فى الصغر كان العالم من حولنا يبدو واسعاً رحباً لاتستطيع عقولنا الغضة أن ترسم له حدودا واضحة .. كانت الاماكن تبدو اكبر واكثر اتساعا والمسافات ابعد والبنايات عالية وكأننا اقزام نعيش فى عالم العمالقة . بعض الاماكن ظلت عالقة فى الذاكرة بما تحتويه من مبانى وجدران بكل تفاصيلها فهذا فناء المدرسة الكبير الذى كنا نلعب ونتريض فيه وهو الذى كنا نقف فيه بكل نظام واحترام لتحية العلم .. وتلك الحديقة الواسعة التى استمتعنا فيها بروعة الطبيعة والأرض الخضراء والهواء النقى .. وهذه المبانى العملاقة التى ابهرتنا بتعدد طوابقها وكثرة نوافذها ومداخلها الكبيرة .. وغيرها من الأماكن التى تركت بداخلنا ذكريات جميلة لاتنسى . وحينما تقدمنا فى العمر قليلا اكتشفنا أن كل الاماكن التى رأيناها سابقا لم تعد تلك التى كانت عالقة فى الاذهان منذ الصغر فلم يعد فناء نفس المدرسة بنفس الحجم والسعة ولم تعد نفس المبانى بنفس الارتفاع الذى ابهرنا سابقا حتى الشوارع اختلفت مساحاتها فلم تعد كما كانت .. والحقيقة انه لم يكن التغيير فى الاماكن ولكن نحن من اصابنا التغيير فقد تغيرت نظرتنا للاشياء من حولنا واصبحنا نرى العالم بعقول اكثر نضجا. فى صغرنا كان التقدم فى العمر يبدو لنا انه امرا غريبا وكيف لا وكان العام الواحد بالنسبة لنا يمثل عمرا باكمله فالايام كانت تمر ببطىء وكذلك السنوات ربما لاننا كنا نمتلك الوقت وكان لدينا متسع منه للقيام بالكثير من الاعمال والمهارات التى تشعرنا بالسعادة فلم نكن نعى معنى اليوم او غدا ولم نحسب يوما ماذا ينتظرنا فى المستقبل .. لذا كنا ننظر لمن هم فى عامهم الثلاثين مثلا على انهم كبارا فى السن لاننا لاندرك كيف تكون علامات التقدم فى العمر ومن يمكننا ان نطلق عليهم كبار السن لكننا عندما كبرنا اكتشفنا ان تلك المرحلة العمرية التى تلى مرحلة الطفولة هى بداية حقيقية لممارسة الحياة والاستمتاع بنعمها وليست النهاية. تلك المرحلة هى مرحلة الشباب والتى تعتبر من اهم المراحل التى يمر بها الانسان حيث تصل القوة والنشاط والحيوية والذكاء الى ذروتها وفيها تتبلور شخصية الفرد و يكتسب .. والشباب فى هذه المرحلة نجده عاشقا للحياة مستمتعا بملذاتها.. احلامه لاحدود لها.. مغرورا .. متباهيا بشبابه وصحته وقوته.. يسعى دائما لتوسيع دائرة معارفه واصدقائه ويجد فى ذلك متعة كبيرة حتى لو كانت مصدرا للقلق والازعاج .. لكنه مندفعا فى مشاعره وعواطفه وردود افعاله تجاه الاخرين .. يقع فى الاخطاء كثيرا ولايتعلم منها فيكررها ويكررها .. متعصبا لرايه.. مجادلا..لايقبل النصيحة … ولكن حينما يتقدم بنا العمر لما بعد سن الاربعين تصبح كل تلك الاشياء غير ذات اهمية فنصبح اكثر مرونة فى التعامل مع الاشياء متجنبين الجدال والانتقاد والعلاقات المؤذية .. يقل الاصدقاء لدينا ويكثر المعارف ونزداد تسامحا ونواجه الانتقادات بابتسامة… لاعنف ولاتعصب بل هدوء وسكينة.. نتعلم كيفية مصاحبة الصمت والبعد عن ضجيج معارك هرولة تروس الحياة وغبار الأقدام اللاهثة.. ونميل الى الوحدة احيانا لاننا نكتشف أن السعادة والمتعة والانس آت من صحبتنا لذواتنا، من العيش بالفهم الحقيقي للذات وبالتراضي والسلام معها، والتخلي عن شحنات العنف والغضب وعدم الرضا عنها، ومحاولات تغييرها وتطويعها بحسب رغباتنا لتجاري أحداث متطلبات الزمن من حولها. عندما نكبر نتغير..لكن ليس فقط فى المظهر الخارجى الذى نراه فى المرايا لكن يتغير فينا كل شىء.. فهمنا للحياة وادراكنا ونظرتنا لامورها .. لسنا بحاجة إلى إيجاد السعادة من خارجنا، لأنها موجودة في دواخلنا، فقط تحتاج إلى هدوء وسكينة وهو ما كان يحصل مع آبائنا، حيث كانت سعادتهم تتأتى من أبسط الأمور، جمعتنا وصحبتنا لهم مع وجبة هنية كانت تمثل قمة الهناءة والسعادة. عندما نكبر… نعود إلى بهجة البراءة الأولى، براءة الأطفال الغضة التي ترى المتعة في أصغر المعطيات من حولها وأبسطها، ضحكة حفيد، تفتح ورد الحديقة، صباح يعبق برائحة المطر، رئة تراب تنفث عبقها، وقلب الكبير الساكن في عزلة وحدته يبتسم ويضحك والذي يُعيد تكرار بث أدواره وأطواره في نسخته المتكررة. حينما نكبر .. تختلف ترتيب مطالبنا .. فيتاخر الحب ويتقدم الامان اذن فنحن نحتاج الدفء والانتماء .. أكثر من حاجتنا إلى ثورة المشاعر والأحلام.