الرئيس السيسي يصدر قرارًا جمهوريًا جديدًا    برعاية ماكرون.. باريس تستضيف القمة الاقتصادية لاتحاد المصارف العربية غدًا    جيش الاحتلال: قصفنا الليلة الماضية موقعًا في نطنز يستخدم لتطوير أسلحة نووية    سالزبورج يتجاوز باتشوكا في مباراة مثيرة ويتصدر مجموعته بمونديال الأندية    مواعيد مباريات اليوم الخميس 19-6-2025 في كأس العالم للأندية والكأس الذهبية    إصابة شخص في مشاجرة بقاعة أفراح خلال حفل زفاف بسوهاج    انطلاق امتحان النحو لطلبة شعبة أدبي بالثانوية الأزهرية في كفر الشيخ    مصدر ب"تعليم الإسماعيلية" يكشف موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية    حالة الطقس في السعودية اليوم الخميس 19 يونيو 2025    مجلس مدينة الفتح والحماية المدنية بأسيوط يزيلان واجهة مخزن تجميع زيوت.. فيديو    التليفزيون الاسرائيلى: إسرائيل هاجمت صباح اليوم محيط منشأة خنداب للماء الثقيل وسط إيران    عمرو يوسف بطلاً ل«موسم صيد الغزلان».. تأليف أحمد مراد وإخراج أحمد المرسي    سفير باكستان يزور مدينة الإنتاج الإعلامي بالقاهرة    بينهما حالتان حرجتان.. إصابة 30 إسرائيليًا في منطقة حولون قرب تل أبيب    إعلام عبري: 7 صواريخ إيرانية على الأقل أصابت أهدافها في إسرائيل    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 19 يونيو 2025 والسبائك بعد آخر تراجع    أول بوستر لفيلم كريستوفر نولان THE ODYSSEY    بوتين يٌبدي استعداده للقاء زيلينسكي لكنه يشكك في شرعيته    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 19 يونيو 2025    الحماية المدنية تسيطر على حريق اندلع في مصنع زيوت بأسيوط    طرح البرومو التشويقي الأول لمسلسل «220 يوم» (فيديو)    سالزبورج النمساوي يفوز على باتشوكا المكسيكي في كأس العالم للأندية    تزمنًا مع ضربات إيران وإسرائيل.. العراق ترفع جاهزية قواتها تحسبًا لأي طارئ    زيزو يوضح حقيقة الخلاف حول ركلة جزاء تريزيجيه    لم تنجح إلا طالبة واحدة.. رسوب جماعي لطلاب الشهادة الإعدادية في مدرسة ببني سويف    ياسر إبراهيم يتحدث عن مباراة الأهلي وبالميراس في كأس العالم للأندية    ملف يلا كورة.. ثنائي يغيب عن الأهلي.. مدير رياضي في الزمالك.. وتحقيق مع حمدي    تراجع مخزون النفط الخام في أمريكا بأكثر من التوقعات    بدء صرف مرتبات يونيو 2025.. والحد الأدنى للأجور يرتفع إلى 7 آلاف جنيه الشهر المقبل    إسرائيل: منظومات الدفاع الجوي الأمريكية اعترضت موجة الصواريخ الإيرانية الأخيرة    وسط تصاعد التوترات.. تفعيل الدفاعات الجوية الإيرانية في طهران    محمد رمضان وهيفاء وهبي في حفل مشترك ببيروت.. وديو غنائي مرتقب مع عايض    فواكه تساعد على طرد السموم من الكبد والكلى    تموين الإسماعيلية تكثف حملات المرور على المطاعم (صور)    إعلام لبناني: غارة إسرائيلية على جنوبي لبنان أسفرت عن اغتيال عنصر من حزب الله وإصابة آخر    بين الاعتراض على الفتوى وحرية الرأي!    من قال (لا) في وجه من قالوا (نعم)؟!    خالد الغندور يكشف صدمة للأهلي بسبب مدة غياب طاهر    محافظ قنا: اتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين والمتقاعسين عن استكمال إجراءات التقنين    دور الإعلام في نشر ودعم الثقافة في لقاء حواري بالفيوم.. صور    هل الحسد يمنع الرزق؟.. الشيخ خالد الجندي يوضح    تعرف على موعد حفل محمد رمضان وهيفاء وهبي في لبنان    5 جرامات تكفي.. تحذير رسمي من «الملح»!    «الزاوية الخضرا».. ديكور «الواحة الداخلية» في منزلك    الصحة تحذر من 5 شائعات عن استخدام اللولب النحاسي كوسيلة لتنظيم الأسرة    17 صورة من حفل زفاف ماهيتاب ابنة ماجد المصري    أحدث جلسة تصوير ل بوسي تخطف بها الأنظار.. والجمهور يعلق    ريبيرو: بالميراس يمتلك لاعبين مميزين ولديه دفاع قوى.. وزيزو لاعب جيد    ما حكم سماع القرآن أثناء النوم؟.. أمين الفتوى يجيب (فيديو)    كوريا الشمالية عن الهجمات الإسرائيلية على إيران: تصرف غير قانوني.. وجريمة ضد الإنسانية    السفير السعودي بالقاهرة يلتقي نظيره الإيراني لبحث التطورات الإقليمية    «مصر للطيران للأسواق الحرة» توقع بروتوكول تعاون مع «النيل للطيران»    المغرب 7,57م.. أوقات الصلاة في المنيا والمحافظات الخميس 19 يونيو    احتفالية لرسم البهجة على وجوه ذوي الهمم بالفيوم.. صور    حسام صلاح عميد طب القاهرة ل«الشروق»: انتهاء الدراسات الفنية والمالية لمشروع قصر العينى الجديد    هل يجوز للزوجة زيارة والدتها المريضة رغم رفض الزوج؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: «داري على شمعتك تِقيد» متفق مع صحيح العقيدة فالحسد مدمر (فيديو)    الشيخ خالد الجندي: استحضار الله في كل الأمور عبادة تحقق الرضا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل تستعيد الثورة مصر التي في خاطري
نشر في شباب مصر يوم 04 - 06 - 2011

تلح عليّ كثيرا ذكريات قريتي الجميلة النضرة بحقولها وترعها ومصارفها النظيفة المليئة بالخير، وهي ذكريات عندما تجتمع مع حكايات أمي الأسبق زمنيا تثير سخطي على ما آلت إليه مصر بقراها ومدنها وترعها ومصارفها ونيلها. ولا بد أن اعترف بداية أنني لست مسنا بحيث تتعلق ذكرياتي بنصف قرن مضى أو أكثر. فأنا في نهاية العقد الرابع من العمر، بمعنى أن ذكرياتي المبكرة تعود فحسب إلى حوالي ثلاثة عقود أو ثلاثة عقود ونصف على الأكثر.
لا تفارق ذهني أبدا صورة المصرف "الكبير" بقريتي. فقد كان كبيرا بالفعل، حيث كانت تغذيه مصارف صغرى وفرعية وشبكات الصرف المغطي حديثة التكوين آنذاك. كانت مياه هذا المصرف نظيفة وصافية، لدرجة أن الناس كانوا لا يجدون غضاضة في الاستحمام فيه والشرب منه، فكان نيلنا الصغير. وتجدر الإشارة إلى أن أعرض أمراض الكبد التي تملأنا اليوم حسرة كلما نظرنا في الوجوده ولفت انتباهنا تضخم البطون وصفرة الوجوه، لم تكن معروفة حينذاك، أقصد الأعراض. كانت بعض الكروش كبيرة، لكنها كانت كروش "العز"، كما كان المصريون يتباهون بها، على اعتبار أنها كانت دليلا على يسر الحال والوفرة وأن الإنسان لا يحرم نفسه، أو بطنه تحديدا، مما تشتهيه.
كانت مياه المصارف والترع نظيفة وصافية تماما، وكان مستواها دائما قريبا من الحافة. وذلك بالطبع في مقابل المصارف والترع التي أصبحت مقالب للقمامة ومجاري للصرف الصحي للقرى والعزب والنجوع.
ومما لا يغيب عن بالي أبدا، بما يجعله جزءا من عالمي الخاص، فكل إنسان عالم داخلي خاص لا يتحدث عنه ولا يسمح للآخرين بالدخول إليه، يتكون من ذكريات خاصة وتفضيلات ورغبات ومخاوف ونزوات قد تكون شاذة، مما لا يغيب عن بالي من ذلك منظر ذلك المصرف قبل الشروق مباشرة. كانت مصارفنا وترعنا حينذاك تعج بنوع من السمك كنا نسميه "الصير"، ومفردها "صيرة". كان هذا السمك يشترك قبل الشروق في رقصة جماعية، حيث يقوم كل السمك في نفس الوقت بالقفز في شكل نصف دائرة، حتى يخيل للناظر، كما كان يخيل إليّ، أن الدنيا تمطر على صفحة الماء، أو أنك أمام نوافير صغيرة متوازية. كان هذا المنظر بديعا، لكنني لا أجد تفسيرا علميا له.
ومما لا يغيب عن خيالي أيضا صورة سمك البلطي وهو يقفز في عكس اتجاه الماء الساقط من المصارف الصغرى والفرعية. كانت شبكة الصرف الزراعي تتكون من مصارف ذات أحجام متباينة، أضيف إليها أخيرا في أثناء طفولتي شبكة الصرف المغطي، كان الصغير منها يصب في الكبير، إلى أن تصب جميعها في مصارف كبرى تسير إلى الشمال حتى البحر الأبيض المتوسط. كان سمك البلطي يجد متعة في القفز من المصارف الأكبر في عكس اتجاه المياه الساقطة من مواسير المصارف الأصغر، في منظر بديع، كانت السمكة فيه تقفز لأكثر من متر. تلك المجاري النظيفة الجميلة الصافية المليئة بالخير تقف على طرف النقيض منها اليوم، حيث حوّلناها إلى مجاري للصرف الصحي تمتلأ بالقمامة والمخلفات الآدمية، وليس الخير الذي كان.
كنا ونحن صغار نصنع شِباك صيد تتكون من طوق حديدي من أسلاك البناء بها شبكة صيد ومربوطة ببوصة أو ساق شجر أو نخيل طويل، وكنا كذلك نصنع صنارات صيد بسيطة. وكانت تلك الأدوات البسيطة قادرة على إخراج رزق وفير من تلك المياه النظيفة. ونظرا لكثرة الخير ولأنه كان من العيب أن يبيع أحد سمكا لجاره وابن بلده، فقد كان ما يفيض عن استخدام الأسرة من هذا الصيد يوزع على الجيران والأهل.
وحتى البرك والمستنقعات كانت مياهها نظيفة، لا يعيبها غير كون مياهها راكدة، مع أن مصدرها من الترع ذات المياه النظيفة وتصريف الأراضي الزراعية. حتى هذه البرك التي ينمو فيها نبات السمار المصري القديم كانت مليئة بنوع من السمك يسمى "القراميط" الذي يفضل المياه الراكدة بين النباتات. كانت البرك من هذا النوع تحيط بالقرية من كل جهاتها، وكانت القرية، أو بالأخرى جهاتها المختلفة، تتعاون في احتفال سنوي في صيد هذه البرك من خلال نزح مياهها، في وقت الجفاف، بمواتير رفع المياه التي انتشرت حديثا حينذاك. وكان الأهالي يُخرِجون أطنانا من سمك "القراميط" في احتفال جمتاهيري جميل، يظل الأطفال بعده يتندرون عن حجم القراميط الذي كان الواحد منها يزيد في الحجم عن الطفل ابن العاشرة أو أكبر.
تشكل هذه الذكريات جزءا من عالمي الخاص الذي نادرا ما أتحدث عنه، ولذلك ينتابني أحيانا بعض الشك في حقيقتها أو أنها حدثت بالفعل، وكأنها من اختلاق عقلي الباطن، وأن عيناي لم ترياها. فهي بالنسبة لي كالحلم الجميل، أو الواقع الذي أتمنى أن أعيشه، لكنها حدثت يقينا. وإذا كان جمال هذه الذكريات هو ما يدفعني للشك فيها، فمن الأجدر بي أن أرفض كل ذكريات أمي الحبيبة – أطال ألله في عمرها – عن نفس هذه الجوانب من حياة القرية.
ففي خمسينات وأوائل ستينات القرن العشرين، وقبل بناء السد العالي، كان فضيان النيل السنوي يرفع مستويات المياه بالترع إلى درجة أنها كانت تفيض على القرى. وبعيدا عن الدمار الذي كان هذه الفيضان يُحدِثه، فإنه كان يكوّن بركا شاسعة من المياه النظيفة التي كان الأهالي يشربون منها ويغسلون فيها ملابسهم وآوانيهم. وكانوا، فضلا عن ذلك يصطادون منها أسماكا كثيرة مختلفة الأحجام والأنواع.
كان الخير وفيرا لدرجة أن الرجل أو المرأة، أو حتى الطفل، وهو يسير بجوار الترعة أو "الهري" الصغير كان كثيرا ما يجد سمكا كثيرا في بقعة ماء محدودة، فيشمر عن ساقيه أو يخلع جلبابه ويُخرِج زرقا كثيرا، هكذا عرضا ودون تخطيط سابق. فيعود إلى بيته بمفاجأة "معتادة" جميلة.
هل من الغريب أن ترتبط كل ذكرياتي المبكرة، وأنا في بداية المدرسة الابتدائية، وذكريات القرويين من أمثالي ومن عمري، وقبل ذلك ذكريات أمي وجيلها، ومن سبقوها، بالنيل. صحيح أن قريتي لا تقع على النيل. لكن أليست تلك الترع والمصارف من طرح هذا النيل؟ ألا تصب هذه الذكريات "الخاصة" في مقولة هيرودوت بأن مصر "هبة النيل"، ألا تؤكد نظرية ماركس عن المجتمع الهيدروليكي أو الماء الذي لعب فيه النهر وضبط مياهه العامل الأهم في تشكيل بنية المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكذلك ثقافته وفنونه وفكره – أي البنية الفوقية بالتعبير الماركسي؟
ليس ذلك غريبا بالمرة، فمصر بالفعل هبة النيل قديما وحديثا، وستظل كذلك طالما بقيت الحياة على هذه الأرض. فوادي النيل في وسط مشهد الصحراء الكبرى ليس أكثر من خط أخضر رفيع وسط صحراء شاسعة، ولولا هذا النيل لما ظهرت الحياة في ذلك الشريط الرفيع الذي يخترق الصحراء الكبرى من جنوب خط الاستواء إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. فمنه جاء الماء الذي أقام حضارة مصر القديمة العظيمة، ومنه شربنا وزرعنا، ومنه يصطاد المصريون منذ القِدم أسماكا ما كنا ليعرفوها في مصر دون النيل.
ألا يستحق هذا النيل وفروعه أن نعيد له جماله وصفائه الذي كان. لم يمض وقت طويل منذ أن كان النيل وفروعه نظيفا ورائقا وصافيا ومليئا بالخير. فهي عقود التراجع الحضاري التي غاب عنها المشروع القومي للدولة والشعب التي بلغت ذروتها في عهد "مبارك" البائد الذي كاد أن يقضي على مصر وروحها. إننا نستطيع بروح الثورة، وبالقوانين والمشروعات العملاقة والطموحة، أن نعيد إلى شرايين مصر نظافتها وخيرها.
أريد مصر التي في خاطري، وأرفض مصر التي صنعتها عقود الإهمال والانصراف واللامبالاة، أريدها لأبنائي والأجيال الجديدة. أريدها أن تكون جزءا من عالمهم الداخلي الخاص، كما هي جزءا من عالمي الداخلي الخاص. أريدها أن تلهم حياتهم وتبعث فيها الجمال والخير والصفاء. ولعلنا نتخلص من أمراض لم تعرفها مصر الجميلة النظيفة قبل العقود "الساداتية-المباركية" القذرة السوداء، وعلى رأسها أمراض الكبد التي تفتك بشباب مصر.
دكتور مصطفى قاسم
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.