لن يمحى من مخيلتي، بريق عينيها الذي شع رغما عن حاجز شاشة التلفاز، أثناء مشاهدتي، لتقرير إخباري، على إحدى محطّات الأخبار العربية المرموقة.. كما لن أنسى على ما أظن نبرة التحدّي التي عبق بها صوتها، أثناء رواية قصتها، مجسّدة فيها العديد من جوانب الوجع الفلسطيني في قطاع غزة. مادلين، وقفت أمام الكاميرا، تروي كيف اضطرت، إثر شلل والدها الجزئي، لأن تتعلمّ مهنة الصيد منذ عدة سنوات، رفقه إخوتها الصغار، لتعيل عائلتها الفقيرة، متحدّية أنوثتها وطفولتها، في امتهان مهنة يعجز عنها الرجال أحيانا.. مادلين (16 عاما)، التي تتابع دراستها، أنهت تدريبا على تصميم الأزياء «لأنني أهوى تصميم الأزياء، ولأستريح من الصيد، رغم أنني أعشق البحر».. تحدّثت مادلين أيضا عن متاعبها الجسدية التي تعانيها، جراء قيامها بالدور الأساس في عملية الصيد، ضمن منظومة العمل العائلي خاصة أسرتها. وأكدت أن دخلهم «السمكي»، يتراوح بين 6 و 8 دولارات.. الجانب الأشد وقعا من حديث مادلين، كان وصفها للمضايقات التي تتعرّض لها على يد الاحتلال الإسرائيلي. ومن ثم المضايقات التي تتعرّض لها من قبل بعض «الجماعات» مجهولة الهوية!! الذين يبدو أنهم كما أشارت مادلين لا ينظرون بعين الارتياح لعملها في مهنة رجالية.. قصة الوجع الغزّي في حكاية مادلين تبدأ في حالات الفقر والعوز الشديد، الذي تعيشه آلاف الأسر في القطاع، والذي اضطر أطفالا بعمر البراعم، إلى العمل في مهن ليست لها، بعد نكسة صحيّة يتعرّض لها، المعيل، أو أي ظرف آخر.. وعلما أن حالة مادلين تمثل قدر القوّة، وكفاءة المرأة الطفلة، على أن تكون عند مستوى التحدّي، إلّا أنها تجسّد حالة من اغتيال الطفولة. أما الجاني على هذه الطفولة، فمن السهل إلصاقه بالأحداث «القدرية»، لكن، ومن وجهة نظر أخرى، هو من ترك هذه العائلة بلا إعالة، بعد أن فقدت معيلها.. الجانب المظلم الآخر، في هذه القصة، يتعلقّ بالمضايقات التي تتعرّض لها عائلة مادلين، فبالإضافة إلى كل المتاعب الجسدية المعنوية؛ التي تتعرّض لها كفتاة تعمل في الصيد، هي تتعرض لمضايقات من طرفين.. و«فوق حقّه دقّه»، كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني.. الطرف الأوّل هو الاحتلال، الذي يزيد بوجوده من صعوبة مهنة الصيد، الصعبة أصلا، عبر الحصار وإطلاق النار المتكرّر، وبعض الأحيان خطر التوقيف والاعتقال، تحت الذرائع الأمنية.. وهذا ما يتعرّض له جميع صيّادو غزة.. أما المضايقة الخاصة التي تتعرض لها مادلين فهي تلك التي تأتي من قبل بعض الجماعات التي ترصد تحرّكاتها، وتتابعها بشتى أنواع الأذى المعنوي أينما حلّت.. و من يعلم، فقد يتمادى هؤلاء بإلحاق الأذى الجسدي فيها، بعد أن تمادوا في القطاع، وفي أكثر من مناسبة، دون رادع أو حسيب.. ولعلّ منبع ألم مادلين حين تحدّثت عنهم، يتلخّص في قول الشاعر «وظلم ذوي القربى أشد وطأة..». وليس استنتاجا عبقريا، أن نقول إن إنهاء الانقسام الفلسطيني، سيحد من هذه الحالات الظلامية الغريبة على مجتمعنا، كما سيوحدّ الجهد نحو كسر حصار غزة، و بالتالي مكافحة مرض الفقر. يبقى كل حديثنا حبرا على ورق، بينما تعاني مادلين الآن، خلال تنظيف شباكها، والسباحة في أعماق خطيرة أيّما معاناة.. حوريّات البحر ظللن أسطوريّات، إلى أن جاءت مادلين.. فإذا رأيت فتاة جميلة تسبح على بعد كيلومترات بعيدا عن شاطئ غزة، إعلم أنها حوريّة بحر غزة الفلسطينية.. مادلين