اشتد عليه إيذاء قومه، لدرجة التخطيط لقتله، فرفض أن يسبهم أو يبدّد أماناتهم. كانوا يعلمون أنه الصادق ورغم ذلك كذّبوه عندما جاءهم بالحق، لا لشيء إلا لأنهم كرهوا أن يكون شرف النبوة له دونهم.. استودعوه أماناتهم لأنهم يعلمون أمانته، وانتهى تفكيرهم إلى أن يسلبوا منه حياته، ويقتلوه.. فلما اشتد الإيذاء على أتباعه، أمرهم بالهجرة إلى المدينة.. ولأنه يعلم صعوبة هجر الوطن عليهم، وترك البلد الذي ولدوا وتربوا فيه، فقد دعا الله عز وجل أن يحبّب إليهم المدينة كما حبب إليهم مكة.. خرجوا جميعاً ولم يبق إلا نفر قليل من أصحابه من سادة القوم.. عندما حان وقت خروجه وصاحبه الصديق.. فى طريقه إلى المدينة وقف على جبال مكة، والتفت خلفه إلى وطنه الذي تركه وأهله الذين آذوه.. قال قولته الأثيرة، مخاطباً بلده الذي أخرج منه: (أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب البلاد إلي؛ فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج عنك، فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله)، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ).. أى إنسان هذا الذي يُطرد من بلده ثم يظل له محباً عاشقاً؟ بل أى نبي هذا الذي يطرده المشركون من بلده فيظل له ولهم محباً؟ كيف تكون مكة أحب بلاد الله إلى الله وهي أرض كفر وشرك تحيط بها الأصنام وتحدها الأوثان؟ كيف تكون مكة أحب بلاد الله إلى رسول الله وأهلها كفار استباحوا دماء من أسلموا وديارهم ونساءهم؟ أى انتماء وحب للوطن يجسده الرسول الكريم فى هذا الموقف؟ إن كانت الهجرة فرضاً على جميع المسلمين.. فإن حب الأوطان فرض على جميع البشر.. حتى الحيوانات والطيور عندما تترك جحورها وأعشاشها تشعر بالغربة.. إن المتأمل فى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يخاطب وطنه، وهذا الوطن -كما يعلم الجميع- وقتها لم يكن بلد إسلام بل كان بلد كفر وصل إلى إخراج النبي الخاتم منه، وجاهلية شديدة بلغت حد جهل أمانة محمد وصدقه وقد ينادونه الصادق الأمين.. بلد كافر كفراً أعظم من الكفر الذى طالب البعض بضرورة القضاء عليه ولو بالعنف، تحت ستار الجهاد.. ومجتمع جاهلى جهالة أشد من الجاهلية التى اتهم بها البعض دولاً مسلمة ورجالاً مسلمين.. يخرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلن للأجيال المسلمة من بعده أن هذا البلد رغم كفره وجاهليته (الشديدين لحد التصفية الجسدية) أحب بلاد الله إليه، بل وأحب بلاد الله إلى الله، رغم ما ينكرونه على الله ورسوله فى هذا البلد.. ليس لأن محمداً ولد فيها، وليس لأن إسماعيل تربى بين جبالها وهضابها، ولكن محمداً يحب تلك البلدة الظالم أهلها لأنها بلده ووطنه، فيها تربى وترعرع وفى طرقاتها كان يجري ويمشي، وتحت أشجارها كان يسامر أصحابه ويدارسهم.. وهى أحب بلاد الله إلى الله لأن فيها بيته الحرام، أول بيت وضع للناس سيقصده المسلمون بعد أن تنتشر دعوة الإسلام فى جميع الأرض، أما البيت الحرام وقتها فكان مليئاً بالأصنام ولا يقصده إلا المشركون وعراة الكفار.. لقد ضرب الرسول الكريم أروع الأمثلة بحب الوطن حتى لو كان جاهلاً أو كافراً أو حتى طارداً لأهله.. فما بالكم بمن يعيشون فى الوطن وينغمسون فى خيراته ويسيرون فى طرقاته يتمتعون برعايته وحمايته، ثم لا ينال وطنهم منهم إلا كل تدمير وتخريب وإزهاق للنفس والروح؟