وظائف في 50 شركة ومؤسسة.. انطلاق الملتقى التوظيفي الأول لجامعة طيبة التكنولوجية في الأقصر    «الداخلية» تُعلن مواعيد التقديم وأماكن الاختبارات للقبول بمعاهد معاوني الأمن    غداً.. طرح مشروع قانون العمل للحوار المجتمعي    "إعلام النواب" توافق على موازنة "الوطنية للصحافة"    15 صورة.. تفاصيل انعقاد أول "هاكاثون" للجامعات التكنولوجية    مصر تعتزم دعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية    إذا أرادت أمريكا إنهاء الحرب..!!    حركة حماس تثمن إعلان مصر انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل ضد إسرائيل    رئيس لجنة الانضباط ليلا كورة: ما زلنا ندرس قضية الشحات والشيبي.. وفيفا أبلغنا أنها شأن داخلي    "إلغاء منصب مدير الكرة".. علاء ميهوب مديرًا رياضيًا لفيوتشر    يوفنتوس بالقوة الضاربة في مواجهة يوفنتوس بالدوري الإيطالي    المؤبد لقاتل طليقته في الحجيرات بقنا    جنايات شبرا تعاقب المتهم بقتل جاره بالقناطر الخيرية    بإطلالة كاجول.. ميرهان حسين تتألق في أحدث ظهور لها - (صور)    "أثر الأشباح" للمخرج جوناثان ميليت يفتتح أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي    بعد تصدرها التريند..تعرف على عدد زيجات لقاء سويدان    أمينة الفتوى: سيطرة الأم على ابنتها يؤثر على الثقة والمحبة بينهما    رئيس جامعة طنطا يتفقد أعمال تنفيذ مشروع مستشفى الطوارئ الجديد    أسهل طريقة لعمل المايونيز في المنزل    اسكواش.. نتائج منافسات السيدات في الدور الثاني من بطولة العالم    فرحة في الكامب نو.. برشلونة يقترب من تجديد عقد نجمه    لجنة حماية الصحفيين: نشعر بالقلق جراء إفلات إسرائيل من العقاب    موعد عيد الاضحى 2024 وكم يوم إجازة العيد؟    قائد الجيش الأوكراني: الوضع في خاركيف تدهور بشكل كبير    الدورى الإسبانى.. قاديش يعزز من فرص تواجده فى الليجا بالفوز على خيتافى    "العيد فرحة وأجمل فرحة".. موعد عيد الاضحى المبارك حسب معهد البحوث الفلكية 2024    بالصور.. نجاة 14 راكبًا من الموت بعد سقوط "ميكروباص" في ترعة ببني سويف    مستشهدًا بالعراق وأفغانستان.. سيناتور أمريكي لإسرائيل: قتل المدنيين يزيد دعم وقوة خصومنا    المفتي يحذر الحجاج: «لا تنشغلوا بالتصوير والبث المباشر»    «تعليم النواب»: موازنة التعليم العالي للسنة المالية الجديدة 2024/2025 شهدت طفرة كبيرة    الثلاثاء.. مناقشة رواية "يوم الملاجا" لأيمن شكري بحزب التجمع    الصحة: الجلطات عرض نادر للقاح أسترازينيكا    تأجيل محاكمة المتهم بقتل سيدة لسرقتها فى حدائق القبة لجلسة 26 مايو    اليوم العالمي للتمريض.. قصة "سيدة المصباح" التي أنقذت الكثير من الأرواح    هشام آمنة: 256 مليون جنيه لتطوير منظومة إدارة المخلفات بالمنوفية    البورصة تخسر 25 مليار جنيه في ختام تعاملات أول الأسبوع    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات بأفغانستان إلى 315 شخصًا    المشاهد الأولى لنزوح جماعي من مخيم جباليا شمال غزة هربا من الاجتياح الإسرائيلي    مظاهرات الجامعات توقظ ضمير العالم    مجلس الشيوخ يقف دقيقة حدادًا على النائب الراحل عبد الخالق عياد    إعلان خلو مقعد الراحل عبد الخالق عياد من الشيوخ وإخطار الوطنية للانتخابات    بعد توجيهات الرئيس بتجديدها.. نقيب الأشراف: مساجد آل البيت أصبحت أكثر جذبا للزائرين    في العالمي للتمريض، الصحة: زيادة بدل مخاطر المهن الطبية    ضبط دقيق مدعم وكراتين سجائر قبل بيعها بالسوق السوداء في المنيا    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل سائق توك توك وسرقته في الفيوم لعدم حضور الشهود    مجلس الجامعات الخاصة يكشف قرب الانتهاء من إنشاء 7 مستشفيات    kingdom planet of the apes على قمة شباك تذاكر الأفلام الأجنبية في مصر (بالأرقام)    البريميرليج يقترب من النهاية.. من يحسم اللقب؟    بايرن ميونخ يستهدف التعاقد مع مدرب "مفاجأة"    بنك ناصر يطرح منتج "فاتحة خير" لتمويل المشروعات المتناهية الصغر    «الداخلية»: ضبط 4 عاطلين بتهمة سرقة أحد المواقع في أسوان    أسيوط: إزالة 8 تعديات على أراضي زراعية ومخالفات بناء بمراكز أسيوط وصدفا وحي شرق    الجزار يوجه بعدم التهاون مع المقاولين في معدلات التنفيذ وجودة تشطيبات وحدات سكن لكل المصريين    الإفتاء: توضح حكم سرقة التيار الكهربائي    السيسي: أهل البيت عندما بحثوا عن أمان ومكان للاستقرار كانت وجهتهم مصر (فيديو)    إسلام بحيري يرد على سبب تسميه مركز "تكوين الفكر العربي" ومطالب إغلاقه    التنظيم والإدارة يعلن عن وظائف بجامعة مطروح    الصحة: تطوير وتحديث طرق اكتشاف الربو وعلاجه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الواقع براوية التاريخ – خسوف بدر الدين نموذجا
نشر في شموس يوم 09 - 03 - 2019

يعود الكاتب باسم خَنْدقجي بروايته الأخيرة “خسوف بدر الدين” (بيروت: دار الآداب، 2019) إلى التاريخ والرواية التاريخية، ليثير بذلك أكثر من سؤال في الجدلية الأزلية بين التاريخ والأدب بصفة عامة، والادب الفلسطيني بصفة خاصة. هل نجح الكاتب في طرح جديد فيما يخص الرواية التاريخية عموما؟ وهل يمكن لانتمائه القومي – الفلسطيني أن يشكّل استثناء في تناول التاريخ كمادة روائية؟ هذه الأسئلة وغيرها تفرضها الرواية، بتقديري، على القارئ الناقد بصفة خاصة. نسعى في هذه الورقة إلى الإجابة من خلال قراءة عامة نقدية، تقف عند الأسئلة السابقة وتتجاوزها بقدر ما يسمح به النصّ.
أجمعت الدراسات النقدية التي تناولت الرواية التاريخية على مفاهيم وشروط قبلية يشترط تحققها عند كتابتها. كالمادة التاريخية “الخام”، التناول الروائي –السردي المختلف للمادة التاريخية، وإسقاطاتها على الواقع.1 رواية “خسوف بدر الدين” رواية تاريخية بامتياز تمتح من التاريخ، بل وتتخذ منه مادتها الأساسية – النواة. وبذلك تؤكد هذه الرواية شروطا أخرى تفرضها الرواية التاريخية منها وغير التاريخية. ومنها على سيبل المثال لا الحصر: أ. مبدأ الحوارية، الذي يعدّ من أهم الأسس الفنية التي يقوم عليها العمل الأدبي عامة. ونعني بذلك قدرة النصّ على تحقيق الحوارية مع القارئ كطرف هام في سيرورة تحقق النص الأدبي. فالرواية التاريخية تهيئ القارئ ليعاين التاريخ بأحداثه الحقيقية بقالب روائي سردي، كأنه بذلك شاهد على حقبة تاريخية ما كان له أن يعيش تفاصيلها، أو أن يتخيلها بسياقها التاريخي المجرد والجاف في كثير من الحالات. هذا من شأنه أن يحفّز القارئ ويستفزّه، فيسعى إلى تحديد العلاقة المفترضة بين التاريخ المستحضر والواقع المعيش. التغييرات الجذرية الهامة التي أجراها خندقجي على شخصية الرواية المركزية بدر الدين، تحقق شرطي التحفيز والاستفزاز عند القارئ. يجعل الكاتب من بدر الدين علاّمة وقطب من أقطاب الصوفية في عصره، يطاوعه “النور” ويمكّنه من استكشاف الآتي. بالمقابل تتباين المراجع التاريخية في موقفها من شخصية بدر الدين وحقيقته، وهذا ما يشير إليه الكاتب في تعقيبه التاريخي في نهاية الرواية (ص:321-325). لا شك أن التباين المذكور في المرجعيات التاريخية من ناحية، و “تصرّف” الكاتب
شخصية بدر الدين، من ناحية ثانية، استفزّ القارئ وحفّزه لمعرفة كنه هذا التباين ومسوّغه الأدبي، أي إسقاطاته المحتملة على الواقع، وليضع نصب عينيه سؤالا هامّا ملحّا: لماذا تصرّف الكاتب بشخيصة بدر الدين على هذا النحو؟ وعندها بالضبط يتحقق الاستفزاز المطلوب، ويصبح القارئ شريكا فاعلا وفعّالا.
ب. كاتب الرواية التاريخية. هذا الكاتب مطالب بمجهود إضافي قد لا يحتاجه في كتابة الرواية العادية، وهو الانغماس في التاريخ انغماسا يمكنه من الإحاطة بكلّ التفاصيل وأدقها في الحقبة التاريخية المقصودة. هذا الانغماس ينسحب على أكثر من مستوى ورافد. 1. يبدأ بقراءة الجغرافيا والتاريخ المجرّد للإحاطة بالفضاء والزمان، كركيزتين هامتين يقوم عليهما الروائي عموما. وقد أجاد الكاتب في هذا الرافد من روافد الانغماس في التاريخ، ونجح في بناء الفضاء والزمان الروائيين بقراءة مستفيضة للتاريخ. زوّد كلّ من الفضاء والزمان، بفضل هذا الانغماس، تفاصيل قادرة على استحضار الماضي البعيد في حاضر القارئ المتشوق لمشاهدته. 2. يمرّ بعدها عبر المضمون أو الفكر الذي تعالجه الحقبة التاريخية المذكورة والشخصية المركزية الفاعلة فيها على حدّ سواء. وهو الفكر الصوفي الذي يزخر به التاريخ العربي والإسلامي، ذلك الفكر الذي أثار ولا يزال الكثير الكثير من النقاش الفلسفي والعلمي. لم يكن اختيار المضمون / الفكر الخاص بهذه المرحلة اعتباطيا من قبل الكاتب. خبر خندقجي بحسّ الكاتب قدرة هذا المضمون على توفير مناخ من النقاش المركب والجدل الفلسفي إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يثري الجانب الثقافي الفكري للنص، ويعزّز قيمته بالتالي. يلاحظ القارئ أنّ الكاتب قرأ الصوفية وتعمق في فلسفتها، وعاين مراجعها الأساسية مراجعة متأنية، وإلا لما كان له أن يوفّق في بناء شخصية بدر الدين على هذا النحو المركّب، فشخصية بدر الدين في هذه الحالة كانت انعكاسا عمليا لفكر يقوم على الكثير من التناقضات والمفاهيم المركبة، والمغاليق الفلسفية التي تستدعي إلماما كافيا لتبسيطها على هذا النحو. بدر الدين في حركاته وسكناته، وتصريحاته وصمته جسّد هذا الفكر المركّب والإشكالي.
ما يؤكّد انغماس الكاتب في هذا الفكر وإلمامه به، إلى جانب الدقة في بناء الشخصية، هي اللغة. والعلاقة بين المضمون (الفكر) واللغة في هذه الحالة مؤكدة وحتمية، والأول يفرض على الثانية مستوى معينا يليق به هو الأول. الكاتب مطالب في هذا الجانب أن يمتح من قاموس خاص محدّد. لا تسعفه اللغة السردية العادية والمألوفة، بل تلك التي تخصّ هذا الفكر، تتميّز به وتميّزه. ينعكس الأمر جليا في الألفاظ الصوفية في النص، إلى جانب المصطلحات التي خصّت هذا الفكر دون غيره. كما يشعر القارئ أن اللغة تغدو عاملا مباشرا في
“إعادته” إلى الماضي – التاريخ المستحضر في الرواية. ما كان للكاتب أن ينجح في ملكة هذه اللغة بصفة خاصة لولا خوضه في أعماق هذا الفكر. على العموم نقول إنّ خندقجي رسّخ، في النقاط التي ناقشناها سابقا، ما هو متبع في بناء الرواية التاريخية، محافظا بذلك على شروط قبلية لهذه النوع من الكتابة الروائية، ولم يحد عن المبادئ التي حدّدها السلف في هذا الباب، ليس بدافع التقليد بقدر ما هو بدافع الضرورة الفنية الملزمة لهذا النوع من الروايات. فهل تكون رواية “خسوف بدر الدين” امتدادا للرواية التاريخية العربية، محافظة على معمارها الفني، ودون أن تساهم بجديد في هذا الباب؟
لم يغب، بتقديري، الطرح الجديد في هذه الرواية بالرغم من التزام الكاتب الواضح بقواعد كتابة الرواية التاريخية وأسسها. تمثل هذا الطرح عندي بمبدأ الإسقاط على الواقع أو علاقة النصّ بالواقع، وهو ما يعد ركيزة من ركائز الرواية التاريخية التي جئنا على تفصيلها سابقا. كان فصل مبدأ الإسقاط عن المبادئ السابقة إشارة إلى الطرح الجديد الذي نقصده في هذا النصّ. اهتم الكاتب أن يجعل من مضمون المبدأ المعهود (الإسقاط) مخالفا مغايرا لما هو سائد ومتبع في الرواية التاريخية عادة. إذا كانت الرواية التاريخية، كما تؤكد ذلك المراجع والدراسات المختلفة، تسعى من وراء تصوير التاريخ إلى طرح رؤية مختلفة للواقع المعيش، وموقف رافض على الأغلب (كما يلاحظ، على سبيل المثال لا الحصر، في رواية “قواعد العشق الأربعون” لأليف شافاك، التي تحافظ على مبدأ الإسقاط التقليدي، فتدعو من خلال الرواية إلى الحب الطاهر، النوراني، والصادق الذي يقدّس الإنسان بصفته إنسانا أولا وأخيرا. ذلك الحب الذي تفنّن الواقع المشّوه في اخماده بل في اجتثاثه)، فإن كاتب “خسوف بدر الدين” سعى إلى “إسقاط” مغاير ومختلف كجزء من تناول مختلف للرواية التاريخية. الاختلاف عند خندقجي مردود إلى ميزتين بارزتين تتعالق وتتقاطع الواحدة مع الأخرى بالضرورة: انتماؤه القومي الفلسطيني، والأسر. تفضي هذه الحقيقة الثنائية إلى سؤال هام: ماذا يعني أن يتناول كاتب فلسطيني أسير التاريخ ليكتب رواية؟ وهل يعتبر هذا “التناول” مساويا ومشابها بكلّ تفاصيله لتناول أي كاتب آخر لا يعيش هذه الحقيقة الثنائية؟ واضح تماما أنّ السؤالين السابقين امتداد للسؤال الثاني في مقدمة هذه الورقة. فعل العودة إلى التاريخ هو فعل رفض في المقام الأول، رفض للواقع الراهن بكلّ تجلياته. لا يبتعد الكاتب عن هذا الواقع كلّ هذا البعد، ويغوص عميقا في الماضي والتاريخ، إلاّ ليضاعف من رفضه ورفض التشويه المستشري فيه. بقدر ما يكون البعد يكون الرفض. هكذا يطالعنا بدر الدين كشخصية مركّبة، متناقضة، تجمع في شخصها كلّ تناقض ممكن، فهو الفقيه، رجل الدين، سرّه باتع، وكراماته جليّة، يستشرف المستقبل، زاهد في السلطان والملك، ساعيا بدلا منهما إلى الحقيقة والنور. وبالمقابل عاشق
يموت عشقا، تتمكن منه الهزيمة بعد مقتل عشيقته الجارية مكنونة، فيهيم على وجهه بين الحانات والمواخير، ليعاوده النور مرة أخرى ويبدأ فصل بعث جديد يحقق فيه ما يبدو للعارف أمرا مستحيلا! وهذا بالضبط ما يسعى خندقجي إلى تأكيده: يمكن للنقيضين أن يجتمعا، كما يمكن للضدين أن يتناغما معا ليحققا معادلة انتصار غرائبيّة، كما خاطب في النصّ شيخ يمينه طورة نفسه قائلا: ” أيُّ تناقض وتباعد تحشرهما في زاويتك لتساوي بين الفقير والغنيّ، وبين السيّد والعبد؟ ” (ص:162). فلا يقبل الجزم بالطريق أحادي الاتجاه، فالطريق عنده إلى الحقيقة ليس واحدا، هو متعدد بتعدد زوايا النظر. يسعى لفكر متحرّر قادر على تقبل النقيض، ليس معصوبا عن النظر في كلّ الاتجاهات، فالنظر في كلّ الاتجاهات الممكنة مطلوب ومشروع وضروري، كما هو النظر إلى الأمام بالضبط لا يزيد ولا ينقص. يقول الكاتب في نهاية النصّ: “إنّ طريق المسجد أو المعبد أو الكنيسة ليس هو الطريق الوحيد إلى الله. لا يمكن أن نزجّ الناس وأن نسوقهم في الطريق نفسه، لأنّ هذا المسعى لن يرشدنا إلى الإيمان الخالص. إنّ الحقّ واحد أوحد، وعشق الحقّ متعدّد الطرائق والأوجه التي تؤدّي في النهاية إلى نور الله وإشراقاته في نفوسنا” (ص: 295). هذا التصريح، رغم ما يمكن أن يثيره من نقاش وجدل عنفين، لكنه يتماهى تماما مع النزعة الأيدولوجية الفكرية للكاتب نفسه، والتي حاول أن يرسخها على امتداد النص من خلال شخصية بدر الدين. يدرك خندقجي ماذا يعني الجمع بين الأضداد والتناقضات في أكثر جوانب الحياة حساسية وهو الدين، لكنّه يعوّل على شخصية بدر الدين كثيرا لتعينه على هذه المواجهة، فنراه يعزّزها بإنجازات خارقة، وانتصارات لم تخطر على قلب بشر، ليجعل من المستحيل ممكنا أو يحاول على أقل تقدير. بذلك يكون الإسقاط داخليا، موجها إلى “النحن” لا الآخر المتوقع، بأسلوب لا يخلو من النقد الذاتي الداخلي للمشروع القومي الفلسطيني، وضرورة اتساع الرؤية فيه لتشمل أكثر من الاتجاه الواحد والطريق الواحد والحزب الواحد! كانت الخاصية القومية والاستثناء الفلسطيني عاملا مساعدا في طرح مغاير في الرواية التاريخية، وفي باب الإسقاط بصفة خاصة.
أمّا فيما يتعلق بالميزة الثانية في باب الإسقاط، “ميزة” الأسر، فإنّ الكاتب يحوّل “دفّة” الإسقاط في هذه الحالة نحو الخارج – السجّان. هنا يلتقي خندقجي الكاتب مع بدرا لدين الشخصية الأدبية في كثير من المواقف، ولا نبالغ إن قلنا يصل الالتقاء حدّ التماهي أحيانا. وما أحوج الكاتب الأسير لشخصية كشخصية بدر الدين! لم يتوان بدر الدين عن الخوض في كل مجهول ومستحيل سعيا وراء المعرفة والحقيقة. كما تجاوز العلّامة القطب كلّ الحدود والآفاق، وتنازل عن كلّ ما شأنه أن يحيد به عن طريق المعرفة والحقيقة، فكان النور الداخلي دليله مكّنه أن يستشرف عوالم وفضاءات لم تدسها قدماه، وأبصر حقيقة أزمان لم يعشها بعد.
فكيف يمكن أن تتحقق فلسفة الأسر وغايته في ظلّ هذا الملكوت الروحاني المهول؟ ألا يستحيل الأسر إلى مدعاة للتأمل والتفكّر كشرطين قبليين للاستشراف والتبصر؟ هكذا تتبدّد حقيقة السجن في الكبت والتقييد، طالما الروح فاعلة، والفكر متيقّظ قادر على الاستشراف والتبصر. كما تتجاوز هذه القدرة فعل الرفض، لأنّ الرفض فيه إقرار قبلي بوجود، بينما تتيح الرواية التاريخية وشخصيتها المركزية بصفة خاصة للكاتب أن يبدّد حقيقة الموجود. هكذا يحقق النص والكاتب معا سخرية مضاعفة لا تعزّز من المناعة النفسية فحسب، بل تستشرف النصر، وتعيش الشخصية واثقة بالخلاص، وفي ذلك منتهى النصر ومنتهى السخرية.
في النهاية
لم تكن عودة الكاتب باسم خندقجي للتاريخ تقليدية، بل سعى الكاتب إلى تناول مغاير للتاريخ والرواية التاريخية، مستغلا ميزتين اثنتين، هما: الانتماء القومي الفلسطيني والأسر، على نحو ما أشرنا سابقا. وتكون “خسوف بدر الدين”، بهذا التناول المغاير، قد حققت أكثر من شرط وحاجة للرواية التاريخية. ويحسب لها ولكاتبها هذا المجهود الواضح في بناء شخصية مركبة متناقضة للتدليل على واقع لا يقلّ تركيبا وتناقضا. لا يقول خندقجي، عندما يمتح من التاريخ، إنّ الواقع مشّوه موبوء، نبتعد عنه إلى التاريخ لنطرح بديلا مرجوا فحسب، بل يحرص كلّ الحرص أن تكون العودة ساخرة ناقدة تطهيرية (catharsis)، قادرة على النقد الذاتي الداخلي كالخارجي بنفس القدر بالضبط. عودة تسعى إلى تبديد حقيقة السجن كممارسة تتجاوز فعل المعارضة، لتكون السخرية فعل استشراف يبشّر بالنصر والخلاص، أكثر منها فعل معارضة وتعزيز نفسي. نقرأ “خسوف بدر الدين” الضاربة في التاريخ، لنقرأ الحاضر الراهن بصورة مغايرة لتلك المعهودة في الرواية التاريخية، على نحو ما بيّنا سابقا. لم يكتب خندقجي نصّا جديدا يضاف إلى مكتبة أدب السجون العربية ورواياتها، بل اهتم أن يبدّد واقع السجن ويتجاوزه إلى المعرفة والحقيقة والنصر. يدرك الكاتب أنّ أدب السجون لا يخلو من نزعة بكائيّة مهزومة، يعاين (أدب السجون) ممارسة متواصلة من القهر والتعذيب تعمل ليل نهار على سحق الذات، وطمس الروح والقدرة على التفكير أبعد من باب الزنزانة المحكم. كما يدرك الحاجة والضرورة إلى ما يواجه ويبدّد هذه الممارسة كشرط للثبات أولا، وإلى تبديد واقع السجن لتعزيز الروح المثابرة والمنتصرة ثانيا. هكذا تكون البطولة، رغم سوداوية الواقع، أنجع من المرثية لتحقيق ما سبق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.