لم نفترق منذ رأيت ووعيت ملامح وجهه إلا عندما لبى كل منا نداء الوطن .. غرفة واحدة .. وسادة مشتركة تحت غطاء واحد ..عندما غيب الموت أبانا كنت وقتئذ فى العاشرة ومنتصر فى التاسعة .. سحقتنا مرارة اليتم مرات عديدة بكل قسوته ووحشية مشاعره بافتقاد الراعى المعلم رغم الأيدى الرحيمة التى كانت تمتد لمساعدتنا أحيانا ..وكنا كلما لطمتنا الدنيا بصفعاتها – مثل الطمع فى أمى الشابة الجميلة من ذوى النفوس السيئة – يشتد عودنا قوة وتزداد أرواحنا صلابة ومقاومة .. ورغم هذه القسوة والنظرات المتعاطفة إلا أن أخى كان متفائلا ومبتسما للحياة ووطنيا – كما يقولون – حتى النخاع .. لم يحن قامته يوما لأحد منذ عرف ووعى معنى كلمة ( الكرامة ) .. لم يكن شعوره هذا إختيالا أو صلفا .. لكنه الإعتداد بالنفس .. وبحكم أنه الصغير كان أكثر قربا وتدللا لأمى.. ولم أكن أحزن لذلك أو تتملكنى الغيرة .. فقد كان أكثر تدينا منى ولايترك فرضا دينيا إلا ويؤديه كما ينبغى الأداء . لم أنس أبدا آخر لقاء بيننا وقد جمعتنا أجازة عسكرية قصيرة قبل الحرب بعدة أيام .. تركته مع أمى وعدت إلى وحدتى العسكرية التى كنت أؤدى خدمتى فيها من خلال كتيبة للدفاع الجوى المكلفة بحراسة أحد المطارات الهامة ..وفى اليوم التالى عاد منتصر إلى معسكره فى أحد مواقع الجيش الثالث فى صفوفه الأمامية .. بدأت الحرب وارتفع أوارها وسيطرت أخبارها على الجميع .. وفرحت أمى – قبل أن تنتهى الحرب -- كما لم يفرح أحد .. أطلقت ( الزغاريد ) وعزمت الجيران على الشربات والشاى .. وكأن هذا النصر يخصها وحدها – أو هى وولديها فقط – فقد كانت رغم ماتكابده وتعانيه من شظف العيش إلا أنها كانت عاشقة لتراب الوطن العربى كله .. ورغم نشوة امي بالإنتصار الذي حققه أولادها على أولاد "الهرمه" كما كانت تحب دائماً وصفهم .. إلا أن قلبها كان يستعر هلعاً عند سماعها خبر استشهاد أحد من أبناء قريتنا .. في هذه اللحظة كانت تدق صدرها بقبضة يدها وتقول بكل لهفة الأم وكأنها تزعق على ولدها في المجهول : ( يا كبدي يا منتصر يابني .. إنت فين ياترى ؟ .. حي ولا ...... ) ولاتستطيع أن تكمل كلامها وكأنها تخشى أن يكون إحساسها أو مشاعرها فأل شؤم .. كنت أنتفض عند سماعي هذه الصرخة وأنا في أجازتي القصيرة .. ينتابني القلق والخوف وهي تسألني عن اخي الذي لم يعد حتى الآن .. ولماذا عدت أنا ولم يعد هو .. أحاول طمأنتها وأحشائي تتمزق قلقاً .. أسوق لها بعض المبررات العسكرية التي أعرفها سبباً لتأخر الجنود .. مشروع تدريب مثلاً حبس وقشلاق لتجاوز التعليمات أو النوم أثناء الخدمة ونحن في حالة حرب .. أو لأنه في الصفوف الأمامية فى مواجهة أولاد "الهرمه" كما كان يحب أيضاً وصفهم مثل أمنا .. لكنها لم تكن تصدق أو تقبل مني هذه التبريرات التي كانت تلمح بفطرة الأم في عيني عدم صدقها .. كما قلت أحشائي من الداخل كانت تتلوى وتتقلص وتتمزق من فرط حزني وخوفي عليها وعلى أخي الوحيد منتصر .. خاصة مع إحساس غامض يتلبسني أنه لن يعود مرة أخرى .. لم أجرؤ على مجرد التلميح بهذا الإحساس .. أخاف أن تسقط - من طولها كما يقولون – وأقع في ( حيص بيص ) .. وذات يوم من الأيام التي أعقبت محادثات الكيلو 101 على طريق القاهرةالسويس .. وبعد اعلان فصل القوات جاءت الأوامر لكتيبتي بالتحرك للتمركز فوق قمة جبل عتاقة .. وصلنا إلى منطقة الجبل وبدأ صعود الجنود .. بينما بدأنا تنفيذ أعمال تمركز مؤخرة الكتيبة لعدة أيام في الصحراء المواجهة للجبل .. وعندما بدأنا غرس أعمدة الخيام للمبيت عدة أيام ريثما تكتمل عملية إعداد المواقع واستكمال نقل المدافع والمعدات إلى أعلا الجبل بدأت مساعدة الزملاء فى تجهيز إحدى الخيام..وبينما أدق رأس أحد أوتاد الخيمة شعرت بشيئ يمنع استمرار الوتد فى اختراق الأرض .. وكلما حركته قليلا وجدت نفس الشيئ .. ورغم أنه كان من الممكن نزع الوتد ودقه فى مكان آخر بعيدا عن هذا المكان إلا أن الفضول جعلنى أسحب ( الكوريك ) وأرفع كمية الرمال لأعرف السبب .. وفى أول ( غرفة رمل ) بالكوريك فوجئت بظهور ( بوز ) لفردة ( بيادة ) ميرى .. ظننت فى أول الأمر أن أحدا من العساكر قد خبأها ..وعندما قمت بمحاولة إخراجها بوغت بالفردة ثقيلة ومغروسة ومشدودة بقوة فى بطن الأرض ..رفعت قدرا آخر من الرمال حتى ظهرت فردة الحذاء كاملة .. جذبتها بقوة فخرجت معى وبداخلها ساق مكسوة بجزء مقطوع قطعا طوليا من (بنطلون كاكى) .. أصابنى فزع وهلع كاد يخلع قلبى وتماسكت .. تكأكأ حولى عدد من الزملاء يتساءلون وهم يتأملون الساق فى دهشة سيطرت على وجوههم .. تراجعت للخلف خطوات وأنا أتأمل هذا الموقف المهيب والقشعريرة تهز جسدى بقوة .. واختلف الزملاء.. بعضهم يرى إعادة الساق إلى باطن الأرض كما كانت إحتراما وتقديرا لصاحب الجثمان .. والبعض الآخر يصر على ضرورة إكمال عملية إخراجه ورؤية وجه صاحبه لعل أحدا يعرفه والذي أصبح واضحاً انه أحد الشهداء .. بينما البعض الآخر يرى أنه قد يكون من جنود اسرائيل الذين وصلوا إلى هذه المنطقة قبل عملية فصل القوات وقد نستعيد به بعض مالنا عندهم .. بينما القشعريرة ماتزال تسري في شرايني وتولد رجفات وهزات لم أشعر بها من قبل ذلك وفي كل المواقف الصعبة التي واجهتني في حياتي . رفعنا الرمال فوجدنا جثماناً راقداً في هدوء وسكينة وبكامل ملابسه العسكرية .. لم يحدث له أي نوع من التعفن أو التحلل .. بدا وكأنه جسد تم تحنيطه منذ زمن طويل .. كان الظلام قد ابتلع نور الشمس في جوفه وأمسينا بعد آخر ضوء .. ورؤية ملامح الوجه أصبحت صعية .. أخرج أحد الزملاء بطارية من ملابسه وأطلق ضوءها على الجسد المسجي ليفترش النور وجهه .. بانت ملامح الوجه كاملة كأنها مدفونة منذ وقت قصير .. لم يتغير فيها أي شئ إلا بعض آثار الرمال التي تغطي العينين وتخفي بعض ملامح الوجه .. الساقان كما هما .. الكفان كما هما .. لكن الجلد مشدود على عظام الساقين والصدر والرقبة والوجه أيضاً .. وينما يزيل أحد العساكر الرمال من على وجهه صاح جندي آخر يقول : __ أقراصه المعدنية موجودة على القايش يا جماعة .. ( وراح ينطق الاسم بصعوبة وهو يمسح القرص المعدني بأصابعه ) منتصر ................ إرتعد الدم في قلبي وكاد يتخثر .. انتابتني مشاعر وأحاسيس لا أستطيع وصفها "منتصر مين ؟؟ مش ممكن .. ياربي" ..... دفعت الجندي الذي يمسك القرص المعدني وغرست بصري فوق القرص المنقوش عليه الاسم .. رحت أنقل عيني بين القرص والوجه الذي لم تكن ملامحه قد وضحت كاملة .. وراحت كفاي تمسحان الرمال بجنون من على وجهه وأنا أصرخ منكفئاً عليه .. ولم أشعر بنفسي إلا وزملائي في الكتيبة يتحلقون حولي في خيمة أخرى يتداولون فيما بينهم عما يصنعون بجثة الشهيد ....... نشرت بمجلة دبي الثقافية بالعدد رقم 81 – فبراير 2012