من يوصلني إلى بحر الصمت, لازالت ثرثرة الأيام تحملني إلى صحار و متاهات العمر في غياهب الشعور بالضياع تغرقني في عتمة رياح ترابية تعصف بي ، تسد علي كل الطرق والمنافذ . العودة للربيع جاء من باب الهذيان ، وضرب من المستحيل ، والحقيقة باتت تقارع بقايا أحلام، تجبرها على أن تخرج من كوة رأسي المثقل بالهموم . لا أمل لي بالخلاص, فالعالم موغل بالجريمة ، ولحوم البشر أطعم اللحوم, يقدمونها لفافات (ساندويج ) ) ، في( كرنفالات) مذابح العقائد القرمزية . لازال الموت فاغرا فاه ، لا يتمثل برجل حتى أجهز عليه. رائحة الشواء لا تقاوم ، تحترق الأجساد كقطع فحم ، كتب الأطفال تذروها الرياح ، الدم يسيح يمتزج بكتاب القراءة الخلدونية ، يريد أن يكمل الدرس المسفوح عند بوابة المدرسة.أصوات تردد وراء المعلمة ، أبجدية الحرف العربي المقهور، والمسلوب رداءه : دار دوّرٌ دورانا رأيته أحمر ، يزحف فارا من سجون الأجساد الغضة المعفرة بالتراب . رامي المسجى على قارعة الطريق ، عبر مدارج الحصى ، يلوذ بصمت ، بدا وكأنه أبدي ، ليس كعادته ؛ فهو مجبول على الهذيان والضحك. ( إلى اللقاء .. غدا ألقاك) آخر كلمة سمعتها ، ونحن نغادر معا الصف ، بعد أن عاقبتنا معلمتنا . كنا نحاول كتم ضحكاتنا في أعماقنا . نظرت إلينا المعلمة نظرة عتاب وتأنيب : - كفاكما ضحكا . ولم نأبه لإنذاراتها وتحذيراتها ، بقينا نضحك ، دونما سبب . طلبت ألا نحضر إلا ومعنا وليا أمرينا . الضحك بلا سبب من قلة الأدب ) قال رامي ، وهو ينفجر بنوبة ضحك هستيري ؛ ليستفز غريزة الضحك عندي. جلسنا عند عتبة الباب ، ننظر إلى الحركة الدائبة ، للأطفال بين رواح ومجيء . في لحظة .. ومن غير سابق إنذار، اجتاحتنا حالة من اكتئاب ، لفنا السكون بجناحيه . لن ترحمني والدتي إذا ما علمت بطردي من المدرسة . دارت في خلدي تلك الكلمات . كل يوم يأتي رامي بدراجته الهوائية للمدرسة . كم حلمت أن أمتطيها مثله ، أنطلق بها في هذا الخلاء ! : السفر المحتوم للمجهول ، يجب أن نعد عدته . هكذا قالت جدتي ، وهي تضع على جسدي المرتعش بطانيتها الوحيدة . قفزت لذهني فكرة : ماذا لو هربنا منه ؟! نظرت إليها ، وهي تتغطى بكفنها، تمنيت أن تلفني بحضنها؛ لولا هذا الشيء البغيض . أردت أن أبكي كما يبكي الأطفال . اليوم صار الكفن رداءً لرامي . سألتها : (لم رامي يموت ...؟) : إنها إرادة الله . قالتها وهي تربت على كتفي ، لتصبرني على بلوى ، ما كانت تخطر على بالي .أشعلت مدفأة قربتها مني ، أحسست ببعض الدفء. الظلام يثير مشاعر الخوف لدي ، أشباح تطاردني ، حاولت الهروب منها ، أبحث عن ملاذ آمن. نهض رامي والدماء تغطيه ، مد يده إليّ ، جاهدت سحبه بقوة .كاد يجرني إلى هوة سحيقة .كان صدى ضحكاته يمتد عبر الأثير بلا حدود ، لا تحجبه حجبٌ عن رجوم الشياطين . المعلمة تركض ورائي, تطاردني ، تحظر عليّ الابتسام ، تتقدم جدتي لتنقذني ؛ لكن الكفن ينفرني منها . أمي تنادي ، تصرخ بأعلى صوتها ، تلهج باسمي ،لازالت تبحث عني في غابات الصنوبر العتيقة . رؤوس بشرية مقطوعة متناثرة في هذا اليباب ، وأنا أطوف بجسدي كسحابة ، أرى حشودا من الناس تسير خلفي ، سمعت بكاء صراخ مهول ، رأيت رامي خلفي يسير ، رأيته يبكي هذه المرة ، سألت نفسي : ( هل الموتى يبكون..؟) . وأنا أطوف في عالم هلامي ، كل ما يحيط بي أشبه بكابوس جاثم . عريني أُعد لي سلفا ، سأظل رابضا فيه إلى يوم النشور ، هكذا سمعتهم يقولون . محوت أمالي المكتوبة على جدران المدرسة ، مزقت كراريس واجباتي ، ما عادت تستهويني لعبة الأحلام ، و الاستيقاظ الجبري ، ومغادرة فراشي كل يوم ، ما عاد يستهويني التسكع بالطرقات ، شظى ألواح صفراء يتمزق . لقد رأيت هذا المنظر، أعيد مرارا وتكرارا ، كنت أسمع به ، لكني اليوم رأيته بعيني ، واحتضنته بجسدي الذي صار مقبرة لهذه الألواح . لا .. لم أكن أنا ؛ رامي من أودعوه تلك الأمانة . ما عاد للفجر لون, رحلتي تعدت المعقول ، أعادوني مكبلا بلفافات بيضاء . بصيص من الضوء اخترق عدسة عيني ، تراقص يبحث عن مهرجان ألوان الطيف ، رائحة غريبة شممتها ، رائحة معقمات تفوح ، أشباح بملابس بيضاء تتحلقني ، أحسست بحرقة تخترق وريدي أعطه كلافوران) . أول جملة سمعتها تحط على مدارج واقعي المعاد بنسخة أخرى ، راحت الصورة تنجلي بوضوح . رأيت أمي تمسك بيدي ، وثمة تهاليل من الفرح ، ارتسمت على صفحات وجهها المؤرق ، وعينيها التي أثقلهما الكرى تحتضناني بحنان ، جدتي تقف عند رأسها ، ترنو إلي بفتور . : أين رامي ؟! قلتها ، ورحت أبحث عنه بنظراتي, لم أجد غير أسرة ، يضطجع عليها أناس ، لا أعرف عنهم شيئا ، محاطين بذويهم : ( أين رامي ....؟) لم أجد جوابا . عرفت إن الحيرة تلفهم ، لا جواب لديهم . : نحن في بغداد .. ورامي في دمشق ...؟ قالت أمي لتقتل كل حيرة في داخلي : لقد رأيت رامي .( قلت مصرا...!) رن جرس التلفون ، لم أتبين من كلامها إلا كلمة : (انفجار في دمشق). صرخت أمي بأعلى صوتها : لا لن أدعك تلحق به . لكني في هذه اللحظة رأيته . أمسك بيدي ، وسرنا بذات الطريق الطويل. ................................ سالم وريوش الحميد