تلح عليّ كثيرا ذكريات قريتي الجميلة النضرة بحقولها وترعها ومصارفها النظيفة المليئة بالخير، وهي ذكريات عندما تجتمع مع حكايات أمي الأسبق زمنيا تثير سخطي على ما آلت إليه مصر بقراها ومدنها وترعها ومصارفها ونيلها. ولا بد أن اعترف بداية أنني لست مسنا بحيث تتعلق ذكرياتي بنصف قرن مضى أو أكثر. فأنا في نهاية العقد الرابع من العمر، بمعنى أن ذكرياتي المبكرة تعود فحسب إلى حوالي ثلاثة عقود أو ثلاثة عقود ونصف على الأكثر. لا تفارق ذهني أبدا صورة المصرف "الكبير" بقريتي. فقد كان كبيرا بالفعل، حيث كانت تغذيه مصارف صغرى وفرعية وشبكات الصرف المغطي حديثة التكوين آنذاك. كانت مياه هذا المصرف نظيفة وصافية، لدرجة أن الناس كانوا لا يجدون غضاضة في الاستحمام فيه والشرب منه، فكان نيلنا الصغير. وتجدر الإشارة إلى أن أعرض أمراض الكبد التي تملأنا اليوم حسرة كلما نظرنا في الوجوده ولفت انتباهنا تضخم البطون وصفرة الوجوه، لم تكن معروفة حينذاك، أقصد الأعراض. كانت بعض الكروش كبيرة، لكنها كانت كروش "العز"، كما كان المصريون يتباهون بها، على اعتبار أنها كانت دليلا على يسر الحال والوفرة وأن الإنسان لا يحرم نفسه، أو بطنه تحديدا، مما تشتهيه. كانت مياه المصارف والترع نظيفة وصافية تماما، وكان مستواها دائما قريبا من الحافة. وذلك بالطبع في مقابل المصارف والترع التي أصبحت مقالب للقمامة ومجاري للصرف الصحي للقرى والعزب والنجوع. ومما لا يغيب عن بالي أبدا، بما يجعله جزءا من عالمي الخاص، فكل إنسان عالم داخلي خاص لا يتحدث عنه ولا يسمح للآخرين بالدخول إليه، يتكون من ذكريات خاصة وتفضيلات ورغبات ومخاوف ونزوات قد تكون شاذة، مما لا يغيب عن بالي من ذلك منظر ذلك المصرف قبل الشروق مباشرة. كانت مصارفنا وترعنا حينذاك تعج بنوع من السمك كنا نسميه "الصير"، ومفردها "صيرة". كان هذا السمك يشترك قبل الشروق في رقصة جماعية، حيث يقوم كل السمك في نفس الوقت بالقفز في شكل نصف دائرة، حتى يخيل للناظر، كما كان يخيل إليّ، أن الدنيا تمطر على صفحة الماء، أو أنك أمام نوافير صغيرة متوازية. كان هذا المنظر بديعا، لكنني لا أجد تفسيرا علميا له. ومما لا يغيب عن خيالي أيضا صورة سمك البلطي وهو يقفز في عكس اتجاه الماء الساقط من المصارف الصغرى والفرعية. كانت شبكة الصرف الزراعي تتكون من مصارف ذات أحجام متباينة، أضيف إليها أخيرا في أثناء طفولتي شبكة الصرف المغطي، كان الصغير منها يصب في الكبير، إلى أن تصب جميعها في مصارف كبرى تسير إلى الشمال حتى البحر الأبيض المتوسط. كان سمك البلطي يجد متعة في القفز من المصارف الأكبر في عكس اتجاه المياه الساقطة من مواسير المصارف الأصغر، في منظر بديع، كانت السمكة فيه تقفز لأكثر من متر. تلك المجاري النظيفة الجميلة الصافية المليئة بالخير تقف على طرف النقيض منها اليوم، حيث حوّلناها إلى مجاري للصرف الصحي تمتلأ بالقمامة والمخلفات الآدمية، وليس الخير الذي كان. كنا ونحن صغار نصنع شِباك صيد تتكون من طوق حديدي من أسلاك البناء بها شبكة صيد ومربوطة ببوصة أو ساق شجر أو نخيل طويل، وكنا كذلك نصنع صنارات صيد بسيطة. وكانت تلك الأدوات البسيطة قادرة على إخراج رزق وفير من تلك المياه النظيفة. ونظرا لكثرة الخير ولأنه كان من العيب أن يبيع أحد سمكا لجاره وابن بلده، فقد كان ما يفيض عن استخدام الأسرة من هذا الصيد يوزع على الجيران والأهل. وحتى البرك والمستنقعات كانت مياهها نظيفة، لا يعيبها غير كون مياهها راكدة، مع أن مصدرها من الترع ذات المياه النظيفة وتصريف الأراضي الزراعية. حتى هذه البرك التي ينمو فيها نبات السمار المصري القديم كانت مليئة بنوع من السمك يسمى "القراميط" الذي يفضل المياه الراكدة بين النباتات. كانت البرك من هذا النوع تحيط بالقرية من كل جهاتها، وكانت القرية، أو بالأخرى جهاتها المختلفة، تتعاون في احتفال سنوي في صيد هذه البرك من خلال نزح مياهها، في وقت الجفاف، بمواتير رفع المياه التي انتشرت حديثا حينذاك. وكان الأهالي يُخرِجون أطنانا من سمك "القراميط" في احتفال جمتاهيري جميل، يظل الأطفال بعده يتندرون عن حجم القراميط الذي كان الواحد منها يزيد في الحجم عن الطفل ابن العاشرة أو أكبر. تشكل هذه الذكريات جزءا من عالمي الخاص الذي نادرا ما أتحدث عنه، ولذلك ينتابني أحيانا بعض الشك في حقيقتها أو أنها حدثت بالفعل، وكأنها من اختلاق عقلي الباطن، وأن عيناي لم ترياها. فهي بالنسبة لي كالحلم الجميل، أو الواقع الذي أتمنى أن أعيشه، لكنها حدثت يقينا. وإذا كان جمال هذه الذكريات هو ما يدفعني للشك فيها، فمن الأجدر بي أن أرفض كل ذكريات أمي الحبيبة – أطال ألله في عمرها – عن نفس هذه الجوانب من حياة القرية. ففي خمسينات وأوائل ستينات القرن العشرين، وقبل بناء السد العالي، كان فضيان النيل السنوي يرفع مستويات المياه بالترع إلى درجة أنها كانت تفيض على القرى. وبعيدا عن الدمار الذي كان هذه الفيضان يُحدِثه، فإنه كان يكوّن بركا شاسعة من المياه النظيفة التي كان الأهالي يشربون منها ويغسلون فيها ملابسهم وآوانيهم. وكانوا، فضلا عن ذلك يصطادون منها أسماكا كثيرة مختلفة الأحجام والأنواع. كان الخير وفيرا لدرجة أن الرجل أو المرأة، أو حتى الطفل، وهو يسير بجوار الترعة أو "الهري" الصغير كان كثيرا ما يجد سمكا كثيرا في بقعة ماء محدودة، فيشمر عن ساقيه أو يخلع جلبابه ويُخرِج زرقا كثيرا، هكذا عرضا ودون تخطيط سابق. فيعود إلى بيته بمفاجأة "معتادة" جميلة. هل من الغريب أن ترتبط كل ذكرياتي المبكرة، وأنا في بداية المدرسة الابتدائية، وذكريات القرويين من أمثالي ومن عمري، وقبل ذلك ذكريات أمي وجيلها، ومن سبقوها، بالنيل. صحيح أن قريتي لا تقع على النيل. لكن أليست تلك الترع والمصارف من طرح هذا النيل؟ ألا تصب هذه الذكريات "الخاصة" في مقولة هيرودوت بأن مصر "هبة النيل"، ألا تؤكد نظرية ماركس عن المجتمع الهيدروليكي أو الماء الذي لعب فيه النهر وضبط مياهه العامل الأهم في تشكيل بنية المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكذلك ثقافته وفنونه وفكره – أي البنية الفوقية بالتعبير الماركسي؟ ليس ذلك غريبا بالمرة، فمصر بالفعل هبة النيل قديما وحديثا، وستظل كذلك طالما بقيت الحياة على هذه الأرض. فوادي النيل في وسط مشهد الصحراء الكبرى ليس أكثر من خط أخضر رفيع وسط صحراء شاسعة، ولولا هذا النيل لما ظهرت الحياة في ذلك الشريط الرفيع الذي يخترق الصحراء الكبرى من جنوب خط الاستواء إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. فمنه جاء الماء الذي أقام حضارة مصر القديمة العظيمة، ومنه شربنا وزرعنا، ومنه يصطاد المصريون منذ القِدم أسماكا ما كنا ليعرفوها في مصر دون النيل. ألا يستحق هذا النيل وفروعه أن نعيد له جماله وصفائه الذي كان. لم يمض وقت طويل منذ أن كان النيل وفروعه نظيفا ورائقا وصافيا ومليئا بالخير. فهي عقود التراجع الحضاري التي غاب عنها المشروع القومي للدولة والشعب التي بلغت ذروتها في عهد "مبارك" البائد الذي كاد أن يقضي على مصر وروحها. إننا نستطيع بروح الثورة، وبالقوانين والمشروعات العملاقة والطموحة، أن نعيد إلى شرايين مصر نظافتها وخيرها. أريد مصر التي في خاطري، وأرفض مصر التي صنعتها عقود الإهمال والانصراف واللامبالاة، أريدها لأبنائي والأجيال الجديدة. أريدها أن تكون جزءا من عالمهم الداخلي الخاص، كما هي جزءا من عالمي الداخلي الخاص. أريدها أن تلهم حياتهم وتبعث فيها الجمال والخير والصفاء. ولعلنا نتخلص من أمراض لم تعرفها مصر الجميلة النظيفة قبل العقود "الساداتية-المباركية" القذرة السوداء، وعلى رأسها أمراض الكبد التي تفتك بشباب مصر. دكتور مصطفى قاسم [email protected]