لقد أحسن الرئيس الفرنسي ماكرون حينما راح يذكر العالم بمآسي الحرب العالمية الأولى ، أمام حشد من الملوك ورؤساء الدول وكبار المسئولين في العالم ، وقد احتشدوا جميعا أمام قوس النصر في العاصمة الفرنسية باريس (11 نوفمبر 2018 ) بمناسبة مرور قرن على نهاية تلك المأساة ، وقد راح الرئيس الفرنسي يتحدث إلى الحضور من خلال خطاب مفعم بالمشاعر والعواطف ، وقد بدا التأثر على وجوه كثير من الحضور معظمهم ممن شاركت دولهم في هذه الحرب . تناول الرئيس الفرنسي في خطابه حجم التضحيات والخسائر التي قدمها المنتصرون والمنهزمون معا ، حيث فقد العالم ما يقرب من عشرين مليونا من البشر وعشرات الملايين من الجرحى والمفقودين ، فضلا عن تدمير المدن والمنجزات الحضارية التي آنجزها العالم ، المتابع لهذا المشهد عبر وسائل الإعلام المختلفة يلاحظ أن الدموع قد راحت تنساب من عيون بعض الحضور ، فقد كانت الكلمات مؤثرة وخصوصا وهو يتحدث عن تضحيات الفرنسيين الذين تحملوا النصيب الأكبر دفاعا عن وطنهم . اللافت للنظر أن الرئيس الفرنسي لم يتعرض لهول المآسي التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى ، حينما استغل المنتصرون انتصاراتهم وأملوا شروطا مجحفة على المنهزمين كانت سببا مباشرا لوقوع حرب أخرى أكثر هولا ودمارا ( الحرب العالمية الثانية 1939-1945) ولم يشر من قريب أو بعيد لمآسي دولا لم يكن لها في تلك الحرب ناقة ولا جمل من قبيل العالم العربي الذي قدم مئات الألوف من القتلى والمفقودين من مشرق العالم العربي إلى مغربه ، وقد وزعه المنتصرون كغنائم حرب ، ولم ينس العرب اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور ، الذي انتزع قلسطين لكي تكون وطنا تاريخيا ليهود العالم ، وجميعها أخطاء هائلة ، وصولا إلى مشاركة فرنسا في العدوان على مصر 1956 ، وهي جراح غائرة لم تندمل بعد . أعتقد أن الرئيس الفرنسي قد استغل مهارته الخطابية حينما راح يذكر العالم بتضحيات الفرنسيين دفاعا عما أسماه ” العالم الحر ” ، وقد قدمت فرنسا في هذه الحرب التضحيات الأكبر حينما تقدمت ألمانيا بأربعة أخماس جنودها في هجوم مباغت على فرنسا ، التي اكتسحها الألمان في أسابيع قليلة . على الرغم من استعادة الحلفاء قوتهم حينما قاوموا الزحف الألماني الذي كاد أن يجتاح كل الدول الأوروبية ، إلا أن قيام الثورة البلشفية في روسيا ( نوفمبر 1917) وضع الحلفاء في مأزق ، فقد عقد البلاشفة هدنة مع ألمانيا لذا خرجت الولاياتالمتحدة الآمريكية من ترددها وقررت دخول الحرب بجانب الحلفاء في الوقت الذي كان فيه الألمان يخوضون حربا ضارية مستخدمين الغواصات التي كادت أن تسيطر على كل المياه الأوروبية ، وحدثت مجاعة في بريطانيا بسبب الحصار الألماني . كان دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب بمثابة طوق النجاة حينما وضعت كل امكاناتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية دفاعا عن الحلفاء ، وأبحرت من الثغور الأمريكية القوافل العملاقة ، لدرجة انه في أكتوبر 1918 ، كان عدد الجيش الأمريكي في فرنسا يربو على مليون وسبعمائة وخمسين ألف جندي ، وفي أسابيع قليلة تغير مجرى الأحداث ، وأصبحت ألمانيا في موقف لا تحسد عليه ، وقد أعلن الرئيس الأمريكي ( ويلسون ) عن المبادئ الأربعة عشرة الشهيرة كأساس للسلام ، وجعل من مبدئه الرابع عشر حجر الزاوية وهو تكوين عصبة الأمم لتوفر الضمانات اللازمة لتحقيق الاستقلال السياسي والسلام لكل الدول الكبؤى والصغرى معا . أحكم الأمريكان الحصار على ألمانيا في نهاية عام 1918 ، وقد راحت الدبابات الإنجليزية تهاجم بجسارة شديدة الجبهة الألمانية ، وتمكنت من اختراق خطوط الألمان الحصينة في موقعة شهيرة ( كمبري ) . أدرك القادة الألمان أنهم خاسرون الحرب لا محالة مما اضطر الحكومة الألمانية إلى فتح قناة اتصال مع الرئيس الأمريكي ، طالبة منه وضع شروط للتفاوض ، وقد قبل ويلسون هذه المهمة التاريخية معلنا في 11 نوفمبر 1918 قبول الهدنة وإيقاف الحرب . لم يقبل الحلفاء بالتفاوض مع القادة الألمان الذين كانوا سببا في نشوب الحرب ، لذا استقال القادة الألمان جميعا وتخلوا عن مناصبهم ، وجئ بحكومة جديدة برئاسة مستشار جديد هو “أيبرت” Ebort الذي بعث بوفدين من قبله إلى المارشال فوش ، وقد أجبرهم على التوقيع على الهدنة في عربة قطاره الخاص (11 نوفمبر 1918 ) . كانت شروط الهدنة مجحفة للألمان ، فقد قبلوا الانسحاب من كل الأراضي التي احتلوها عنوة ، كما قبلوا بتسليم كل أسلحتهم وطائراتهم وجميع معداتهم العسكرية . وهكذا انتهت الحرب التي استمرت أربع سنوات وخمسة عشرة أسبوعا ، والتي شاركت فيها ثلاثون دولة وجُند لها خمس وستين مليونا من المقاتلين ، قتل منهم عشرين مليونا وجرح وأسر ما يقرب من ثلاثين مليونا ، لقد سيطر الشعور بالانتقام على المنتصرين ، ولم يكن باستطاعتهم التجرد من مشاعرهم الشخصية ، لذا كانت الشروط المجحفة التي فرضها الحلفاء سببا كافيا لمزيد من الكراهية ، ولم يتنبهوا إلى أن المنهزمين سوف يتحينون الفرصة لاستعادة كرامتهم وكرامة بلادهم ، ولم يمض على نهاية الحرب أكثر من عقدين حتى نشبت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ، وهي الحرب التي طالت العالم برمته ودمرت أضعاف ما دمرته الحرب الأولى . لعل التطور الهائل الذي طرأ على صناعة الأسلحة بمختلف أنواعها كان سببا كافيا لمزيد من الدمار ، ولم تسلم أوطاننا العربية من تلك المآسي بل قدمت الكثير من الدول العربية شهداء يتجاوزون مئات الألوف ، ورغم ذلك فقد خرجنا من هذه الحرب وكل أوطاننا محتلة ، وقد وجدها الحلفاء فرصة لقيام دولة إسرائيل . إذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد استغل هذه المناسبة للإعلان عم قيام ما أسماه منتدى السلام العالمي ، حيث اجتمع قادة العالم في نفس اليوم لوضع سياسات جديدة تحقق السلام وتحول دون نشوب مثل هذه الحروب المدمرة ، إلا أن ثمة ملحوظات تستوجب العناية ، وماتزال تشكل خطرا على السلام العالمي : أولها ، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد انفردت بمصير العالم ، وأن الرئيس الأمريكي ترامب لم يستجب إلى دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون ، ولم يحضر الاجتماع الأول ضاربا عرض الحائط ، مفضلا أن تظل الولاياتالمتحدةالأمريكية فوق كل القوانين والمواثيق الدولية ، ولعل اندفاعه الطائش خلال الشهور الماضية لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس يعد سببا كافيا لاستمرار الصراع ، وما نشاهده كل يوم من سياسات أمريكية مجحفة بحق العرب تعد دليلا على التكبر والغطرسة التي كانت سببا كافيا لكل ما آلت إليه أحوال العالم العربي ، ابتداء بما حدث في العراق وسوريا وليبيا ، وما تزال السياسات الأمريكية تدعم إسرائيل لكي تتوارى القضية الفلسطينية من المشهد . ثانيها ، إذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون جادا في دعوته للسلام بعد أن دفع العالم برمته ثمنا باهظا في حربين عالميتين حصدتا ملايين البشر ودمرت اقتصاد العالم ، وأتت على ما أنجزته الحضارة الإنسانية ، فكان من الواجب الاعتراف بالأخطاء الكبرى التي ارتكبها الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية في حق الدول الصغرى معترفا بما ارتكبته هذه الدول من أخطاء تاريخية تستحق الاعتراف بها والعمل على حلها وفق قواعد السلام والأمن العالميين . ثالثا ، إذا كان الرئيس الفرنسي ينشد السلام والآمن في العالم فعليه أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة ما يحدث في منطقتنا العربية من حروب ودمار ، جميعها صناعة غربية وأمريكية يتحمل العالم برمته مسئولياتها كاملة ، وهي قضايا كانت تستحق أن تكون على أچندة المؤتمر . أما وأن ذلك لم يحدث وليست هناك سياسات جادة لحل كل هذه الأزمات الكبرى فسيظل الأمن والسلم العالميين في خطر دائم .