كان يوماً معتاداً نجلس نحن أرباب المعاشات على مقهى الجوارب، كما أعتدنا أن نسميه، حتى نسينا أسمه الأصلي، مقهى بوسط القاهرة، أعتاد العجائز والشباب الجلوس أمامه، واضعين رجل فوق الأخرى وبنظرة واحدة لا يلفت انتباهك سوى الجوارب التي يرتديها رواد المقهى، لا يقطع حديثنا التافه - الذي به نقتل أوقاتنا - سوى اجترار الذكريات التي دوماً نعيدها ونكررها، ولما لا.! لولا الكلام يعاد لنفذ. مر من أمام المقهى رجل قصير القامة، يحمل في يديه كيس بلاستيك يمرجحه يمين وشمال مغنياً بفرح وسرور اشتريت قميص جديد.... اشتريت قميص جديد، قبل أن نهم بالضحك صاح أحدنا: - ده أحمد "بريزة". قابلته في أحدى المدارس الابتدائية الخاصة حيث يعمل مدرساً هناك، لم يعرني ثمة اهتمام حتى ظننت أنه ليس "التعريفة" المقصود، قابلت تجاهله بمثله، ذهبت لناظر المدرسة شارحاً له شكواي، وكيف أن مدرس بالمدرسة قام بنعت ابنتي بكلمة حشرة، عندما سألها : للخل رائحة نفاذة أم زكية.....؟ وعليها اختيار إجابة واحدة، وبعد أن أجابت ابنتي، قال لها أن للخل رائحة زكية يا حشرة، وشرحت للناظر أنني لست هنا بصدد تصحيح معلومة هذا المدرس الجاهل، ولكن شكواي فقط لوصفه لها بكلمة حشرة، وأنا بدوري لم أشتم ابنتي طوال حياتي سوى مرة واحدة، عندما وصفت إياها بالجهل ورأيت مدى تأثرها وغضبها، حاول ناظر المدرسة امتصاص غضبي وأرسل في طلب المدرس، لم أتمالك نفسي من الضحك عندما قال له الفراش مُتسائلاًً: - تقصد أستاذ أحمد بريزة؟ إذن صدق حدسي أنه زميلي القديم أحمد "تعريفة" أفقت من ذكرياتي هذه، حين سألني صاحبي: - ألا تعرف الأستاذ أحمد بريزة...؟ أردت تجاهل معرفته، عين بعين..... ولكني تراجعت عن الفكرة وأردفت قائلاً: - اعرفه جيداً، ولكن هل الأستاذ أحمد يعرفني.؟ مسح بيده أثر الزبادي الذي تبقى على فمه، وأخذ يجتر ذكرياتنا سوياً دون خجل وسر تسميتي له "بتعريفة"، وكيف صار أسم "تعريفة" لقبه، بعد أن كان يُسمى بأحمد "ماما". لم أتمالك نفسي من الضحك وكيف أن هذا البريزة لم يجد غضاضة في شرح تسميته بلقب ماما، وكلمة ماما كانت تمثل أكثر من ثلثي حديثه، وإن لم تبدأ جملته بماما ينهيها بماما، حتى صار يُعرف دائماً بأحمد ماما. كانت ليلة جميلة كسر فيه أحمد "تعريفة" الملل الذي نعانيه من جراء سرد حكاوينا المتكررة، قمت - بعد أن قام بتوديعنا - واقفاً وشاكراً له على هذا الوقت الجميل الذي به كسرنا الملل ولم نكف عن الضحك، ولكن دائماً يوجد ولكن....! نظر "تعريفة" في ساعته القديمة التي لا تجد المختص الذي يستطيع أصلاحها في حالة العطب وقال: - الوقت قد تأخر من منكم يعطيني عشرة جنية، فلا يوجد أتوبيسات الآن عليً أن أستقل تاكسي. أنفجر ملاك الضحك في أعماقنا، أعطيته العشرة جنيهات عن طيب خاطر، ولما لا فقد أمتعنا هذا "البريزة" بسخريته اللاذعة من ذاته. وظهر الشيطان اللعوب بداخلي ولم أرد أن يذهب "تعريفة" بهذه السرعة، وعليً أن أجد حُجة لإبقائه معنا، وأنا أعلم تماماً مدى شُحه، بدء في التهام الزبادي بعد أن أفرغ كل محتوى السكر الموجود على الطاولة، رميت له طعم سهل البلع، أو قل أنه يريد ابتلاعه، طالما يوجد من يدفع له، أخذت أذكر محاسنه، وكيف كان هذا الكائن نابغة في الرياضيات والكيمياء، لا يشاركنا أنشطتنا من لعب الكرة والتزويغ من فوق سور المدرسة، كان دائماً مثال للتلميذ النجيب، لا يعرف شيء في حياته سوى المذاكرة والتعريفة وماما قالت لي. سألته مُداعباً - من أطلق عليك لقب "بريزة".؟ مسح فمه من أثر الزبادي المصحوب بلعابه كطفل يأكل للمرة الأولى دون مساعدة أمه وسألني في سيجارة، وأنا أعلم تماماً كرهه للتدخين والشاي والقهوة، كنت قد عرفت من ابنتي سبب هذه التسمية، بعد أن أخبرتني بأن عم موريس فراش المدرسة هو من أطلق عليه "بريزة" فقد كان يوم بشراء ما يحتاجه المدرسين نظير "البريزة" وأضافت ابنتي أن بعض المدرسين يطلقون عليه أحمد فتحية، آه واه فقد تبدل الحال وحلت البريزة مكان التعريفة وفتحيه مكان ماما، لقد تزوج من فتحية التي غالباً كانت اختيار الماما، اخذ يسترسل في سرد ذكرياته دون توقف كحنفية الست سنية، وكيف كان يود إحدى كليات القمة الثلاث ومجموعه في الثانوية العامة يؤهله لذلك، ولكنه اخذ بنصيحة الماما ودخل كلية التربية مضطراً. ذاك الوقت كان هناك نقص شديد في المدرسين، بعد أن ذهب جزء ليس بالقليل لبلاد الجاز، وبذلك يضمن وظيفة فور تخرجه ويصبح مدرس كما الماما، حصل على الليسانس ووظيفة و فتحية، لم ينفذ صبري وأنا أسمع ذكرياته الشيقة وطريقة سرده بسخرية لاذعة من ذاته وكأنه يتحدث عن شخص آخر مجهول، ولكن صحبتنا أصابها الملل وهم في انتظار سر البريزة، طلب من إحداهم سيجارة بعد أن أجهز على كل ما تبقى من سجائري، أعطيته عشرة جنيهات آخري ليبتاع لي وله سجائر، وكانت العشرة جنيهات آنذاك تكفي لشراء أكثر من ثلاثة علب سجائر من النوع المحلي وعلبتين من النوع المستورد، ابتاع علبتين من النوع الرخيص وأعطاني واحدة ودس الأخرى ولم يعطني المتبقي من الجنيهات العشرة كما توقعت. وكسبت الرهان من صحبتي وهي دعوة للعشاء لنا جميعاً، دائما الفوز له طعم أفضل، أخذ "بريزة" سيجارة من علبة سجائري بعد أن ذهبت علبته إلى غياهب سرواله وقام إلى المرحاض، وبدء رهان آخر،عاد وقال: - ألستم جائعين.؟ ضحكنا على استحياء، وأردفت قائلاً: - سوف نتعشى ساندويتشات شاورمة من المطعم المقابل ضجت الصحبة بالضحك الهستيري، وكسبت رهان آخر، بعد أن عرض "بريزة" القيام بالمهمة لنا ونحن جلوس، تناول الفلوس من الخاسر. الطبيعي لن يرجع ما تبقى وكان هذا أيضاً رهان كسبته، ولكنه كائن جميل مسلي رغم شدة بخله، دخلت معهم في رهان آخر وأنا على يقين من المكسب وهم موقنون من الخسارة، ولما لا لكل شيء ثمن، كما قال إحدانا. التهمنا الساندويتشات بشهية لم تعهدها معدتنا من قبل، أقترب الفجر وعلينا الذهاب، ولكن بريزة قابع في مكانه لم يحرك ساكناً، عدلنا عن هذه الفكرة، بعد سألت "بريزة" قائلاً: - عندك كام عيّل أجابني دون أن ينظر إلىً، ويده تحرك الملعقة لإذابة السكر في كوب الشاي تارة يمين وآخري يسار بحركة دائرية. - فتحية ماكنتش عايزة تخلف ما هذا الهُراء.! ولماذا إجابته مقتضبة.؟ لا أخفيك سراً كتمنا ضحكنا، ها هي فتحية تظهر لأول مرة، أردت أن أحرك ساكنه، وسألته مرة آخري: - وريني القميص الجديد أعطاني إياه دون اهتمام، وهو شارد الذهن، ومازالت يده تحرك الملعقة في كوب الشاي، وجدت قميصه الجديد لا يتناسب و سنه، لم أرد أن أقبح ذوقه، وأردفت: - مبروك ولكنه مازال عابس السحنة شارد الفكر، ثم بدء يتكلم بنبرة حزينة لم نعتادها وقال: - أول مرة أضطر لشراء شيء وحدي دون نصيحة، فقد ماتت أمي، لم أشعر بالفراغ مثلما شعرت به بعد أن ماتت فتحية، كم تمنيت موت أمي حتى أستطيع اتخاذ قرار وحدي، وبعد موتها لم أجد الشجاعة لاعتمادي على نفسي، فكانت دائماً موجودة. قطعت استرسال حديثه وسألته - تقصد ماما - لا.... اقصد فتحية أوشكت الصحبة على الضحك مرة أخرى، ولكن بنظرة واحدة مني أجهضت محاولة ضحكهم، أسترسل في حديثه ومازالت يده تحرك الملعقة في كوب الشاي. كم تمنيت موت فتحية.! ولكن هل سأكون سعيد بموتها.؟ نظر إلي ومازالت يده تحرك الملعقة في كوب الشاي وقال: - كم أحببتك عندما أطلقت علىً لقب "تعريفة" وقتها شعرت أنني تخلصت من سطوة أمي، ولكنه شعور لم يدم إلا قليل، ماتت أمي وشعرت بارتياح ولكن شعوري هذا - أيضاً - لم يدم، فقد جاء دور فتحية وكان أكثر سطوة، وكان الحل موت فتحية، وماتت فتحية... ماتت فتحية في الوقت الغلط... ماتت فتحية ومازلت غير سعيد... ماتت فتحية ومازلت غير قادر على اتخاذ قرار، ماتت فتحية وأنا مازلت أريدها فقد اشتريت قميص جديد.... اشتريت قميص جديد. قال كلمته هذه ومازالت يده تحرك الملعقة في كوب الشاي، فلتذهب وفتحية إلى الجحيم لما هذه الكآبة، قد أسعدتنا بذكرياتك ووجودك مع اختلافنا وإياك، دون كلمة واحدة تركنا يحمل قميصه في يده وذهب مُغنياً اشتريت قميص جديد......اشتريت قميص جديد. ساد الوجوم علينا جميعاً وانقلب حالنا إلى كآبة لم نتمناها، وذهب كل منا بأفكاره الحزينة شفقة على أحمد "فتحية" وجدتها فرصة علىً أن أغتنمها، تُرجعنا إلى حالة النشوة والسرور التي كنا عليها قبل ظهور "فتحية"، كل منا يبحث عن السعادة، وفي حالة الحزن هذه يسهل التأثير وقيادة الشخص الحزين، وقمت برهان جديد ليس طمعاً في المكسب المادي ولكنه مكسب معنوي، فقد قمت بدفع الحساب لنا جميعاً علماً بأني الخاسر، أريد لحظة سعادة - ومن منا لا يريدها - جديدة لي ولهم، ذهبنا جميعاً وراء أحمد "فتحية" كما آمرتهم. وجدناه كما توقعت واقفاً منتظراً الأتوبيس موفراً أجرة التاكسي العشرة جنيهات التي أعطيتها له، ضحكنا جميعاً بصوت عالي، أنتبه على صوتنا، وهم يقولون: أنت كسبت الرهان وأنا في نفس اللحظة أقول أنا كسبت الرهان. حقاً وراء كل رجل عبيط أمرآة.