الدولار خلال إجازة شم النسيم.. أسعار العملات في البنك الأهلي والمركزي وموقف السوق السوداء    أسعار اللحوم اليوم الأحد 5 مايو 2024.. كم سعر كيلو اللحمة في مصر    الأرصاد تحذر من انخفاض درجات الحرارة وتساقط الأمطار على هذه المناطق (تفاصيل)    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تزيد عن 76 مليون دولار في أبريل    مصر على موعد مع ظاهرة فلكية نادرة خلال ساعات.. تعرف عليها    روسيا تصدر مذكرة اعتقال للرئيس الأوكراني زيلينسكي    أول تعليق من مدرب سيدات طائرة الزمالك بعد التتويج ببطولة إفريقيا أمام الأهلي    نجم الأهلي السابق يوجه طلبًا إلى كولر قبل مواجهة الترجي    قصواء الخلالي: العرجاني رجل يخدم بلده.. وقرار العفو عنه صدر في عهد مبارك    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأوبئة و المجاعات أكبر عوامل القتل في العالم
نشر في شباب مصر يوم 08 - 09 - 2020

إن الإنسان كائن مجبول على حب السيطرة والتملك، تعيش في خلجات نفسه منذ المهد محبة السلطة ومحبة السعي نحو المال والجاه والتسلط ، ومع نشوء الحضارات والمجتمعات الإنسانية الكبيرة أصبحت هذه الرغبات جماعية بين أفراد المجتمع، يقودها ويديرها سادة المجتمع وقادة كل حضارة، لتتحول هذه الرغبات إلى عوامل تساهم في اشتعال الصراع الإنساني بين الحضارات.
هذا الصراع الذي يولّد الحروب، وهذه الحروب بدورها تخلِّف الويلات والقتلى والدمار والخراب وكل ما لا يحمد عقباه، والحرب بمفهومها العام هي (نزاع أو صراع مسلح بين دولتين أو حضارتين أو أمتين أو غير ذلك)، وتختلف أهداف الحروب باختلاف أطرافها، فمنها ما يكون الهدف منه ديني أو توسعي أو اقتصادي أو غير ذلك، و هي عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم على وسائل مختلفة.
لقد امتلأ تاريخ البشرية وضجت صفحاته بالحروب التي لطَّخته بالدمِ والدمار وغبار الخراب والجوع والحرمان والقسوة والبطش، فالحروب بطبعها لا تعرف الرأفة ولا الرحمة، وليس فيها طرف رابح بالمعنى الحقيقي، فكل المشاركين فيها خاسرون لا محالة، وتكاد لا تخلو حضارة أو دولة في تاريخ البشر من الحروب والنزاعات، فالحروب سبب من أسباب قيام الدولة وبناء الإمبراطوريات وتشييد الممالك، وتختلف الحروب عبر التاريخ بنوعها وأطرافها وأسبابها ومدى دمويتها وقسوتها، وتقاس دموية الحروب بعدد الأرواح التي أزهقتها وعدد المدن التي سوتها بالأرض والتي جعلت منها أطلالا تركض فيها الرياح، لا يسمع فيها نفس ولا يسكنها حي، وفيما سيأتي سيتم تسليط الضوء على الحروب الأكثر دموية في التاريخ بدءا من (الأقدم إلى الأحدث) بحسب التسلسل الزمني.
الحرب المغولية:
تعد الحرب المغولية من الحروب الأكثر دموية في التاريخ الإنساني، وهي حرب توسعية خاضها المغول القادمون من أواسط آسيا في سبيل توسيع رقعة الدولة المغولية، وقد أدَّت هذه الحروب إلى امتداد الدولة المغولية على مساحات واسعة من الأراضي، حيث ضمت الدولة أجزاء كبيرة من قارة آسيا كما شملت أجزاء من شرق أوروبا، وقد أدت هذه الحرب إلى قيام أكبر إمبراطورية متحدة في التاريخ البشري، كانت في القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين، حتى إن هذه الفترة الزمنية سميت بعصر المغول، ولعل أبرز ما يميز توسع المغول هو انضباطهم العسكري المنقطع النظير، إضافة إلى الوحشية والقسوة التي كانت سمة بارزة في كلِ قادات المغول الذين خاضوا هذه الحروب، فلم يعرف عنهم التسامح والتهاون أبدا، وخير مثال على هذا (حرقهم دمشق وبغداد ومعظم المدن التي اقتحموها).
وقد تسببت هذه الحرب بنزوح وتشريد أقوام وشعوب، تقدر أعدادهم بعشرات الملايين، كما أنها أدت إلى وفاة ما بين (أربعين وسبعين مليون إنسان)، لتكون حروب المغول من أكثر الحروب تدميرا وخرابا وسفكا للدماء في التاريخ البشري كله، ومن الجدير بالذكر أيضا إن الحرب المغولية في الصين كان لها أثر دموي واضح المعالم، فقد انخفض عدد سكان الصين خلال خمسين عاما من حكم المغول إلى النصف، حيث كان عدد سكان الصين حوالي 120 مليون نسمة، وبعد خمسين عاما من حكم المغول أصبح عدد سكان الصين 60 مليون نسمة، كما أن نصف الشعب الروسي راح ضحية حروب المغول ونصف سكان المجر أيضا، كل هذه الإحصائيات ستظل شاهدة على وحشية هذه الحروب ودمويتها إلى الأبد.
حرب الثلاثين عاما:
حرب الثلاثين عاما أو حرب الأعوام الثلاثين هي حرب دامية امتدت ثلاثين عاما من عام 1618م حتى عام 1648م، وقد دارت رحى هذه الحرب القاسية على أراضي دولة ألمانيا وقد شارك فيها معظم القوى في القارة الأوروبية في تلك الفترة، وقد اندلعت هذه الحرب بسبب الصراع الطائفي بين (الكاثوليك والبروتستانت)، كما أن من أهم أسبابها هو التنافس الشديد الذي دار بين أسرة هابسبورغ وباقي القوى في أوروبا في سبيل الحصول على حكم الدول الأوروبية، ولا شك أن حربا دموية كهذه الحرب استمرت ثلاثين عاما، ستخلف وراءها دمارا وخرابا لا يمكن تصوره، وهذا ما حدث بالفعل، فقد خلفت هذه الحرب ما بين ثلاثة ملايين وأحد عشر مليون ونصف المليون قتيل.
فقد أشارت الإحصائيات إلى أن عدد سكان ألمانيا والنمسا هبط ما بين 21 و 15 مليون نسمة، وأن عدد سكان بوهيميا هبط إلى ثلاثة ملايين نسمة، كما أن تسعا وعشرين ألف قرية هجرها أهلها في فترة الصراع، وأن قرى كثيرةً لم يبق من أهلها أي أحد، وقد أدت حرب الثلاثين عاما أيضا إلى دمار شديد في المدن والقرى، حتى أن بعض القرى خسرت أكثر من نصف بيوتها جراء الحرب.
كما أدت هذه الحرب إلى التوقف عن زراعة مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة بسبب نقص الرجال العاملة، ونقص البذور والدواب التي كانت تستخدم في زراعة الأرض، وبسبب خوف الفلاحين على أراضيهم ومحاصيلهم، وتسببت هذه الحرب بالمجاعات بين السكان بسبب نهب المحاصيل من قبل الجيوش لإطعام الجنود المشاركة في الحرب، فأكل الفلاحون (فضلات المحاصيل كما أكلوا القطط والكلاب والخيول الميتة والحشائش، وفي بعض المناطق أكل الناس جثث الجنود من شدة الجوع)، لتكون هذه الحرب واحدة من أكثر الحروب دموية في التاريخ الإنساني.
حرب الممالك الثلاث:
كانت الصين منذ القِدم منطقة ذات تجمع سكاني مرتفع جدًّا، وهذا حالها حتى اليوم، وهذه الميزة كانت تتحول إلى نقمة في فترات الحروب، فمن الطبيعي جدًّا أن يكون عدد القتلى في هذه البلاد مرتفعا مقارنة بعدد السكان المرتفع والذي سيؤدي حتما إلى عدد مرتفع من الجنود في الجيوش المتناحرة، ولعل أبرز الحروب التي دارت في تاريخ الصين هي حرب الممالك الثلاث، وهي حرب قديمة دارت في عام 221 ميلادية، كانت هذه الحرب في الفترة التي سيطر فيها (تساو بي) على عرش مملكة هان في الصين وأعلن تأسيس أسرة واي.
في تلك الفترة انقسمت الصين إلى ثلاث ممالك أو إمبراطوريات، وهي: مملكة (شو) تقع في جنوب غرب الصين وأسسها ليو باي، مملكة (وو) تقع في جنوب شرق الصين وأسسها سون تشوان، مملكة (واي) تقع في شمال الصين وأسسها تساو تساو، ولا شك أن هذا الانقسام أدخل الصين في سلسلة من المعارك والحروب التي كانت تدور بين هذه الممالك، كبدت هذه الحروب الشعب الصيني خسائر كبيرة في الأرواح، فقد فَقد في ما بين 36 و 40 مليون إنسان حياتهم هذه الحرب.
حرب السنوات السبع:
إن تصنيف حرب السنوات السبع بين أكثر الحروب دموية في التاريخ الإنساني ليس أمرا غريبا، فهي حرب دموية جلبت الخراب والدمار والدم، شأنها في هذا شأن كل الحروب التي حدثت في التاريخ، استمرت هذه الحرب منذ عام 1756م حتى عام 1763م، وقد شاركت في هذه الحرب عدة دول أوروبية، حيث ضمت تحالف بريطانيا وبروسيا وولاية هانوفر الألمانية من جهة، وفرنسا والنمسا وروسيا والسويد وسكسوني من جهة أخرى، ثم دخلت البرتغال وإسبانيا الحرب لاحقا.
وكان من أهم أسباب حرب السنوات السبع هو المنافسة الاستعمارية بين فرنسا وبريطانيا والتي كانت قد بلغت أشدها في أمريكا، ولم تقف نار هذه الحرب عند أوروبا فقط، بل امتدت إلى أمريكا والهند، حيث المستعمرات التابعة للدول الأوروبية العظمى وتحديدا فرنسا وبريطانيا، وقد بدأت الحرب بالقتال الذي دار بين بروسيا والنمسا من أجل السيطرة على ألمانيا، فدعمت بريطانيا بروسيا ودعمت فرنسا النمسا، ثم ازداد الصراع حتى وصل إلى نشوب حرب بين بريطانيا وفرنسا في سبيل السيطرة على البحار وعلى الأراضي الواقعة في أمريكا الشمالية.
وقد انتهت هذه الحرب عند توقيع معاهدة باريس في العاشر من فبراير من عام 1763م، وكانت فرنسا الخاسر الأكبر فيها، حيث فقدت مستعمراتها في أمريكا الشمالية والهند واستولت بريطانيا على المستعمرات الفرنسية، وبرزت كقوة عظمى في العالم.
وتعد هذه الحرب من أشرس الحروب في التاريخ حيث راح ضحيتها 868000 إنسان إلى 1400000 إنسان، وكانت بروسيا هي المتضرر الأكبر حيث فقدت حوالي 10% من عدد سكانها في هذه الحرب، ومن أبرز نتائج هذه الحرب قيام الثورة الفرنسية التي كانت بسبب تراجع قوة فرنسا وخسارتها لمستعمرات وضعفها الاقتصادي الذي أثَّر سلبا على الشعب الفرنسي، كما أن هذه الحرب كانت بداية للثورة الأمريكية على البريطانيين التي أدت إلى استقلال أمريكا لاحقا.
الحروب النابليونية:
إن مصطلح الحروب النابليونية مصطلح يستخدم للتعريف بسلسلة الحروب الطويلة التي وقعت في القارة الأوروبية في الفترة التي حكم فيها نابليون بونابرت فرنسا، وهذه الحروب كانت ترتبط بشكل أو بآخر بالحروب الثورية التي اشتعلت في فرنسا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام بعد الثورة الفرنسية، وجدير بالقول إن المؤرخين لم يحددوا وقت بداية الحروب النابليونية بشكل دقيق، بل حددوها بشكل متوقع.
حيث بدأت هذه الحروب في التاسع من نوفمبر من عام 1799 م، و هو اليوم الذي استلم فيه نابليون بونابرت الحكم في فرنسا بعد انقلاب عسكري، وفي رواية أخرى بدأت الحروب النابليونية في الثامن عشر من مايو من عام 1803م، وهي الفترة التي تجددت فيها الحرب في بين فرنسا وبريطانيا، وقيل أيضا إن الثاني عشر من ديسمبر من عام 1804م هو موعد بداية الحروب النابليونية، أما نهايتها فقد انتهت غالبا في الثامن عشر من يوليو من عام 1815م حين هزم نابليون بونابرت في معركة واترلو.
وتصنف الحروب النابليونية في قائمة أكثر الحروب دموية في التاريخ، وذلك لأنها كانت سببا في إزهاق أرواح ملايين الناس، حيث يقدر عدد ضحايا هذه الحروب بين 3500000 و 6000000 قتيل، ولعل أبرز ما حدث في هذه الحروب حول الحصار القاري الذي فرضه نابليون على بريطانيا، والذي انقلبت آثاره عليه فيما بعد، إضافة إلى الثورة التي قام بها الشعب البرتغالي والشعب الإسباني على جيوش نابليون، كل هذه الحروب والثورات التي استمرت سنوات عديدة راح ضحيتها ملايين القتلى من دول أوروبية عدة.
تمرد تايبينغ:
تمرد تايبينغ هي حرب أهلية دينية قامت في جنوب الصين، قام بها الشعب الصيني ضد حكم مملكة كينغ التي كان يحكمها مانشو، ويعد هذا التمرد أو الحروب التي آل إليها هذا التمرد من أعنف الحروب في تاريخ الإنسانية، وقد بدأت هذه الحرب على شكل ثورة عادية ضد الظلم والطغيان ثم تحولت إلى حرب طائفية دينية أهلية، أودت بالبلاد إلى الويلات والمآسي، وكان سبب تحول الثورة الشعبية إلى حرب دينية هو ادعاء أحد القادة بأنه (الأخ الأصغر للمسيح وبأن وحي السماء نزل عليه).
وقد سميت هذه الحرب بثورة آل تايبينغ، قامت على يد هونغ إكسيكوان عام 1814م واستمرت حتى عام 1864 م، و كان من أبرز إنجازات هذه الحرب أو التمرد أنه أظهر قوة الشعب الصيني ضد الإمبريالية كما كان من الأسباب التي أضعفت قوة أسرة تشينغ الحاكمة في الصين، وتعد هذه الحرب الدينية الأهلية من أكثر الحروب دموية في التاريخ، فقد راح ضحيتها ما بين 20 إلى 100 مليون إنسان، والله أعلم.
الثورة المكسيكية:
الثورة المكسيكية هي ثورة شعبية مسلحة، قامت في المكسيك بين أنصار فرانسيسكو ماديرو وأنصار بورفيريو ديا، وقد نشبت هذه الثورة بعد أن ندد فرانسيسكو ماديرو في العشرين من نوفمبر من عام 1910م بتزوير الانتخابات التي قام بها الرئيس بورفيريو دياز، وقد حرض فرانسيسكو ماديرو الناس على الثورة، فحبس الرئيس بورفيريو دياز المحرض على الثورة فرانسيسكو ماديرو في السجن، ولكن الأخير هرب من السجن إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد وأعلن نفسه رئيسا للبلاد.
وفي عام 1911م استقال الرئيس دياز وهرب إلى أوروبا وعين رئيسا مؤقتا خلفا له، عندها عاد ماديرو إلى مكسيكو العاصمة منتصرا، ولم يطل استلام ماديرو السلطة، حيث تم القبض عليه وإعدامه عام 1913م على يد الضباط الرجعيين، فقامت ثورة شعبية أشعلها الفلاحون بقيادة زاباتا في ولاية موريلوس، وقد استمرت الثورة المكسيكية منذ عام 1910م حتى عام 1920م وراح ضحيتها ما بين مليون إلى مليوني قتيل، وبهذا كانت الثورة المكسيكية من أكثر الحروب دموية في التاريخ الإنساني.
الحرب العالمية الأولى
الحرب العالمية الأولى هي حرب من الحروب الأشرس والأكثر دمارا ودموية في تاريخ الإنسان، تسمى هذه الحرب أيضا بالحرب العظمى، وهي حرب عالمية، اشتعلت نيرانها في القارة الأوروبية في الثامن والعشرين من يوليو من عام 1914 م، و قد سميت عند قيامها بالحرب التي سوف تنهي كل الحروب بعدها، شارك في هذه الحرب أكثر من سبعين مليون جندي، منهم 60 مليون جندي من قارة أوروبا، شارك هؤلاء الجنود في حرب من أعظم وأكبر الحروب في التاريخ، ودموية هذه الحرب تكمن في أنها كانت سببا في وفاة تسعة ملايين جندي عسكري مقاتل، وسبعة ملايين مدني، أي أنها تسببت بوفاة (ستة عشر مليون) إنسان.
وتعد الحرب العالمية الأولى سببا من أسباب ظهور (الأنفلونزا الإسبانية عام 1918م)، هذه الأنفلونزا التي حصدت أرواح ما بين 50 إلى 100 مليون إنسان في جميع أنحاء العالم آنذاك، وجدير بالذكر إن معدل الخسائر المرتفع في هذه الحرب كنتيجة متوقعة من نتائج التطور العسكري التقني والصناعي عند الدول المتنازعة، فالتطور في الأسلحة يجعلها أكثر فتكا فترتفع نسبة الوفيات ويزيد اتساع الخراب في الحروب.
وكانت هذه الحرب تمهيدا لحدوث تغييرات سياسية كبيرة في العالم أجمع، استمرت هذه التغيرات بين عامي 1917م و1923م، وكانت نتائج هذه الحرب العسكرية أيضا تمهيدا لقيام الحرب العالمية الثانية بعدها بعشرين عاما، ومن الجدير بالذكر إن الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى هي مجموعة من الدول المتحالفة، وهي دول الحلفاء المنتصرة في هذه الحرب والتي ضمت تحالف كل من فرنسا والإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية والمملكة الإيطالية، و في الطرف المقابل دول المركز التي خسرت الحرب وهي: الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا.
وقد أشارت بعض الإحصائيات الخاصة بالحرب العالمية الأولى إلى أن خسائر الإمبراطورية الروسية في الأرواح كانت الأكبر، حيث لقي أكثر من مليوني روسي مصرعهم في هذه الحرب، وأكثر من مليوني ألماني مصرعهم ، وفقدت النمسا والمجر مليونا وربع المليون إنسان، أما الإمبراطورية البريطانية فقد خسرت أيضا حوالي مليون إنسان، وفقدت فرنسا قرابة مليون ونصف المليون إنسان، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد خسرت قرابة 115 ألف إنسان، توفِّي معظمهم (بالأنفلونزا الإسبانية) التي انتشرت في نهاية الحرب.
أما نهاية الحرب العالمية الأولى فكانت في عام 1919م، حيث انعقد أول مؤتمر للصلح في الثامن عشر من يناير من عام 1919م وفي الثامن والعشرين من يونيو من نفس العام تم توقيع معاهدة فرساي مع الألمان ووقعت معاهدة الصلح بين المجر وتركيا أيضا، لتطوى صفحة واحدة من أقسى الحروب في تاريخ البشر.
الحرب الأهلية الروسية:
الحرب الأهلية الروسية هي عبارة عن سلسلة من المعارك الدامية التي نشبت بين البلاشفة الروس والروس البيض، وانتهت هذه الحروب بانتصار البلاشفة الروس، وإمساكهم بالحكم وإعدام القيصر الروسي، وإعدام عائلة القيصر أيضا، حيث كانت الحرب الأهلية الروسية فوضى عارمة أدت إلى تفكك السلطة وفقدان السيطرة على البلاد، وتفكك المجتمع الروسي أيضا، إلا أن البلاشفة الروس تمكنوا من إعادة تركيب وتوحيد الشعب الروسي تحت رايتهم، ومثل أي حرب أهلية داخلية، استغل أعداء روسيا هذه الحرب الأهلية وبدؤوا بدعم مجموعة من الحركات والمجموعات الثورية المنفردة ضد البلاشفة، وتحالفوا مع الجنرالات البيض، كل هذا أجج نار الحرب وزاد عدد الضحايا ووسع رقعة الدمار في البلاد.
وتعد هذه الحرب آخر مراحل الثورة الروسية، كانت حربا شرسة وحشية شديدة في حق المدنيين، فقد هجرت مليون إنسان هجرة شبه دائمة، وقد استمرت هذه الحرب من عام 1917م حتى عام 1923م، وفي هذه الحرب فقدت روسيا مليوني إنسان من شعبها، حيث توفي مليون إنسان من الجيش الأحمر الروسي وحوالي نصف المليون من الأبيض، وقد لقي من 300 إلى 500 ألف إنسان مصرعهم من القوزاق، كما فقد 100 ألف يهودي حياتهم في أوكرانيا بسبب هذه الحرب، في حين قتلت الأجهزة العقابية في حكومة كلوتشاك 25 ألف إنسان في مقاطعة إيكاترينبرغ.
وقد نتج عن هذه الحرب انتشار الأوبئة والأمراض، ففي عام 1920م لقي ثلاثة ملايين إنسان مصرعهم بسبب (مرض التيفود)، كما تسببت هذه الحرب (بالمجاعات) التي قتلت ملايين الناس، وبعد الحرب ظهر حوالي 7 ملايين طفل يعيشون في شوارع روسيا بلا مأوى، أما اقتصاديا فقد دمرت البلاد بشكل كبير، دمرت الجسور والمصانع والمناجم، فتراجع الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، فانتهى الاقتصاد الروسي بسبب هذه الحرب، ليسجل التاريخ الروسي أن الحرب الأهلية الروسية هي من أشرس الحروب في التاريخ الحديث.
الحرب العالمية الثانية:
تُعدُّ الحرب العالمية الثانية الحرب الأكثر شراسة ودموية في تاريخ البشر، وهي حرب دولية اندلعت في الأول من شهر سبتمبر من عام 1939 ميلادية في قارة أوروبا، واستمرت حتى الثاني من سبتمبر من عام 1945م، شاركت في هذه الحرب أغلب دول العالم، وكان طرفا النزاع يشكلان تحالفات عسكرية، وهما:
تحالف دول المحور و قوات الحلفاء، كانت دول المحور هي دولة ألمانيا النازية بقيادة هتلر، ودولة إيطاليا الفاشية بقيادة موسيليني، وإمبراطورية اليابان التي لُقِّبت بالشمس المشرقة، ومعهم رومانيا ومملكتا المجر وبلغاريا، أما الحلفاء فهم: الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا، الاتحاد السوفيتي، وشاركت مع الحلفاء مجموعة من الدول الصغيرة أيضا، ضمت هذه الحرب أكثر من مليون إنسان من أكثر من 30 دولة حول العالم، وكانت الدول الرئيسة في هذه الحرب قد وضعت كل إمكانياتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والصناعية والعلمية في سبيل الانتصار في هذه الحرب، فكرست اقتصاديات دول كاملة في دعم الجيش الوطني في سبيل التوسع أو رد المعتدين.
وكانت هذه الحرب سببا في حصد أرواح الملايين من المدنيين في مختلف الدول، وجدير بالقول إن الحرب العالمية الثانية شهدت ظهور أنواع جديدة من الأسلحة التي رفعت أعداد الضحايا، (كالقنبلة الذرية) التي رمتها القوات الأمريكية على مدينة هيروشيما وناغازاكي في اليابان، هذه الأسلحة التي حصدت أرواح الملايين جعلت من الحرب العالمية الثانية الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية.
فقد في الحرب العالمية الثانية أكثر من ستين مليون إنسان حياتهم، أي أكثر من 2.5% من سكان الكرة الأرضية قُتلوا في هذه الحرب، كان عدد الضحايا العسكريين في الحرب العالمية الثانية حوالي 22 مليون وأشارت بعض الدراسات إلى أن عدد ضحايا العسكريين بلغ 30 مليون، وكان عدد الضحايا الذين قتلوا في جرائم الإبادة الجماعية سواء كانت إبادات تطهير عرقي أو ديني يتراوح (ما بين 19 و 30 مليون)، وراح (ما بين 19 و 25 مليون) ضحية من المدنيين الذين فقدوا حياتهم بسبب (الأمراض الناتجة عن الحرب)، وكان الاتحاد السوفيتي صاحب النصيب الأكبر من حيث عدد القتلى، حيث قُتل في الحرب العالمية الثانية ما يزيد عن عشرين مليون روسي، وأكثر من 7 مليون ألماني، و 6 مليون بولندي، وقرابة المليون من الفرنسيين.
حرب فيتنام:
تُعدُّ حرب فيتنام آخر الحروب الأكثر دموية في التاريخ وأقربها للحاضر، وهي عبارة عن سلسلة طويلة من الكفاح الذي خاضه الشعب الفيتنامي في سبيل التحرر والتخلص من الاحتلال الأمريكي، هذا الاحتلال الذي سعى لتقسيم فيتنام ونهب ثرواتها وتجويع شعبها، ولكنَّ إصرار الشعب الفيتنامي وجه ضربة قاسية للولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت من الفيتنام بعد سنوات طوال من الكفاح والقتال.
وقد استلمت أمريكا زمام الأمور في فيتنام عام 1963م بعد مقتل الرئيس الفيتنامي ديم في ظروف غامضة، وطيلة عشر سنوات من وجود الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام، ظلَّ أهل فيتنام الشمالية مستمسكين بضرورة خروج أمريكا من فيتنام كشرط أساسي من أجل إيقاف إطلاق النار، ولم تخرج الولايات المتحدة الأمريكية من فيتنام حتَّى عمَّت المظاهرات المدن الأمريكية، ندَّد فيها الشعب الأمريكي بسياسية الجيش الأمريكي وتعامله العنيف مع الشعب الفيتنامي الأعزل.
كما شدد الفيتناميون الشماليون هجماتهم على الأمريكيين، كل هذا دفع أمريكا إلى الانسحاب من فيتنام، لتصبح فيتنام في شهر مارس من عام 1973م خالية من أي وجود أمريكي، وبعد خروج أمريكا انتهز الشماليون الفرصة وشنوا هجوما على الجنوبيين، احتلوا في هذا الهجوم مدينة فيوك بنه في شهر كانون الثاني يناير من عام 1975م ثم تابع الشماليون زحفهم حتى دخلوا مدينة سايغون في الثلاثين من أبريل من نفس العام.
وقد أدت حرب فيتنام إلى خسائر كثيرة، حيث راح ضحية هذه الحرب مليونا قتيل من الفيتناميين، وحوالي ثلاثة ملايين جريح واثنا عشر مليون لاجئ من الشعب الفيتنامي، كما لقي 57 ألف جندي أمريكي مصرعهم في هذه الحرب، وجرح أكثر من 150 ألف وأسر حوالي 587 جندي.
وجدير بالذكر إن هذه الحرب أسفرت على انتهاكات صارخة بحق الناس العزل في فيتنام، قامت بهذه الانتهاكات القوات الأمريكية، فقد خلَّفت الحرب أكثر من 30 ألف معاق، كما دمرت عدد كبيرا من المدن الفيتنامية، ومن مظاهر هذه الحرب الدموية أيضا الإعدامات المتكررة التي نفذها الأمريكيون بحق المدنيين والمذابح والانتهاكات والإفساد في القرى الفيتنامية، وقتل الحيوانات ونهب المحاصيل وإضرام النيران في بيوت القش وتدمير المدن القرى، ومن أسوء مظاهر هذه الحرب استخدام الجيش الأمريكي (للسلاح الكيماوي) في الغابات الفيتنامية التي كانت مخبأ المقاومين الفيتناميين في الشمال.
كل هذه الحروب المدمرة التي تسبب الإنسان في صنعها، و نتجت عنها مجاعة كبرى عبر المعمورة و أوبئة جد فتاكة و أمراض خطيرة لا ترحم راح ضحيتها ملايين من البشر، كان الإنسان هو السبب الرئيسي في كل هذه الصراعات، و ليس بقدر الله لأن الله سبحانه و تعالى حرم الظلم على نفسه، فكيف للإنسان الذي ميزه الله بالعقل و جعله خليفة على وجه الأرض، و سخر له كل المخلوقات يصل به الأمر إلى أسفل درجة الانحطاط و الانهيار الخلقي؟.
و ها هو اليوم يشكل تفشي (فيروس كورونا الجديد) في العالم، ارتفاع عدد الوفيات والإصابات يوميا، فرصة لتذكير العالم بأن الحروب ليست أكبر دمار في تاريخ الإنسانية، ولكن هناك قتلة آخرون وأكثر فتكا و هي الأمراض الخطيرة، و الأوبئة الفتاكة، و المجاعات القاتلة، ويقدر أن الحروب خلال القرن العشرين قد قتلت حوالي 160 مليون شخص، بالمقابل فإن وباء (الأنفلونزا الإسبانية) في 1918 قد قتل حوالي خمسين مليون إنسان، وهو ثلاثة أضعاف قتلى الحرب العالمية الأولى في الفترة نفسها.
على صعيد آخر، قتلت المجاعات في القرن العشرين ما يتراوح بين سبعين ومائة مليون إنسان، وفي الحقيقة فإن الفيروسات والأوبئة تقتل كل عام عددا أكبر بكثير من الناس من الحروب والصراعات العسكرية، فما بالك عندما نجمع إلى ذلك وفيات المجاعات عبر المعمورة.
لقد شهد العالم عدة مجاعات، كان أكبرها في التاريخ المعاصر تلك التي ضربت الصين في الفترة ما بين 1959 و1961، وأدت إلى وفاة ما بين عشرين إلى ثلاثين مليون شخص. ومن بين المجاعات الكبرى أيضا المجاعة التي ضربت بيافرا (نيجيريا) بين 1967 و1970 وأودت بحياة مليون شخص، وعانت مناطق أخرى من العالم من مجاعات كبرى خلال القرن الماضي، كما حصل في الاتحاد السوفيتي وإيران وكمبوديا، وحتى أوروبا عرفت هي الأخرى مجاعات متعددة في القرون الوسطى وخلال الحربين العالميتين.
أما القارة التي عرفت أكبر عدد من المجاعات خلال العقود الماضية فكانت القارة الأفريقية، حيث شهدت نيجيريا (نهاية ستينيات القرن الماضي ومطلع السبعينيات) وإثيوبيا 1983-1985 مجاعات، وسجلت آخر مجاعة كبرى في الصومال عام 2011، وراح ضحيتها نحو 260 ألف شخص.
وتعرف المجاعة بأنها حالة شديدة من فقدان الأمن الغذائي في بلد أو منطقة ما، بحيث يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدل الوفيات بشكل أكثر من المعتاد، نتيجة نقص في المواد الغذائية، أو تعذر الحصول على ما يكفي منها بسبب جفاف أو أمراض أو حروب أو نزاعات، و هذه الظاهرة عادة ما ترتبط بالتوسع إقليميا، ونشر الأوبئة، وزيادة معدل الوفيات، حيث شهدت كل قارة مأهولة في العالم فترة من المجاعة عبر التاريخ.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان جنوب شرق وجنوب أسيا عموما، وكذلك شرق ووسط أوروبا، يعانيان من أكبر عدد من الوفيات بسبب المجاعة، حيث بدأت الأرقام التي تموت بسبب المجاعة في الانخفاض بشكل حاد من السبعينيات.
لا تزال بعض البلدان، ولا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تعاني من حالات شديدة من المجاعة، فمنذ عام 2010 ، كانت أفريقيا أكثر القارات تأثراً في العالم، و اعتبارا من عام 2017 ، حذرت الأمم المتحدة من أن 20 مليون شخص معرضون للخطر في جنوب السودان و نيجيريا و الصومال و اليمن.
ووفقاً للمعايير الإنسانية للأمم المتحدة، حتى إذا كان هناك نقص في الأغذية مع وجود أعداد كبيرة من الأشخاص الذين يفتقرون إلى التغذية، لا يتم الإعلان عن المجاعة إلا عند معايير معينة للوفيات وسوء التغذية والجوع والمعايير هي:
- عندما يواجه ما لا يقل عن 20٪ من الأسر في منطقة ما نقصًا حادًا في الغذاء مع قدرة محدودة على التأقلم.
- عند انتشار سوء التغذية الحاد في الأطفال بنسبة تتجاوز 30 ٪
- عند تجاوز معدل الوفيات شخصين لكل 10,000 شخص في اليوم ولا يحمل إعلان المجاعة أية التزامات على الأمم المتحدة أو الدول الأعضاء، ولكنه يعمل على تركيز الاهتمام العالمي على المشكلة.
تاريخ المجاعة، حسب المنطقة:
في القرن العشرين مات ما يقرب من 70 مليون شخص جوعاً بسبب المجاعات من مختلف أنحاء العالم، وتختلف أسباب حدوث المجاعات، فأحياناً تكون كوارث طبيعية ، وأحياناً أخرى تحدث بسبب ظروف سياسية كنظام مستبد أو حرب أهلية .. الخ، وهذا هو الوجه الأبشع على الإطلاق.
مجاعة الصين الكبرى:
تعتبر هذه المجاعة من أشهر المجاعات على مدار التاريخ، حدثت عام 1958 بسبب الحزب الشيوعي الصيني الذي قرر تغيير الصين من دولة زراعية إلى دولة صناعية، ووحده الشعب دفع الثمن، حيث ناد الحزب بحملة اقتصادية واجتماعية تحيل البلاد من دولة زراعية إلى صناعية، وذلك عن طريق استغلال تعداد السكان الضخم لتطوير الدولة بشكل سريع من خلال ترك الزراعة والاتجاه إلى التصنيع، و أطلق عليها (القفزة الكبرى إلى الأمام)،
وبمجرد إعلان هذه الحملة اجتثوا الفلاحين من أراضيهم وقاموا بإرسالهم للعمل بالمصانع، وبالطبع تم الاستيلاء على هذه الأراضي حتى لا يعودوا للزراعة مجدداً، ويوجهوا كل جهودهم إلى الصناعة وتحديداً إنتاج الحديد والصلب.
لم يكتفي الحزب بهذا فقط بل قام بإحداث تغييرات جذرية على أسلوب الزراعة المتبع آنذاك، والذي فشل فشلاً ذريعاً وما زاد الأمر سوءاً، هي الفيضانات التي حدثت عام 1959، وتلاها الجفاف، وبمرور الوقت انتهت محاولات تحقيق هذه القفزة الكبرى بموت 43 مليون شخص.
روسيا 1921 :
تعتبر بدايات القرن ال 20 فترة مليئة بالأحداث المشئومة بالنسبة لروسيا ، فقد خسرت الملايين في الحرب العالمية الأولى، ثم قامت بها ثورة عنيفة، ثم حرب أهلية وأخيراً مجاعة، حيث حدثت المجاعة عام 1921 واستمرت لمدة عام، عام واحد أودى بحياة الملايين، حيث كان يقوم الجنود البلفشيين بأعمال النهب والسرقة للمحاصيل التي يمتلكها الفلاحين، بل وصل الأمر إلى سرقة طعامهم وقوت يومهم ، مما تسبب في توقف العديد من الفلاحين عن الزراعة، لأنهم يدركون أنهم لن ينالوا ما زرعوه، ولن يحصلوا ولو على القليل منه، نتج عن ذلك نقص شديد في المواد الغذائية، أدى إلى مجاعة قضت على 65 ملايين روسي.
الاتحاد السوفيتي:
تعتبر المجاعة التي حدثت في الاتحاد السوفيتي من أبشع المجاعات على مدار التاريخ ، وصلت إلى مرحلة من القحط الشديد، ولم يكن السبب وراء هذه المجاعة معروف حتى انهار الاتحاد السوفيتي عام 1990 م، و السبب هو ذاته الذي أدى إلى حدوث مجاعة الصين الكبرى، والمسؤول هذه المرة هو (جوزيف ستالين) القائد الثاني للاتحاد السوفييتي، وذلك عندما قرر تحويل الاتحاد السوفيتي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي.
كما نادى بتطبيق آلية (العمل الجماعي) بشكل عام ، وفي الزراعة بشكل خاص، وطبق هذا المبدأ بأبشع الطرق، فقد دمر مزارع الفلاحين وأفسد المحاصيل، وأخذ أراضيهم جبراً، فقام الفلاحين بتخبئة المحاصيل لتوفير وضمان قوت يومهم، فلم يعد بإمكانهم الحصول عليه منذ أن تم تطبيق مبدأ العمل الجماعي.
وهذا ما أثار غضب (جوزيف ستالين) الذي أمر بعمل مسح كامل لبيوت الفلاحين كافة، وأمر بإتلاف كل ما يجدوه من محاصيل كعقاب لمخالفتهم الأوامر، هذا التدمير للمحاصيل والأراضي الزراعية أسفر عن موت 10 ملايين شخص جوعا.
البنغال 1943:
حدثت هذه المجاعة عام 1943 في ظل زوبعة من الأحداث الكارثية، أهمها الحرب العالمية الثانية المستعرة، ونشوء الامبريالية اليابانية ونموها، والذي ترتب عليه خسارة البنغال ل بورما أكبر شريك تجاري لها، فأغلبية الطعام كان يستورد من بورما، ولكن اليابان علقت هذه التجارة إلى أجل غير معلوم، وفي العام ذاته ضرب الإعصار البلاد، بالإضافة إلى الفيضانات المستمرة والتي دمرت ثلث الأراضي الزراعية، وأيضاً ظهور فطريات بالمحاصيل دمرت ما يقرب من 90 في المائة من محاصيل الأرز في المنطقة، وفي الوقت نفسه، لجوء ملايين الفاريين من بورما هرباً من تدمير اليابان، ما يعني زيادة الحاجة إلى المواد الغذائية، وبحلول شهر ديسمبر من عام 1943، كان هناك 7 مليون شخص لقي حتفه بسبب هذه المجاعة التي لم تستمر سوى بضعة أشهر.
أثيوبيا 1983-1985:
تعتبر من أسوأ المجاعات التي ضربت أثيوبيا ، هذه المجاعة الواسعة النطاق أثرت على سكان ارتريا وأثيوبيا وراح ضحيتها الملايين، حيث يقال أن السبب الرئيسي هو الجفاف بالإضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان وتأخر المنظمات الإنسانية عن التدخل، ولكن الحقيقة أن السبب كان سياسياً بالدرجة الأولى، متمثلاً في سياسات الحكومة والاستراتيجيات والجهود والخطط التي تم تطبيقها لمكافحة التمرد الناشئ في مختلف المناطق بأثيوبيا، و لم يحدد عدد ضحايا هذه المجاعة بالضبط، ولكن اعتقد بعض المؤرخون بأنه العدد قد يكون ما بين 500 ألف إلى مليون ضحية.
السودان 1994:
هذه الكارثة الناجمة عن انتهاكات حقوق الإنسان، فضلا عن الجفاف وفشل المجتمع الدولي للرد على خطر المجاعة في السودان، و يعود السبب الرئيسي لهذه المجاعة هي الحرب الأهلية التي قامت حينها ، ومن أكثر المناطق التي تضررت “بحر الغزال” بجنوب غرب السودان، ففي هذه المنطقة فقط مات أكثر من 70 ألف شخص من المجاعة ، بالإضافة إلى هجرة 72 ألف شخصاً آخرين.
الصومال 1992:
بمجرد أن تسمع كلمة (مجاعة) تخطر الصومال في ذهنك على الفور، صحيح أنها ليست الدولة الوحيدة التي تعرضت للمجاعات، ولكنها أكثر دولة امتدت فيها المجاعات لعقود متتالية، فضلاً عن الجفاف والحروب الأهلية المستمرة، وفي عام 1992 م وقعت أسوأ موجة جفاف في القرن العشرين في الصومال، ويقدر عدد من قضوا نحبهم بسببها بأكثر من 300 ألف شخص، فضلاً عن الجوع والمرض الذي اجتاح البلاد، والتي كانت السبب في ذهاب القوات الأمريكية بموجب قرار دولي من أجل حماية حملات الإغاثة وتأمين وصولها للمتضررين.
كوريا الشمالية 1994:
يعود سبب المجاعة في كوريا الشمالية إلى سببين؛ أولهما : الفيضانات المستمرة والأمطار الغزيرة التي أتلفت المحاصيل الزراعية ودمرت ما يقرب من المليون ونصف المليون طن من احتياطات الحبوب، أما السبب الثاني؛ فكان السلطة المستبدة، حيث كان (كيم جونغ الثاني) رئيس البلاد يتبع سياسية في إدارة البلاد، تتمثل في كلمتين (الجيش أولا)، ما يعني أن احتياجات الجيش أهم وأولى من احتياجات الشعب، وعليه كانت تمنع الحصص الغذائية عن الشعب من أجل توفيرها للجيش، أين استمر على هذا النحو 4 سنوات حتى قضى على حياة ما يقرب من 2 مليون ونصف إلى 3 مليون إنسان.
فيتنام 1944:
وقعت مجاعة فيتنام في أكتوبر عام 1944 خلال الاحتلال الياباني للهند الصينية الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، التي تعتبر السبب الرئيسي في حدوثها، فقد تورطت كلا من فرنسا واليابان في خراب الاقتصادي الفيتنامي، فكانت كل الموارد يتم أخذها لتمويل وتوفير وتلبية مطالب الحرب ، حيث استولت اليابان على كافة الموارد الزراعية، أما عسكريا فقد تسببت سوء إدارة فرنسا للبلاد في إحداث تغيرات كبيرة ، أدت إلى حدوث المجاعة بداية في شمال فيتنام ثم انتشرت في البلاد بفضل الجفاف والفيضانات التي دمرت ما تبقر من محاصيل ،كل هذه العوامل أسفرت عن موت 2 مليون شخص.
المجاعة الكبرى بأيرلندا:
مجاعة أيرلندا الكبرى أو مجاعة البطاطس الأيرلندية كما يطلق عليها، حدثت في عام 1845م، فهذه الوحيدة التي لم تحدث في القرن العشرين ولكن في أربعينيات القرن ال 19 أتلفت آفة زراعية محاصيل البطاطس في أيرلندا، والتي تمثل المصدر الأساسي للتغذية لثلث سكانها ، ولم تكن ايرلندا الدولة الوحيدة التي أصابت محاصيلها هذه الآفة بل انتشرت في كافة أنحاء أوروبا، ولكن بسبب اعتماد ايرلندا على البطاطس كمصدر أساسي للغذاء بسبب الفقر المنتشر آنذاك حدثت هذه المجاعة التي راح ضحيتها مليون شخص، وتسببت في نزوح مليون آخرين.
يعتبر الأيرلنديون أن الحكومة البريطانية هي السبب فيما حدث وذلك بسبب تكاسلها وتراجعها عن تقديم المساعدة، وتوجهت كل الأقلام والأصوات ضد بريطانيا تندد بتصرفها حيال ما حدث، ومن أشهر من كتب مندداً برد فعل بريطانيا، هو الكاتب السياسي (جون ميتشل) الذي قال مقولته الشهيرة : (عندما يجلس الأطفال للأكل لا يروا في صحون عشاءهم الزهيد إلا انعكاس مخالب إنجلترا).
المجاعات في القرن الحادي و العشرين:
حتى عام 2017 ، كانت الوفيات في جميع أنحاء العالم بسبب المجاعة تتراجع بشكل كبير، و من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى السبعينيات، قتلت مجاعات كبيرة ما معدله 928,000 شخص في السنة منذ عام 1980 ، انخفضت الوفيات السنوية إلى 75,000 في المتوسط، أي أقل من 10 ٪ مما كانت عليه حتى السبعينيات، وقد تحقق هذا الانخفاض على الرغم من فقدان ما يقرب من 150,000 شخص في مجاعة الصومال في عام 2011 م، ومع ذلك، في عام 2017 م عادت الأمم المتحدة للإعلان عن تعرض حوالي 20 مليون شخص للموت بسبب الجوع في نيجيريا، وفي جنوب السودان، وفي اليمن، وفي الصومال.
و بالنظر إلى أسباب تلك المجاعات اليوم نجدها تدور بالأساس حول عامل رئيسي وهو العامل السياسي، فأغلبها لم يحدث نتيجة نقص الغذاء، كما كان الحال في تلك المجاعات التاريخية، ووفقًا لما أشار إليه (دان ماكسويل)، أستاذ الأمن الغذائي: (لم تكن هناك حالة مجاعة كان سببها نقص الإنتاج الزراعي وحده، حيث إن نقص الإنتاج الزراعي يُسبّب مجاعة فقط إذا سمح أحدهم له بأن يسبب مجاعة).
علما أن المجاعات لا تحدث إلا بدرجة ما من التواطؤ الإنساني، فهي بمثابة جرائم إما تم ارتكابها أو التغافل عنها، وتلك الأزمات الغذائية التي تواجه جنوب السودان والصومال واليمن وشمال نيجيريا، ليست فقط نتيجة للكوارث الطبيعية أو تغير المناخ، فالناس هناك يموتون جوعًا لأن من لديهم القدرة على منع هذه الوفيات يفشلون في التصرف، وأحيانًا يفتقرون إلى الإرادة السياسية فخلال الحرب العالمية الثانية، ضرب هتلر حصاراً قاسياً على مدينة سان بطرسبورغ، استمر من عام 1941 إلى عام 1945، طوّق خلالها كل المخارج للمدينة، ومنع دخول أي مساعدات غذائية، مما أدى إلى وفاة ما يقارب 600 ألف شخص، منهم من مات قصفاً بالنيران، وأكثرهم من مات جوعا.
وفي عصرنا الحالي، في جنوب السودان،تبدو الحكومة مستعدة لاستخدام التجويع أسلوباً للحرب ضد معارضيها، حتى عندما توفر الوكالات الدولية مساعدات غذائية، تقوم بسرقتها لإطعام جنودها، وفي اليمن تم فرض الحصار دون مبالاة لما ترتب عليه من نتائج مدمرة على الشعب اليمني، صحيح أن هناك عدداً من المساعدات يتم السماح بدخولها، لكنها ما زالت قطرة صغيرة في محيط مقارنة بالحاجة الهائلة للشعب الجائع.
وفي سوريا، تعمّد النظام استخدام الجوع كسلاح للحرب، وحقق من خلاله ما لم يكن يستطيع تحقيقه بترسانته العسكرية، حيث استخدم سلاح التجويع منذ اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011، عندما حاصر مدينة درعا وقطع عنها الماء والغذاء، وحينما قام بحصار أحياء حمص مدة عامين، ناهيك عن حصار الغوطة ومضايا وداريا، حتى خرجت فتاوى العلماء بتحليل أكل القطط والكلاب، فسبحان الله مغير الأحوال و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم من ظلم البشر لبعضهم البعض.
ختاما أخي القارئ:
إن العيش في الدنيا، وعمارة الأرض له ضرورات، لا يستغني عنها الإنسان، وهي المآكل والمشارب والمراكب والمساكن، وكلها مذكورة في سورة النحل، ففي المآكل والمشارب قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)
النحل:10-11] وفي مقام آخر: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا
خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) النحل:66-67
وفي نعمة الملابس قال سبحانه و تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) النحل:81] وتلك ملابس الحر وملابس الحرب، وأما ملابس البرد ففي قوله تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) النحل:5، وأعقب نعمة الدفء بها نعما عدة وهي: ركوبها، وحمل المتاع عليها، والتجمل بها، واتخاذها زينة (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) النحل:8، لينتظم في هذه الجملة ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ كل ما يركبه الناس ويتزينون به مما يستجد لهم إلى آخر الزمان.
وأما المساكن والأثاث من فرش وأغطية وأوان وغيرها ففي قوله سبحانه: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكْنَانًا) النحل: 80-81 ، ويجمع ذلك كله، مع ما في الأرض مما ينفع الناس، وما يستخرجونه من باطنها قوله سبحانه: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) النحل:13
واستقرار الأرض ضرورة لعيش الإنسان فيها، وزراعتها وعمرانها، وشق طرقها، والسير فيها، فذللها الله تعالى للإنسان، ووفر له ما يحتاج إليه فيها (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَ عَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) النحل: 15-16، ولا تقتصر سورة النحل على ذكر ما في الأرض من نعم فقط، بل تتجاوزه إلى ما في البحر من خيرات الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل:14
وتتجاوز سورة النحل ما في البر والبحر من نعم لتحلق بقارئها في الفضاء تذكره بما بثه الله تعالى فيه من نعم سخرها لهذا الإنسان الضعيف، من أجل أن يقيم دين الله تعالى في الأرض، وأن يشكر الله تعالى على نعمه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) النحل:12
ودواء الأمراض لم تغفله السورة التي سميت بالمخلوق الذي ينتجه ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) النحل: 68-69، ونعمة الزواج و النسل، والفرح بالأولاد والأحفاد، أتت السورة على ذكرها، ومنة الله تعالى على الإنسان بها (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) النحل:72
فيا لها من سورة ما أعظمها، ومن نعم ما أكثرها وما أجلها، فمن منا يلهج بشكر الله تعالى عليها، ويتبع القول عملا، بلزوم الطاعات، ومجافاة المحرمات؟!.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين، وأن يجنبنا سبل الجاحدين، فإن الله تعالى وصفهم في السورة نفسها بقوله سبحانه و تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ) النحل:71، وبعدها بآية وصفهم بقوله عز وجل: (أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ) النحل:72، نعوذ بالله تعالى من حالهم وأفعالهم ومآلهم.
وما أحوجنا لشكر الله تعالى على نعم أتمها علينا، في وقت يتخطف فيه العالم من حولنا، وتضطرب أحوال الدول والأمم، ولا قيد للنعم كشكرها، ولا نماء لها إلا بشكرها، ولا شكر إلا بطاعة الله تعالى وإقامة شريعته، وأما من يحاربون الله تعالى، ويصادرون شريعته، ويعطلون أحكامها، ويحلون حرامها، ويسقطون واجبها، ويحرفون نصوصها، مجاراة للعصر، وموافقة لأهل الكفر، فهم سبب زوال النعم وسلبها، وهم سبب حلول الخوف والجوع في الأرض، والاحتساب عليهم واجب، ونهيهم عن المنكر فريضة، وإلا حلت بنا المثلات كما حلت بمن قبلنا، نسأل الله تعالى أن يعافينا وأن يسلمنا، حيث قال سبحانه و تعالى: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ) الأعراف: 155.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.