاستعاراتِ التي رأيتُ في معجمِ الشليحِ الغزيرِ والوافرِ بالرؤى والكناياتِ والتشكيلِ البصريِّ والصوتيِّ، فهل ثمَّةَ اكتفاءٌ بالأرضِ التي يخاطبها مخاطبةَ عاشقٍ لحبيبتهِ على ناصيةِ الحنينِ؟:
تكتفي الأرضُ القريبةُ بي
كأنَّ صباحيَ المائيَّ أرضٌ لم تكن لي
أو كأنَّي لم أقدَّ ليَ الحجارةَ من خُرافتيَ الأخيرةِ
كي تكونَ الأرضُ ناياً واحداً.
خلالَ قراءتي لديوان (وصايا لا تلزم أحداً) لاحظتُ اهتمامَ الشاعر بمآلفةِ المعنى المجازي والدلالات المستحدثةِ التي يصبُّها في قوالب مبتكرة ويختمها بختمهِ الخصوصيِّ في عالمٍ سرابيِّ الرؤى.. مكثَّفِ الاستعارةِ والإشارةِ.. لا يُتركُ المعنى حتَّى يكتملَ على أحسنِ وجه.. بعضُ النصوصِ تبدو للوهلةِ الأولى فسيفسائيَّة.. يصعبُ تفكيكها.. هنا تبدو اللغةُ مزيجاً من نحتِ أبي تمَّامِ وغنائيَّةِ مالارميه الهادرةِ كموجِ البحرِ.. أتذكَّرُ قصائدَ بودلير النثريَّةَ وسونيتاتِ شكسبيرَ في بداياتِ بعضِ النصوصِ.. وأقفُ في النهاياتِ على أغاني الأندلسيِّين التي يتمثَّلها شاعرنا الشليحِ على
أكملِ وأجملِ وجه وهو المختصُّ أكاديميَّاً بالأدبِ الأندلسي.. أستحضرُ بكائيَّاتِ السيَّابِ وموسيقاهُ الخافتة بينَ السطورِ.. ولكن للشاعر بصمتهُ الخاصَّة حتى لا نكادُ نعثرُ في شعرنا العربيِّ الحديثِ على صوتٍ يشبهُ هذا الصوتَ المغسولَ بشفافيَّةِ الرقَّةِ والمشبَّعِ بندى ناياتِ شوقِ الموريسكيِّينِ إلى بلادهم.
يجمعُ الشاعر مصطفى الشليح خصوصيَّةَ النثري والشعريِّ معاً في الكثير من القصائدِ، وينأى عن المطروقِ من الأساليبِ والأدواتِ والاحتمالاتِ، فهو الشاعرُ المسكونُ بالنغمِ وشغفِ الأوزانِ الخليليِّةِ حتَّى النخاعِ، المسكونُ بتجليَّاتِ المرأة والأُنوثةِ والجمالِ، مع مزجِ كلامِ الفكرِ والقلبِ في شعريَّةٍ شفيفةٍ وهذا يذكِّرني بما قالهُ الشاعرُ والفيلسوفُ اللبناني جبران خليل جبران: “للحُبِّ يجبُ أن يكونَ شراعان.. القلبُ والعقلُ.. وإذا لم يتوفَّر كلاهما فستغرقُ السفينةُ”.. وبنظري أن العقلَ أحياناً يقيِّدُ الحبَّ بقيودٍ شتَّى.. لكنَّ جبران الفيلسوف يهيبُ بنا في مواضعَ كثيرةٍ أن نتخفَّفَ من قيدِ هذا الكائنِ النورانيِّ المسمَّى بالحبِّ وأن نجعلهُ بحراً ذا موجٍ خفيفٍ في إشارةٍ جليَّةٍ: “لا تجعلا من الحب قيداً، بل اجعلاهُ بحراً متدفقاً بين شواطئ أرواحكما”.
الملفتُ في الديوان هو هذا التنوُّعُ البديعُ والمتناسقُ بأشكالِ الشعرِ وبالمواضيعِ.. الاحتفاءُ باللا معنى والاساطيرِ.. روحِ الطبيعةِ.. هواجسِ الشعراءِ.. لغةِ الحلمِ. والشيءُ النادرُ هو تقفيةُ عناوينِ القصائدِ.. نمنمة.. عتمة.. ارتباك.. اشتباك.. انتظار.. انشطار.. فيما تلحُّ الإشارةُ إلى ملامحِ الشعرِ بالعناوين: “اللغة الثانية” (ولعلَّه في هذا العنوان يشيرُ الى أنهُ يبتكرُ قوانينَ لغةٍ شعريَّةٍ خاصَّةٍ بهِ).. “هي فوضى” (يدلُّ هذا العنوان على لغتهِ التي تبعثرُ الأزمان والأماكن.
يعتمدُ الشاعرُ لغةً تفكيكيَّة.. فمثلا يفكِّكُ القصصَ الشعبيَّة عندما يقولُ:
تداعى الوضوح الى شهرذادَ
فنامت قبيل ابتداءِ الحكايةِ
في ألف ليلتها ثمَّ ليلة
سمةُ الابتكارِ في شعرهِ واضحةٌ عندما يحاولُ أن يتكلَّمَ بأصواتِ مبدعينَ وحالمينَ كبار من التاريخِ القديمِ والمعاصرِ.. ففي شعرهِ (لا أحد في السفينةِ) يتخيَّلُ كيفَ كلِّ واحدٍ من هؤلاء تصرَّف إزاء هذه المسألة:
ابنُ خفاجة / السمؤالُ / ابنُ الفارض / الحلَّاج / السيَّابُ / أدونيس / سليم بركات وغيرهم.
يقولُ الشاعر الدكتور مصطفى الشليح في أحد حواراتهِ الأدبيةِ مسلِّطا الضوءَ على بعضِ هواجسهِ الشعريَّةِ: “أجرِّبُ لأظلَّ في أرض الشعر، وليس للتَّخطِّي والتجاوز، إذ توخِّي ذلك يفترضُ نماذج عليا للكتابة. لا نماذج عليا لي. هناك تجاربُ تراثية ومعاصرة، وثمة مقترباتٌ إنجازية من الشعر، عربية وغربية، وهنا ذاتي أنا بكل حَمولتها المعرفية، وبكلِّ ذوائقها التفاعلية مع تلك المقتربات؛ لكنَّها تظلُّ، في أتمِّ زينتها، إذا استدركتُ عليها بالصَّدى تناصًّا بالغا أقصى مستوياته النقدية بالحوار”.
هناكَ رفضٌ معيَّن يتمُّ اليوم لقصيدة الوزن بشكليها العمودي والتفعيلي.. هناك من يؤسِّسُ لطردها من قاموس الشعرية العربية وهذا ما صادفته من خلال علاقتي بالصحافة العربية المكتوبة والمقروءة.. “البلاغةُ المجانيَّة” أصبحت اليومَ عبئا ثقيلا على كسلِ ذائقةِ المتلقِّي.. على أفراد يظنُّون أنفسهم أوصياء على قصيدةِ النثر، التقفية أيضا باتت من أوابد الكلام وزوائد اللغة.. القرَّاء يريدون شعراً بسيطاً.. سهلا.. يوميَّاً.. يتغلغلُ في تفاصيل هذهِ الحياةِ المركبَّة.. شعراً طازجا بلا رتوش بلاغيَّة ولا مقدِّمات طويلة، التفعيلة في مأزق حقيقي حسب ما أعتقد ولا أظنُّ أن هذه النماذج العليا والمبهرة من الشعر الموزون ستنقذها.. هناكَ اختلاف عوالم ورؤى ومواضيع وأساليب وتقنيَّات، فتقنيَّةُ شاعر الوزن تختلفُ كليَّا عن تقنيَّةِ شاعر قصيدةِ النثر.. وهذا الاختلافُ العميق بأساليبهِ وأدواتهِ وعوالمهِ هو ما يشكِّلُ بالضرورةِ حالةَ الجهلِ أو التجاهلِ لأهمِّ أُسسِ الكتابةِ لدى أغلبِ الهواةِ الفيسبوكيِّين. الأمر الذي يؤدِّي لهوَّة شاسعة بين الشكلين، ولاحقا إلى أزمةِ تلقٍّ.. أو حالةِ استسهال كتابي تقودنا لحالةِ فوضى النشرِ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ.
أتذكَّرُ الآن عبارةً تقولُ بأن شاعر الوزن يرقصُ بينما شاعرُ النثرِ يمشي رويداً.. وشتَّانَ ما بينَ الرقصِ والمشي الوئيدِ.. والقصيدةُ عند الشاعر مصطفى الشليح هي ذلكَ الرقصُ المتناغمُ ذلك أو الحبلُ السريُّ لرحمٍ وجوديَّةٍ للكتابةِ كما يشيرُ في هذا النصِ العميقِ جدَّا: “ليست الكتابة لعبةً لغَويَّةً، ولا علبةً سحريَّةً، ولا ترخُّصًا بيانيَّاً، ولا
تخرُّصًا بلاغيًا.. أعتقدُ الكتابة انوجادَ الذَّاتِ في محيط الذَّاتِ، والبحثَ في المشترك عن المفتقد والممتلك، وجسرنة الأسماء والأشياءِ بما توقُ الأشياء إلى الأسماءِ.
الكتابة موقفٌ، وَلَيْسَ شرطا أنْ يكونَ حدثيَّاً، كما ليسَ ضرورةً أنْ يكونَ دعويَّاً؛ إذ الكتابة هُويَّةُ الكائن في جغرافيةِ الكلماتِ.
هكذا رأيتُ الكتابةَ رحمًا وجوديةً، ورأيتُ القصيدةَ حبلَها السُرِّيَّ في كلِّ احتمال ابتداءٍ”.
يشكِّلُ هذا الديوانُ المميَّزُ مرآةً تعكسُ العالم بعينَيْ إنسان لا يرى تصادم الشرقِ والغربِ بل يبصرُ ما يجبُ أن يكون عليهِ العالمُ من اتحاد وتآلفٍ.. وبأن الفكر الغربيَّ لا يتناقضُ بتاتاً مع ذلك الذي في الشرق بل بالعكس فانهما يكمِّلانِ بعضهما كعناصر الطبيعة، فبالرغمِ من اختلافها إلَّا أنها تتجانسُ مع بعضها البعضِ، فالشاعرُ في ارتحالهِ الشعريِّ هذا يرسمُ بشاعريَّةٍ عالماً نظيفاً ومدناً فاضلةً ويعصرُ خلاصةَ التجاربِ الإنسانيةِ والفنيَّةِ عبر التاريخِ والجغرافيا، وكتابةُ الشليح الشعريَّة والنقديَّة بنظري هي انتصارٌ للموروثِ الشعريِّ الأصيلِ العربي والعالميِّ.. وانتصارٌ لقصيدةِ التفعيلةِ المركزَّةِ والمكثَّفةِ التي بدأت تواجهُ حملةً نقديَّةً عشوائيَّةً شرسةً من الجهاتِ الأربع.
تجدرُ الإشارة إلى أنَّ الشاعر مصطفى الشليح يعمل أستاذاً للتعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، وقد صدرَ لهُ في الشِعر:
” عابر المرايا”، ” وماء العراق يشربه القصف”، ” سيدة البهاء”، ” ثم تلقي علي كل أسئلتي شالها”، ” القصيدة من خطايا اللغة”، ” في ألف رباعية ورباعية”، “كأن النهر امرأة لاتنام”، ” لك الأوراق … وكل الكلمات لي”، ” هو العابر الرائي”.
وفي الدراسات النقدية:
“في بلاغة القصيدة المغربية”، “محمد المختار السوسي”، ” المعرفة / المؤسسة / السلطة في الثقافة المغربية بسلا”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.