د. مجدي العفيفي كأن عملتي كانت بلا غطاء ذهبي فأصبح لها غطاء أغلى من الذهب.. كأن عيني كانتا بلا حدقتين فصار لهما حدقتان بل أحداق وتحديق وتعميق وتحليق.. كأنني كنت صحراء متوحشة ثم تدلت فيها شجيرات دائمة الخضرة.. فكان الاخضرار والازدهار على أمل الاستمرار.. كنت ليلا بلا نهار فانسكب النور أو النار وحدث انفجار في تكويني فانفجرت وانشطرت وانصهرت فاطهرت وتطهرت! ثمانية أيام في مدينة الرسول "صلى الله عليه وسلم"، في حضرة الحرم النبوي الشريف، وعشرة أيام في حضرة البيت الحرام، في جنبات أول بيت وضع للناس أيام بل لحظات لا تحسب من العمر ولا تحسب بالعمر، الأحاسيس خارج دائرة كل المقاييس، المشاعر خارجة عن التحديد، والتأطير، والتنظير، والتفكير البشري المحدود وحتى الممدود، أستعيدها بجلال وجمال وخشوع وخضوع ورغبة ورهبة. قبل الزيارة التي يتشرف بها كل من يسعى إليها، قالوا لي لا تعمل عقلك وأنت تؤدي المناسك!! حتى خيل إلىَّ أن العملية ستكون آلية!!، قالوا: "تحرك بقلبك فقط وأنت تطوف وتسعى وترمي وتبيت وتقف. تجاذبتني الحيرة والغيرة أيضا وتذكرت سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وهو أيضا الذي قال لربه: «أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»، وتعطرت أيضا بالكلمة النبوية الشريفة، «خذوا عني مناسككم» يا إلهي، كيف أحج وأتحرك بتنفيذ الأمر فقط بالعضلة التي تضخ الدم، مع أن كل شيء قاله القرآن الكريم عن القبس يتعلق بالنشاط الفكري الذي يميزني كإنسان عن بقية المخلوقات، وكرمني خالقي ب "نفخة الروح"؟ لحظة أن دخلت الفضاء الحرمي المكي والمدني، وانفعلت وتفاعلت كل الجوارح وتساقطت كل الفروق بين السمع والبصر والفؤاد والعقل والنهى والقلب والنفس و.. كل وسائل الإدراك، وصار الرحيق حريقًا، والحريق رحيقًا، وأصبح الكل في واحد، والواحد الذي هو في الأرض إله، وفي السماء إله! إذا كانت أهم خاصية للعبادات في سقوط العقل فيها، فهذا السقوط هو نجاح للعقل، هو ارتفاع له وتشريف، لماذا؟ لأن مسائل العبادات تجيء وبها المقدمات والنتائج معًا، وبالتالي بل بالضرورة يسقط العقل، ولابد أن يسقط.. فلا أحتاج إليه ولا أحتج به!!. وعبادة مثل (الحج) إنما هي عبادة فؤادية مشخصة بالحواس، بل هو استمرارية العبادة الفؤادية البدائية المشخصة بحاستي السمع والبصر، من هنا نفهم ونعقل قوله تعالى على لسان النبي إبراهيم: }رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ{. رموز.. وترميز.. فإن سعيت إلى فك هذه الرموز سينفتح أمامك ما لم يكن يخطر على قلبك لابد أن (تتحلى)، ف(تتخلى)، ل(تتجلى)، عليك أشياء وأشياء تحاول أن تلملمها، كمن يمسك النور بيديه. "وما حب الديار شغفن قلبي... ولكن حب من سكن الديارا"، هذا المعنى يتكامل في رحلة النور فالأهم حب من سكن الديار فالكعبة مجموعة أحجار والبيت جدران من أحجار وجبلا الصفا والمروة مجموعة أحجار وعرفات أحجار، والمزدلفة أحجار والرجم بالأحجار على الإحجار والحجر الأسود أيضا، كل شيء رمز، رموز غامضة غموضًا شفافًا، فالمهم ما وراء الرمز، السر الكامن في كل رمز، بل الأسرار في كل رمز ورموز. الداخل إلى البيت الحرام مريض والخارج سليم، خارج بقلب سليم، الداخل ثقيل الذنوب مثقل بالخطايا والأخطاء، والخارج بلا ذنوب أو يتمنى ذلك، والتمني في حد ذاته قيمة مريحة فعلًا وحقًا وصدقًا هو بيت مبارك فيه مثابة وأمن وأمان وطُمأنينة وامتنان، "فاللهم زد هذا تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة ورفعة وبرًا. دخلت.. فكيف حدثت المداخلة والتجليات والإشراقات، وكيف كانت فوق كل الإدراكات المألوفة والمكشوفة وسبحان الذي يتجلى على عبيده بالألوهية والربوبية! يترقرق في عينيك الشجن دموعًا لا هي بالتي تساقط، ولا هي بالتي تعود إلى محجرها، فهي بين بين! تلزمك الصمت والسكون وتغشيك السكينة، والسكينة في المسجد النبوي تتنزل على الفؤاد فيخشع وتلف الجوارح بحب صاحب المكان عليه الصلاة والسلام عدد ما في علم الله صلاة دائمة بدوام ملك الله، هدوء ينساب في أنفاسك، في صلاتك، في تسبيحك، في سكونك، في بكائك، في سرورك في ارتعاشاتك، في خفقاتك، وما أجمل أن يرتعش ويخفق السمع والبصر والفؤاد وما كل ما أنت عنه مسئول!! تتلألأ الأنوار التي تنبعث من جنبات المكان المعطر والمقطر والمسرج والمتوهج، معطر: برائحة الرجل الذي غير وجه التاريخ ووجه الإنسانية الوجهة الحنيفية الحقيقية، ومقطر: بفيوضات الرحمة المهداة للعالمين والأولين والآخرين، ومسرج: بأنوار النبوة والرسالة والإنزال والتنزيل والبلاغ والتبليغ، ومتوهج: بالنور الذي ساعة أن يغمرك لا تعرف الليل من النهار ولا تريد أن تعرف حركة الزمن، لولا المؤذن الذي ما إن يرفع اسم الله تعالى حتى تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا وأنينًا ونشيجًا وحنينًا، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. أنت الآن في مركز الكرة الأرضية منذ أن تغمرك أنوار المناسك والمشاعر، وطوال التحرك أو التنقل والتجديف من موجة إلى موجة، وفي بالي ذلك الخيط العظيم بين سيدنا إبراهيم وسيدنا محمد وهو الحنيفية، نعم.. كل شيء ما عدا الله فهو حنيف.. متغير، وحقيقة الحنيفة كان أول من اكتشفها في التاريخ الإنساني هو نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبهذا كانت ميزته على الأنبياء والمرسلين كما يقول العلماء والراسخون في العلم، وأن تثبيت آية ظاهرة في الوجود هو شرك بالله أي إشراك هذه الظاهرة مع الله في بقائها وثباتها لنا، فقد تم ربط الحنيفية بالتوحيد.... (و..لأضواء التجليات بقية).