الشعب المصري الذي لم يحكمه أهله منذ آلاف السنين، وحتى الستين عاماً الأخيرة (حتى فترة حكم المصريين خلال الستين عاماً الأخيرة فيها كلام).. المهم أن هذا الشعب قاوم كل أشكال الاحتلال من احتلال للأرض واحتلال للعقول.. كان سلاح المصريين في كل حروبهم ضد الغاصبين هو وحدتهم وتسامحهم الذي أبهر جميع المحتلين، وكان أول ما يفعله المحتل هو محاولة كسر هذه الوحدة وتفتيت هذا التسامح.. مرت قرون وأعوام ولكن مصر ظلت كما هي، تأبى أن يتفرّق المصريون على حبها، أو يعادي المصري أخاه، حتى لو كان المقابل مالاً أو ملكاً.. الشعب المصري الذي خرج في ثلاث ثورات شعبية خلال عامين ونصف (الأولى على «مبارك»، والثانية على مجلس «طنطاوي» العسكري، والثالثة على إخوان «مرسي»)، لم يُشغل باله أبداً هل الخارجون في الثورة مسلمون أم مسيحيون أم يهود؟ لم يشغل تفكيره هل الخارجون في الثورة رجال أم نساء؟ الكل مصري والكل يحدد مصير وطنه الذي يعشقه، وكلهم يعلمون أن رصاصات المحتل الغاشم لا تفرق بين مسلم ومسيحي، أو بين رجل وامرأة، أو بين مسن وشاب.. لكن بعد 30 يونيو وإسقاط حكم الإخوان وخلع محمد مرسي، تخلى المصريون عن أروع طباعهم، وأجل خصالهم.. فقد المصريون أعظم قيمهم، نسوا التسامح وأعظموا من الكره، تغاضوا عن المحبة وكرّسوا للضغينة، ألقوا بالتراحم وتمسكوا بالكراهية.. المصريون الذين كانوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أصبح كل منهم يتمنى فناء الآخر ونهايته.. أصبح المصريون كيانين، بعدما كانوا كياناً واحداً، كل كيان لا يحاول أن يثبت أنه الحق أو أنه ناجح أو يخاف على البلد أو يسعى لمصلحة البلد، بالعكس كل منهما يحاول إثبات أن الطرف الآخر عدوه اللدود، وأنه الباطل وأنه فاشل لا يخاف على البلد ولا يسعى إلا لمصلحته الشخصية.. الطرف الأول يصف الثاني بأنه عميل وخائن ومخطوف ذهنياً وتعرّض لغسيل مخ وأنه تحرّكه قيادات تسعى لمصلحتها، وأنهم مجرد قطيع.. كما أن الطرف الثاني لا يحاول أن ينفي هذا الكلام ويثبت خلافه، بالعكس إنه يركز على اتهام الطرف الأول بأنهم عبيد للبيادة ويعشقون حكم العسكر، وانقلابيون، وفوّضوا الجيش لقتال إخوانهم، فهم مشاركون في الدماء التي تسيل.. جميعهم نسوا قول الله تعالى (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ولم يعتبروا، ولكنهم رفضوا ألا يسكن بيوتهم أحد غيرهم وإن كان لا بد، فلتخرب على الكل.. يا سادة (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، فكلنا مسلمون، حتى الأقباط منا يسلمون دينهم وأمرهم لله.. جميعنا يطالب بالشرعية.. لكن بعضنا يبحث عن شرعية الصناديق، والآخر يبحث عن شرعية الشعب.. لكن المهم أن نعلم أن مطلبنا في النهاية واحد.. كلنا يحب مصر، ويكره لها أن تصاب بسوء ويدعو الله لها بالنصر والاستقرار، لكن كل فريق يرى استقرار مصر ونصرها معه دون غيره، رغم أن استقرار مصر ونصرها لا يكون إلا بوحدة الكلمة واتحاد الأمة.. كلنا تظله سماء واحد، وتحمله أرض واحدة، ويجري في عروقه دماء لونها واحد، لكن كل فريق يرى أن السماء خُلقت لتظله وحده والأرض وُجدت له دون غيره، وأن دماءه غير دماء إخوانه، وأنها أشرف من دماء غيره..