لم يكن شارل ديجول الرئيس الفرنسي الأبرز في تاريخ الجمهورية الفرنسية يصبر على سياط النقد أو يتحمل التقريع علنا، وكانت علاقته بالتلفاز القابع في غرفة نومه الفسيحة تتراوح بين شد وجذب وتقريب ونبذ تبعا لنبرات المذيعين والمسافات الفاصلة بين حواجب مقدمي البرامج، فإذا سمع في نشرة المساء ما يسره، أضاف ياء النسب إلى التلفاز فقال: "تلفازي"، لكنه كان يلقيه من نافذة معيّته كلما سمع من مقدم النشرة مايسوءه، فيتحدث عنه كلقيط تبناه ذات حمق: "التلفاز"، أما إذا تعرض المحبوسون في صورهم داخل علبة الأثير لحكومته بالنقد والتقريع، فإنه كان يتصل من فوره بوزير الإعلام ليستهل حديثه بعبارته الشهيرة: "شاهدت تلفازك الليلة الماضية، ..."ولأننا نحمل في رؤوسنا الفارغة قرونا نرجسية تمتد كقرون استشعار تجس نبض الكون من حولنا وتقيس سرعة رياح التقبل أو الرفض، فإننا نميل حيث تميل، ونولي وجوهنا حيث نرى صورنا الدميمة في مرآة الأنانية كائنات نورانية لا يصيبها دنس الخطأ أو وحل الخطيئة. ونكره المجاهرين بالنقد لنستبدلهم بحفنة من المتزلفين الذين يجيدون دفع الكلمات فوق ألسنتهم الملساء لتعرف طريقها إلى ذواتنا المنتفخة. لا بأس أن تنتقد المرء إذا دبجت نقدك ببساط وثير من النفاق والزيف. فتبدأ مثلا بحمد خصال جليسك والتغزل في لون عينيه وتسريحة شعره واستقامة قده، ثم تنتقل إلى إحصاء مآثرة التي حتما ستكون أشق على النفس من إحصاء القطر في الليلة الظلماء لمسافر على ظهر حصان أدهم. ثم تبدأ في مضغ الحروف والتأتأة والارتباك والنظر إلى إخمص قدمي صاحبك مع ما يلزم من مط الشفتين وفرقعة الأصابع، والتوقف بين الحين والحين لبلع رضاب لا تجده من شدة الخجل. بعدها تبدأ في تقديم أعذارك عن التطرق للنيل من ذاته المقدسة قبل أن تشرع في إفراغ ما بجوفك من تعليقات. هكذا علمتنا أبجديات الدجل والرقص فوق حبال الود الذي لا نجيد وصله ولا نستسيغ قطعه. وهناك في غابة المجاملات وأحراش التملق تنمو نبتة الكبر التي تمنع ساكني الأكواخ من رؤية ما هو أبعد من أرانب أنوفهم التي تجيد الرقص في مساحات الرؤية المشوشة. وعندها تنتفخ الذوات بالغرور وتتعالى كفقاعة لا تعرف حملها العدمي الكاذب فوق أكتاف الخلق، لتصنع دليلا جديدا على حكمة جد عربي لم يسافر إلى فرنسا ولم يسكن الإليزيه، لكن سافر في أعماق النفس البشرية ليعود بحكمة بليغة: "إن البغاث بأرضنا يستنسر."والبغاث - أعزكم الله - طير هزيل الشحم واهن الجناحين، لا يطير إلا ليسقط في فم أو يقع في شرك، والاستنسار هو التحول إلى نسر أو ادعاء المخالب أمام سرب الطيور الهزيلة. هكذا تصنع كلماتنا المتملقة من الطير الكسيح عديم النفع آكل الدود سيدا يسمع ويطاع ويأمر وينهي، لأن سيد البغثان في الغالب لا يسمع إلا صدر البيت ويصم أذنيه عن عجزه، فيسمع منا الولاء وينكر منا النقد لأنه في مفهومه الساذج رجل الساعة المعطلة التي لا تتقدم إلا نحو خلف مخيف.وكأن هذا العربي الهائم في فلواته تسلل ذات فرجة في جدار الزمن وسافر إلى أرض الجن والملائكة ليثقب ذات ديجول المنتفخة بمسمار حكمته الأبدية ويحلل ظاهرة التحوصل حول الذات والاغتراب المتعمد عن عالم الواقع الذي جعل سيد فرنسا يغضب حتى الحمق على جليس وجد ثمة تشابه بينه وبين ماكسيميلان روبيسبيير النحات الفرنسي سيئ السمعة ليقول في حنق وقد نافر بين أرياشه: "ظننت أن في أحشائي طهارة القديسة جون أوف آرك وفروسية القائد نابليون بونابرت." حقا، ما أقل ما يعرف الواحد منا عن نفسه. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات[email protected]