ذات احتلال، توجه جاك سوستيه الحاكم الفرنسي للجزائر إلى مسقط رأسه، والتقي بالزعيم الفرنسي شارل ديجول ونقل له صورة تفصيلية عن أحوال البلاد التي ابتلاها الله بأنفاسهم الكريهة دهرا، وقال له في ختام تقريره الدوري أن كل أصدقائه الجزائريين يمقتون ديجول ويلعنون اليوم الذي فضت فيه أقدامه الثقيلة بكارة الجزائر. عندها نظر ديجول إلى رسول الكراهية وقال له في حزم: "فلتغير أصدقاءك إذن." الأصدقاء إذن هم محور الشر الذي يجب أن يحارب وأن يهزم وأن ينكل به، أما السفن الرابضة فوق مرافئ البلاد والجنود المغروسة بين خصلات القمح وشجر الكستناء والدبابات التي تجوب الشوارع وتسد فوهات الأزقة هي الأولى بالود والمعروف والإحسان. والطريق إلى الخلاص من لهب الضغينة ولفح الكراهية أن يتوارى المرء من الناقد وإن كان بصيرا، وأن يتجاهل النصيحة وإن كانت من صديق. الطريق إذن للعبور فوق أشلاء الانتقادات والأعين البصيرة أن يسدل المرء بوابات الجفون فوق فوهات الوعي وأن يصوب نحو الهدف دون أن تهتز له قناة غير عابئ بنصيحة أو تقريع. على المحتل إذن أن يتخلص من أصدقائه القدامى الذين يذكرونه بالوعود التي قطعها ليستبدل بهم أصدقاء من جنس رديء يشنفون آذانه المقدسة بأبواب دعاية رخيصة وأكاليل مدح وباقات تملق. ولأننا ورثنا جينات المحتل الذي لم يترك مقدسا إلا عبث فيه ولم يمر على أرض إلا حملت منه سفاحا بأجنة الظلم والقهر والاستبداد، فإننا لا نتورع عن ممارساتنا المستبدة كلما لاحت أمامنا بادرة تسلط، فتتحول أحزاب الأغلبية إلى الاستبداد بمجرد انتقالها من صفوف المعارضة إلى الناصية الأخرى من شارع الوطن، وتبدأ الأحزاب الصغيرة في التشكل على هيئة أجنة استبداد تنتظر موسم المخاض. وهكذا يقع الشعب المسكين دوما بين شفرات الأحزاب الكبيرة وتروس الأحزاب الصغيرة، ويتحول النهر الهادئ بُعَيْد موسم الاقتراع إلى طواحن وأنياب لا يسلم منها صاحب رأي ولا صاحب قلم ولا صاحب عيال يجوب البلاد طولا وعرضا بحثا عن رغيف غير مدفوع الأجر ورأي غير مراقب وغير محاسب. هكذا يعود المواطن المطحون دوما من معركته الخاسرة مع واقعه الرديء متكئا على عكازة الصبر مرتديا ثوب الانتظار الذي سيطول حتما طالما بارك المستبدون أعداءهم وباركوا لاعنيهم ورفعوا عصيهم وخناجرهم وسيوفهم الطويلة على أصدقاء الألم ورفاق الهم. وهو ما حدا ببعض المفكرين إلى رفض الدولة بكافة أشكالها وكل مؤسساتها والثورة على كل ما يحرض على تحويل المواطن البريء الذي يصل أحبال الوهم بآلام اليأس إلى كائن مسحوق شبه آدمي في وطن ينتمي إليه بالهوية ويعيش فوق ترابه بالميلاد لكنه لا يتحول أبدا إلى عقيدة تجري في مياهه الإقليمية بفضل الممارسات المتسلطة لأصحاب الأقلام الملونة. رفض هؤلاء أن يتحول صوت المواطن وصمته إلى سلعة وشرفه وعرضه إلى بقالة ووجوده وبقاءه إلى مغامرة تنتظرها الغايات المصوبة نحو رأسه وصدره على قارعة الطرق ليل نهار. في بلادنا الحزينة، تحول الواحد منا إلى سلعة تصويتية بعد أن تحول مفكروها إلى أبواق دعائية تؤذن في أي فلاة يدفع عرابوها الثمن. وبعد أن تحول الرأي في بلادنا إلى الدعاية والإعلان لم يعد المرء حرا فوق ترابه أو آمنا على عقول أبنائه أو عفة بناته أو تاريخ أجداده في قبورهم المتهالكة. ولا يسع الواحد منا في بلاد يسعى مثقفوها إلى احتلال أكبر مساحة من العقل الجمعي وتحويل الأغلبية الصامتة إلى سوق نخاسة كبير تباع فيه الرأس بإعلان تجاري أو وعد ببقاء القلم فوق قرطاسه حتى حين. أي جرم هذا الذي يرتكبه المحتلون الجدد من المندوبين غير الساميين الذين يبيعون جماجمنا بالجملة لجهات لم تفض يوما عذرية ترابنا ولم تجثم أساطيلها فوق مياهنا الإقليمية ساعة؟ وأي تقزم هذا الذي جعل الدول الذرية تتقاسم أنفاسنا وثقوب جدراننا وتوزع جواسيسها فوق الأرصفة والحانات والبيوت؟ وأي عهر هذا الذي يمارسه مثقفونا الذين باعوا لحوم شهدائنا ومستقبل أبنائنا وطرقنا وجسورنا وحقولنا وبصمات أصابعنا؟ كيف نفر اليوم من صداقتهم أيها الديجول، وبمن نستبدلهم وقد اختلط حابل المدلسين بنابلهم، فلم نعد نميز في ليل العهر الفكري بين قلم وقلم أو بين رأس ورقص؟ أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.