“يا ابني أعطني قلبك،ولتلاحظ عيناك طرقي.” (أمثال 26:23) الكلمة الإلهيّة واحدة منذ البدء وإلى الأبد. هي الكامنة في اللّحظة الخارجة عن الزّمان والمكان. اللّحظة الممتدّة فوق الوجود والمتداخلة في تفاصيله في ذات الوقت. لذلك فالإنسان المصغي في كلّ زمان ومكان يدخل سرّ هذه اللّحظة، ويحيا مع المحبوب الإلهيّ الحاضر معه بالحبّ. “يا ابني أعطني قلبك”. الحاجة الإلهيّة إلى الإنسان. حاجة القلب للقلب. وفي عمق هذه الحاجة ندرك الصّلة الإلهيّة الإنسانيّة والعلاقة الخاصّة بين السّماء والأرض. فيبرز القلب كمحور العلاقة الإلهيّة الإنسانيّة. فالقول (أعطني قلبك) مفتوح على اللّاحدود. اللّامحدود، أي الله، ينتظر من المحدود، أي الإنسان، أن ينفتح عليه بلا محدوديّته، أي بالقلب. لم يقل الرّبّ (أعطني عقلك)، فالعقل غير قادر على سبر أغوار الحبّ، وإن فعل فلسوف يصطدم بالحدود، والضّعف، والعجز وربّما الفشل. القلب، أي العمق الإنسانيّ، حيث يمكث الله، حاجة إلهيّة. ما تاه عنه الإنسان في غمرة التّشريعات والتّقيّد بحرفيّة النّصّ بل عبادته. ليس الله نصّاً، إنّه “القلب”. ولا بدّ من أنّ القلب يتفاعل مع قلب مثله وإلّا فما معنى العبادة؟ لقد عبد الإنسان اللّغة النّصّيّة فاستبعد القلب وانغمس بالمسائل العقليّة فالتبست عليه اللّغة الإلهيّة. ليس المراد من هذا القول استبعاد العقل والمنطق، لكنّ العقل يستمدّ معرفته من القلب، على عكس ما يظنّ كثيرون. فالحبّ الإلهيّ يشعل القلب ليشعّ بدوره على العقل. ولا تستقيم اللّغة ولا تنكشف أسرارها إلّا بقدر ما ينفتح القلب على حديث القلب بين الله والإنسان. ينطوي الطّلب الإلهيّ (أعطني قلبك) على دلالات الحرّيّة الممنوحة من الله للإنسان وعلى الحبّ الكبير الّذي لا تستطيع اللّغة أن تبلّغه، مهما اتّسمت بالبلاغة والرّصانة. لذلك يخاطب الله القلب أوّلاً، قائلاً: “يا ابني”. البنوّة صلة خاصّة وامتداد للأبوّة، وبمنح القلب لله، يدرك الإنسان الجانب الإلهيّ الكامن فيه. وعندها يمكنه الحديث إلى الله، القلب. إذ إنّه بهذا الإدراك ينفتح على النّور الإلهيّ ويستحيل قلباً فيمنح ذاته بكلّيّتها إلى الله. الإدراك البنويّ للأبوّة الإلهيّة أساس النّموّ الإنسانيّ على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ. فبهذا الإدراك يبلغ الإنسان حياته الحقيقيّة ومعناه الحقيقيّ. وما سوى ذلك تخبّط في أمواج شبه الحياة، وتساؤلات متكرّرة دون إجابة، وبحث بلا جدوى عن المعنى العميق والحقيقيّ للوجود. من يمنح قلبه لله يدرك أصله في الله، في الحبّ الإلهيّ. في الأصل هذا القلب له، إلّا أنّ الإنسان تاه عن الأصل فتاه عن الطّريق لأنه خسر نعمة البصر (ولتلاحظ عيناك طرقي) فالعين عين القلب والفهم فهم القلب والمعرفة معرفة القلب. من يمنح القلب يرَ، ويلاحظ الطّرق المؤدية إلى القلب الأزليّ الأبديّ. والطّريق إليه واحد، طريق الحبّ، طريق النّور. وإذا ما تكلّم النّور تدفّق الصّوت برقّة وحنان لا متناهيين “يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي.” واليوم، إذا سمعتم صوت النّور فلا تقسّوا قلوبكم حتّى يكون النّعيم حديث قلب لقلب.