شموس نيوز – خاص “حسن النجار” شاعر ريفي، منوفي، يبدو بسيطا، لكنه مركب، ولديه حسابات كثيرة مع الزمن والتاريخ، يظل يحسبها ويعيد استخلاص النتائج، ثم يقطع الأوراق بعصبية شديدة، ويتهم الزمن بتجاهله، ويلعن التاريخ لأنه توقف كثيرا أمام “أحمد عبد المعطي حجازي” و “محمد عفيفي مطر” ولم يتوقف أمامه مثلهما، رغم أنهما مثله في كل شيء، فهما منوفيان، وريفيان، وولدا مثله في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، لذا، ما إن استقر في قريته بابل، بعد عودته النهائية من العراق، حتى قرر أن يعدل كفة الميزان، عرف أن ثمة صالونا باسم “أحمد عبد المعطي حجازي” في القاهرة، وأن عائلة “محمد عفيفي مطر” أنشأت جائزة تحمل اسمه، فقرر أن يقيم صالونا باسمه على نفقته الخاصة يعقده كل شهر، ويدعو إليه من يتوسم فيهم المحبة والوداد، وأصدر على نفقته الخاصة أعماله الشعرية الكاملة، وكان يخطط لإطلاق جائزة تحمل اسمه، وفرح بما صنعه على عينه. هو، له عينان خضراوان، وبشرة بيضاء، وجسد ممشوق، وقد تم أسره من قبل القوات المحاربة المصرية على اعتبار أنه ضابط إسرائيلي، كانت الفترة الواقعة بين نكسة 67 وانتصار 73 فترة ساخنة، وقد خرج من خيمته باحثا عن شربة ماء، ولمحه بعض الجنود المصريين فظنوه إسرائيليا، وظلوا يضربونه، وهو ظل يصرخ فيهم، أنا ضابط مصري، ومن المنوفية يا أولاد الحلال، وهم لم يكونوا يصدقون أن مصريا يمكن أن تكون له هذه العيون الخضر وذلك الابيضاض المحمر، واقتادوه إلى محبس صغير صنعوه كيفما اتفق ليقدموه للقادة ليروا فيه رأيهم، ولم ينقذه من أيديهم غير عسكري مجند من سوهاج أوكلوا له مهمة تقديم الطعام للأسير المأسور، ولما مد له يده بالجراية، عرفه، وصرخ زاعقا: النقيب “حسن النجار”! قضى “حسن النجار” في القوات المسلحة أحد عشر عاما، وشارك في الحروب كلها، بدءا من حرب اليمن ووصولا لحرب أكتوبر، لم تكن الحروب مكللة بالانتصارات كما يحلم الشاعر المقاتل، وكانت هزيمة الروح أكبر من الهزائم العسكرية، وهو كان يبحث في تكسر مياه الخليج على صخر الجزيرة الخضراء بسيناء، عن فرح الشعر وعن موسيقا الشعر وعن نساء الشعر. وعدنا نجدف في ساحة الملح جندَ الهزيمة نعانق في الريح أصوات بومة ونسأل: أنَّي نواريكّ ياعالم الانتظار وحتي نغنيكّ ياصبحُ هل يسلم النجم ُ أشواقنا للنهار. كان الشعر يخاصم “حسن النجار” بالسنوات الطوال، حتى أن وحيه الشعري انقطع عنه لمدة عشر سنوات كاملة، لكنه كان موقنا بمواقيته الآتية، كما كان موقنا بأن دوره كمقاتل يخوض الحروب تلو الحروب، أكثر أهمية من دور الشاعر، ومع ذلك فقد كان يتصيد الأشعار كما يتصيد الصياد فرائسه، غير أنه لم يكن يفلح. مرة، في خليج السويس، سحره الماء، وأخذته جنيات الخليج إلى غياهب الصورة الشعرية المركبة، وقبل أن يختلي بنفسه لينسج تصاويره اللألاءة، هبطت بالقرب منه قنبلة مدوية، أجبرته إلى التراجع هو وجنوده إلى الخط الذي قدم منه، وكان يقول لنفسه، لا بأس، في المرة القادمة، سأنسج تصاويري على مهل. في حرب الاستنزاف، تسلل مع مجموعة من الجنود عبر القناة إلى سيناء، ولما وطئت قدماه رملها الذهبي، توهج الشعر في وجدانه، فأخذ يطير بين الجبال كالطائر الخارج لتوه من محبسه، في الحقيقة هو لم يكن محبوسا، وإنما سيناء هي التي كانت مغتصبة من قبل الصهاينة، وأراد أن يختلي بنفسه، ليكتب حلمه المنثور على الرمال المقدسة، لكن مشاغله العسكرية لم تكن تمنحه هذه الثواني المخطوفة لتخطفه، وكان يقول لنفسه، لا بأس، في المرة القادمة سأنسج تصاويري على مهل. ولما حانت اللحظة الكبيرة، لحظة النصر الحقيقية، في الساعة الثانية من السادس من أكتوبر، رأى الطلقات تخرج من بندقيته على شكل الحمائم، وكانت الطيور الخضراء تحوم حول رأسه وهو يجري من خندق محاط بالأجولة الرملية، لحفرة مملوءة بالعقارب، وهو كان فرحانا. عندها، وجد وقتا طويلا ليكتب أحلامه كلها، وتصاويره كلها، وتفاعيله كلها، ويولد الصور الشعرية الفاتنة بعضها من بعض، كالصياد الذي تعب من طول الصبر والانتظار، وإذا به وجها لوجه، أمام الفرائس المتتالية. في إجارة له بعد انتصار أكتوبر، وكان قد انتهى للتو من كتابة قصيدته الملحمية الباذخة، (الوقوف بامتداد الجسد على قصيدة الساعة الثانية)، ذهب بها إلى هيئة الكتاب، وجلس في مكتب رئيس الهيئة، يقرأ مقاطع منها، مرت بجوار المبنى سيارة ضخمة أصدرت صوتا زاعقا، فرمى الأوراق من يده، وتكور تحت مكتب رئيس الهيئة وهو يصرخ: اختبئوا. ثم اغمى عليه. أحيانا كان “حسن النجار” بفلسف رؤاه الشعرية، يمسكني من كوعي، ويشرح لي موقفه من الشعر قائلا: القصيدة بالنسبة لي عبارة عن خيمة قماشية مغلوقة الجوانب، ليس فيها غير بصيص غير مرئي، وكان هذا البصيص هو مدخلي إلى العالم كله، فأنا أومن أن الشاعر فقط، بما يملكه من حس مغايرر ومغامر، هو الذي يستطيع أن يرى هذا البصيص، بينما بقية الناس الذين ليسوا بشعراء، يتخبطون في ظلام الخيمة القماش. بعد عودته من العراق في التسعينيات المتقدمة من القرن العشرين، كان دائم التردد علينا في هيئة الكتاب، وكان متفرغا للشعر فقط، لم يكن يفعل غير الشعر، وكان يظن أنه شاعر أكتوبر الوحيد، وكان يطالبنا أن نتعامل معه على هذه الصفة، كان قد أصدر كتابه النثري “الأوديسة المصرية”، الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية عن تشكيل قتالي ميداني في زمن الحرب، وأنا كنت أغيظه وأقول له إن “صلاح عبد الصبور” كتب أهم شعر عن حرب أكتوبر، وأن رئيس الجمهورية “محمد حسني مبارك” نفسه لما سألوه عن الشعراء اختار “صلاح عبد الصبور”، وكان يغضب. في 25 يناير كتب شعرا كثيرا عن الثورة، لكنه ركب الموجة الرائجة، وكتب قصيدة النثر، وهو الموسيقيُّ ابن الإيقاع وربيب التفاعيل، فبدت أشعاره باهتة وبلا طعم، وهو كان يريد أن يضيف إلى لقبه القديم (شاعر أكتوبر) لقبا جديدا، هو (شاعر يناير)، وكان قد أصدر كتابه النثري “عائد من الميدان وإليه” عن تجربة ميدان التحرير، وأنا كنت أغيظه، وأقول له، إن “حسن طلب” كتب أهم شعر عن يناير، وكان يغضب. “حسن النجار” ابن الفكرة القومية، وكان يرى في “جمال عبد الناصر” النموذج الحقيقي للقائد العربي العنيد، وكان يتهم “السادات” بالخيانة لمباديء الزعيم الملهم، وأنا كنت أغيظه وأقول له، إن الذي حقق الانتصار هو “السادات”، أما الزعيم الملهم فقد انهزم، وكان يغضب. كان من الممكن ل “حسن النجار” أن ينتظر ستة وأربعين يوما فقط، ويموت في السادس من أكتوبر، لتكتمل أسطورته الشخصية، لكن، يبدو أنه اختلط عليه الأمر، لما رأى الناس، في الحادي والعشرين من أغسطس 2018 رائحة وجائية، والأطفال فرحين، وظنه السادس من أكتوبر، فمات، مات قبل أن يقول له أي أحد، إنه مجرد عيد أضحى عادي من هذه الأعياد التي تتكرر كل سنة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وليس عيدك الشخصي، وهو كان فرحانا. ماذا لو كنَّا قد أقفلنا الباب وعمَّمنا الأرضَ علي مفترقِ الطرقاتِ لنبدأ من أول حرفٍ : حاءٌ ، سينٌ ، نون ٌ.. ماذا لو كنَّا في آخر بييتن قتلنا الوحش “الديناصوري ” الوافد من جوف الصحراء وأرحنا منه مصبَّات النهر الخالد . ماذا لو كنا قد هيأنا هذا الليلَ لنكتب فيه أشعار التجربة الأولي من ملحمة المداحين الفقراء ماذا لو كنا ……. انتصف الليل ولم نبدأ بعد حكايات الوطن الجاثم في صدر غلام يبحث عن ورد لأبيه وأختِه فالأم الهاربةُ علي عربات الكارو تجتذب خيوط الديناصورات ؟ ملحوظة: منشور في مجلة الهلال، عدد هذا الشهر، أكتوبر 2018 الصور بالترتيب: حسن النجار، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، محمد عفيفي مطر، حسن طلب، محمد أنور السادات، جمال هبد الناصر.