العلاقة بين الفكر الاجتماعي ودور الإنسان وتصوره للوجود لا بد قبل الاستعراض التاريخي للفكر الاجتماعي في عصر النهضة من الإشارة إلى العلاقة بين النظام الاجتماعي وما يتفرع عنه من نظم وإلى دور الإنسان وتصوره للوجود ومفهومه للحياة والمنهج الذي يستمد منه هذا التصور وهذا الدور ، وخاصة في مجال الانتقال بالاتجاهات الفكرية التي تشكل وعي الشعب من نطاق النظرية والتخطيط إلى نطاق الممارسة والتطبيق ، وذالك بالإضافة إلى الإشارة إلى أن الفكر الاجتماعي هو في الأساس جزء من التراث الفكري والأدبي والإنساني ، وفرع من فروع المعرفة ، ولون من ألوان النشاط الثقافي السياسي والاقتصادي والقانوني والتربوي ، وإن محاولة وضع الفكر الاجتماعي في إطار زمني لا يشكل سداً يفصل بين عناصر الفكر البشري في العصور القديمة والعصور الوسطى ولعصور الحديثة ، ولكنه محاولة لوضع العناصر الأساسية لهذا الفكر في إطار زمني , كما أنه لا بد من الإشارة أيضا إلى أن نشأة الفكر الاجتماعي وتطوره ترتبط بأحداث تاريخية إستراتيجية ومفصلية تشكل حداً فاصلاً بين عصرين ، فالفكر الاجتماعي في العصور القديمة يعود إلى بداية اتصال الإنسان بالمجتمع ، والفكر الاجتماعي في العصور الوسطى نشأ بعد سقوط القسطنطينية في عام 1453ونزوح العلماء إلى ايطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان ، والفكر الاجتماعي الحديث نشأ بعد قيام الثورة الفرنسية ، وهذا يبرر سؤال على جانب كبير من الأهمية والمشروعية وهو ، لماذا لم ينشأ فكر اجتماعي فلسطيني رغم أن أحداث التاريخ في فلسطين تستدعي نشأة مثل هذا الفكر ، كما أن هنا ملاحظة يجب الوقف عندها وهي أن الفكر الاجتماعي في كل مراحله ظهر في قارة أوروبا ونتيجة لأحداث أوروبية ، وارويا قارة صغيرة المساحة وقليلة السكان ، فمساحتها التي تمتد من جبال الاورال وجبال القوقاز وبحر قزوين شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا ، ومن المحيط المتجمد الشمالي شمالا إلى البحر المتوسط والبحر الأسود وجبال القوقاز جنوبا لا تزيد عن 10,180 كيلو متر مربع ، وهي عبارة عن شبه جزيرة ملحقة بقارة أسيا في حين أن عدد سكانها لا يتجاوز 731 مليون نسمة أي اقل من سكان الصين وحدها أو سكان الهند وحدها الفكر الاجتماعي في عصر النهضة نشأ الفكر الاجتماعي في عصر النهضة نتيجة أحداث وقعت في الغرب وامتدت نتائجها إلى العالم ، وخاصة موضوع الصراع بين العلم والكنيسة ، وانتصار العلم على سلطة الكنيسة الكهنوتية وما أعقبه من اتجاهات تميزت بالنقد الساخر وروح التشكيك بسبب الصراع بين الكنيسة والعلم , والقطيعة التي فرضتها الكنيسة على كل ما يتعلق بالأمور العلمية والعقلية المخالفة لطبيعة الكنيسة في القرون الوسطى , ولعل أبرز مثال على ذلك هو إعدام غاليليو الذي قال بنظرية دوران الأرض ، في هذا الجو ولد الفكر الاجتماعي في عصر النهضة , وهو الفكر الذي نادي بحق الفرد في الحكم على الأشياء , وحرية الفكر , واعتبار العقل مستودع المعرفة إلى جانب العالم الخارجي الذي ينتقل إلى العقل بواسطة الحواس ، ولذلك يعتبر عصر النهضة نقلة هامة وميلاد جديد على كل صعيد ، وهو أهم انقلاب متدرج عرفه العالم حتى ذلك الوقت ، وهو يطلق على التيارات الثقافية والفكرية التي بدأت في ايطاليا وتعتبر فترة انتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة وتشمل القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر . عوامل النهضة الأوروبية 1 – موقع ايطاليا وانتعاش التجارة وازدهارها وظهور المدن التجارية ( جنوة – ميلانو – بيزا – البندقية – فلورنسا ) والتجارة عنصر فعال في الاستقرار وبث شرايين الحياة في المجتمعات وما أدى ذلك من تطوير للسلطات القضائية والتشريعية لتأمين التجارة والطرق التجارية 2 – استعمال اللغات الوطنية والخروج من سيطرة اللغة اللاتينية على العلم والأدب والفن والفلسفة والتاريخ وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية والتي كانت محصورة في رجال الدين وتشجيع الحكومات الأوربية للغات الوطنية 3 - سقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانيةالشرقية المقدسة وهجرة العلماء إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانيةالغربية المقدسة حاملين معهم كتب الإغريق والتماثيل والأدوات القديمة ، وهو ما أدى إلى بعث الثقافة اللاتينية في قالب جديد وهو ما شكل نواة النهضة الأوروبية 4 - الاستفادة من الحضارة العربية – الإسلامية 5 – اختراع الطباعة 6 – رغبة الباباوات في جعل روما عاصمة المسيحية مظاهر النهضة الأوروبية 1 – انهيار النظام الإقطاعي وتطور أساليب الحكم 2 - موت بعض رموز الإقطاع في الحروب الصليبية وانصراف بعض رموز الإقطاعيين إلى ممارسة التجارة وتحرير الاقنان وعدم قدرة من تبقى من الإقطاعيين على مقاومة التغيرات التي حصلت نتيجة النهضة 3– الكشوف الجغرافية وتدفق الثروات على أوروبا من العالم الجديد 4- ظهور طبقة متوسطة ساعدت الحكام على تحقيق الاستقرار ونشر الأمن 5– ظهور اللغات الأوروبية والروح الوطنية والقضاء 6– إحياء الدراسات القديمة الإغريقية واللاتينية ( ثورة على المسيحية وعودة إلى الوثنية ) 7– انتشار النهضة خارج ايطاليا 8– احتضان بعض الأسر الأوربية للنهضة مثل أسرة ميديشي في فلورنسا وأسرة سوفرزا في ميلانو وبعض الباباوات في روما 9– ظهور فن العمارة وتكوين العقل الحديث وعودة المثل العليا والأنماط الكلاسيكية 10– ظهور الفنانين مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو والرحالة والمستكشفين مثل امريكو فسبوتشي وكريستوفر كولومبس وفاسكو دي جاما 11– تحرر الأوربيين من سطوة الكنيسة على الأرواح وسيطرة الإقطاع على الأبدان موقف الكنيسة من النهضة الأوروبية وما أن ظهرت في أوروبا بوادر النهضة المتأثرة بحضارة المسلمين في الأندلس بعد حركة الترجمة من العلوم الإسلامية واليونانية إلى اللغة اللاتينية واللغات الوطنية الأوربية ، وظهور عدد من العلماء الذين اثبتوا ا بطلان أراء الكنيسة العلمية وخاصة في مجال الجغرافية والفلك حتى تصدت الكنيسة لهم استنادا على ما ورد في الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا ( إن كان احد لا يثبت في يطرح خارجا كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق ) وهكذا استخدمت الكنيسة هذا النص في الرقابة على الكتب والمطبوعات حتى لا ينشروا أراء تخالف العقيدة الكاثوليكية ، وتوسعوا في تشكيل محاكم التفتيش ضد العلماء والفلاسفة والكتاب ، وقد حكمت تلك المحاكم في الفترة من 1481 – 1499 على تسعة ألاف وثلاثة وعشرون شخصا بأحكام مختلفة ، وأصدرت قرارات بتحريم قراءة كتب غاليلو وجيوردا نويرنو وكوبرنيكوس ونيوتن لقوله بقانون الجاذبية الأرضية ، وأمرت بحرق كتبهم ، وقد احرق الكاردينال اكيمنيس في غرناطة ثمانية الاف كتاب مخطوط لمخالفتها أراء الكنيسة ، وقد ازداد غضب العلماء والمفكرين والفلاسفة والكتاب والناس من سوء رجال الكنيسة ومن الرقابة التي فرضوها على المطبوعات ، وتوسعهم في استخدام محاكم التفتيش ، ومبالغتهم في تعذيب الكتاب والفلاسفة والعلماء مما أثار فلاسفة مثل ديكارت وفولتير الذين وجهوا سهام النقد للكنيسة وأرائها ودعوا إلى إعلاء شأن العقل مقابل النصوص الكنسية بفرض أن العقل يستطيع أن يدرك الحقائق العلمية والخير والشر الفكر السياسي في عصر النهضة كان أبرز من حمل لواء هذا الفكر المفكر والسياسي المشهور نيقولو مكيافيللي ( 1469 – 1527 ) ) ، الذي كان يرى أن الحياة في المجتمعات تقوم على استخدام القوة ، وأن ميل الإنسان إلى الشر يفوق ميله إلى الخير , ولذالك دعي إلى فصل التفكير السياسي عن الأخلاق , وفصل الدين عن السياسة ، وإذا كان لا بد من الدين فليكن قضية شخصية لا ينبغي أن تتدخل في أمور السياسة والدولة ، لأن الدين موضوعه الحياة الأخروية , وان المتدينين الصالحين لا يفيد وجودهم الدولة لأنهم يتقيدون بأحكام الدين والأخلاق ولا يستطيعوا الخروج عنها إذا اقتضت مصلحة الدولة ذالك , ولأن السياسيين أيضا يجب أن يتخلقوا بأخلاق الثعالب ولا يخجلوا من نقض العهود والوعود والكذب والنفاق والغش والخيانة إذا كان ذالك في مصلحة الدولة , كما نادي بأن الغاية تبرر الواسطة , وضرورة تقسيم الأخلاق إلى شخصية واجتماعية , وذالك بالإضافة إلى اكتشاف اتساق السياسة في قوانين ثابتة مستندا في ذالك على المنهج الموضوعي الذي استمد مادته من مراجعة التاريخ الروماني وسياسات الدول المعاصرة له ، والفيلسوف الإنجليزي توماس مور ( 1478- 1535 ) في كتابه ( يوتوبيا أي الجزيرة الخيالية وتعني باليونانية ليس في مكان ما ) في عام 1516 , وهي المكان المنشود لهناء البشر الذي صور فيه دوله مثالية تحقق السعادة للناس وتمحو الشرور , ولكنها جزيرة خيالية عثر عليها روفائيل هتلو داي وأمريكو فيسبوتشي , الأول أستاذ برتغالي وهو شخصية خيالية , والثاني بحار أطلق اسمه على العالم الجديد رغم أنه لم يكن البحار الأول الذي أكتشف هذا العالم وقد سبقه إلى هذا الاكتشاف كريستوفر كولومبس , وهو على كل حال شخصية تاريخية ، وهي جزيرة خيالية تتكون من اتحاد عدد من المدن التي تتميز بالتساوي في عدد السكان والأراضي الزراعية وطراز البيوت وساعات العمل وكمية ونوعية الإنتاج والثروة ونظام الأسرة وتطبق النظام الشيوعي , ولذالك يعتبرها الشيوعيون السفر الأول للاشتراكية الحديثة ، والمحامي جان بودان ( 1530 – 1596 ) الذي كان من أنصار الحكم المطلق وضد الحريات الفردية والعقد الاجتماعي , ولذالك كان يرى أن ميزة المواطن هي في خضوعه للدولة , وميزة الدولة هي في وجود سلطة سياسية عليا لكن شرط أن تبقى مقيدة بالموجبات الأخلاقية المنبثقة عن القانون الطبيعي والقانون الإلهي ، أما المفكر التوسياس فقد كان يرى انه لا يمكن أن يكون في الدولة عقد اجتماعي دون عقد سياسي , الأول يحدد العلاقة بين أفراد المجتمع , والثاني ويحدد واجبات وحقوق كل طرف ويحدد العلاقة بين الحاكم والمواطنين وينظم واجبات وحقوق كل طرف أيضا ، أما الفيلسوف فرانسيس بيكون 1561- 1626 ) فقدٍ كانت فلسفته الاجتماعية والأخلاقية تنزع إلى الفكر الأفلاطوني والروح الميكافيلية وخاصة في الحرب والأسرة والملكية الخاصة والتعامل النقدي والامتيازات ، وقد أشار إلى ذلك في مدينته المثالية ( أطلانطيس الجديدة ) التي استوحى فكرتها من ( أطلانطيس أفلاطون ) التي روى قصتها في محاورتي ( طيماس وكريتياس ) والتي يحب أن يحكمها حكومة ارستقراطية من رجال الفن والأطباء والمهندسين والفلكيين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس ، وكذلك الفيلسوف ديكارت الذي كتب في كتابه الشهير ( العالم ) أن كل ما في العالم يرجع إلى عنصرين ، عنصر المادة وصورته الأساسية ملء حيز من المكان والصفة المميزة له هي الامتداد ، والعنصر الثاني هو العقل وصورته الشعور والإدراك والصفة الجوهرية له هي الفكر ، أما فيما يتعلق بالإنسان فهو بري أنه آلي كالحيوان سواء بسواء غير أنه يمتاز عن الحيوان بالعقل الذي يمكنه من السيطرة على عواطفه ولذالك يقول ( أنه حتى أضعف العقول تستطيع بالصبر أن توفق إلى السيطرة على العواطف كما تستطيع ترويض اعنف الكلاب ) ولذالك اعتبر الأخلاق امرأ وقتيا لأن قيام علم اخلاق نهائي مرتبط بالاكتمال العلمي ، والمفكر الألماني فالنتين اندريا الذي تخيل أن رجلا ضاق برذائل مجتمعه فخرج غاضبا وركب البحر لكن العواصف حطمت سفينته وألقته على جزيرة ( كافا سلامه ) وهي جزيرة خيالية وعاصمتها مدينة ( كريستيانوبوليس ) , وهي مدينة فاضلة يحكمها ثمانية رجال يتبع كل واحد منهم ثمانية آخرين ويساعدهم في الحكم مجلس استشاري مكون من أربعة وعشرين عضوا لا اعتبار للثروة والقوة في اختيارهم ، والمفكر الاسباني تومازو كامبانلا 1568-1639 حول ما يسمى ( مدينة الشمس ) وهي مدينة خيالية تطبق النظام الشيوعي أيضاً ولكنها تختلف عن ( جزيرة يوتوبيا ) في نظام الأسرة الذي تطالب بإلغائه كشرط لإلغاء الملكية لأن الأسرة هي أساس غريزة الملكية ، لكن المفكر غروشس ( 1583 – 1645 ) لم يكتفي بنظرية العقد الاجتماعي في قيام المجتمع ونشأة الدولة فحسب ولكنه أضاف أيضا المصلحة المشتركة بين الأفراد وحق الشعب في اختيار الحكم الصالح والقانون الطبيعي الذي يمليه العقل وينسجم مع الأخلاق ، أما الفيلسوف هوبز ( 1588 – 1679 ) فقد استعار اسم ( اللوثايان ) وهو حيوان بحري عنوانا لكتابه الذي عرض فيه جوانب من فكره السياسي وخاصة نظريته في السيادة , وقد شبه الدولة ( باللوثايان ) يرهبها الأفراد ولا يحترمونها , لان هوبز كان يعتقد أن الإنسان غير اجتماعي بفطرته ولذالك لا بد أن تكون الدولة تحت سيادة حكومة متسلطة لا ترى الحقيقة إلا كما تراها هي ولا ترضى الحق إلا كما ترضاه هي ولا تقاس القيم إلا بما تفرضه من قانون , لأنها تنين جبار يبتلع في جوفه كل الأفراد بحيث تنمحي شخصياتهم وإراداتهم أمام شخصيتها وإرادتها ، وقد اتفق الفيلسوف بندكت دو سبينوزا (1632 – 1677 ) مع الفيلسوف توماس هوبز في أن الإنسان لم يكن اجتماعيا بالفطرة , ولم يكن ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة , ولم تكن لديه أي فكرة عن الصواب والخطأ أو العدل والظلم , ولم يكن مسؤول أمام احد غير نفسه , ولذالك كانت القوة عنده هي الحق , ومن استطاع أن يظفر بشيء فهو حق له , ولذالك كانت هذه الفوضى هي التي دفعت الإنسان إلى التعاون وتكوين الشعور الاجتماعي الذي يقوم على أساس نفعي يتمثل في التعاقد الاجتماعي والدولة ، لكن ابرز من كتب في الطور الطبيعي والعقد الاجتماعي والتمييز بين السلطات والسياسة والحكم وحقوق الإنسان الطبيعية حتى ذالك الوقت كان الفيلسوف البريطاني جان لوك ( 1632 – 1704 ) لكن هذا الفيلسوف الذي جمع مذاهبه من مصادر متنوعة لم يكتسب شهرته من عمق فلسفته , ولكنه اكتسبها من تعبيره عن مشاعر الناس بوجوب لجم السلطة المطلقة بحيث تكون الحكومة بما فيها الملك والبرلمان مسؤولة أمام الشعب ومقيدة بالالتزام بالواجبات والتقاليد الدستورية والتعهدات التاريخية , وذلك بالإضافة إلى دوره في تطور الفكر السياسي والاقتصادي وخاصة فكر مونتسكيو وروسو وحقوق الإنسان والدساتير الحديثة ، لكن مونتسكيو (1689 – 1755 ) الذي اتفق مع جان لوك في ضرورة الفصل بين السلطات اختلف معه في فكرة العقد الاجتماعي في نشوء الدولة , وقال أن الدولة نشأت نشأة تلقائية بتأثير العوامل الجغرافية والاقتصادية ومؤثرات البيئة الاجتماعية من معتقدات دينية وعادات وتقاليد , وقد كان منطلقه في ذالك أن العدالة المجردة كانت سائدة قبل ظهور القانون الوضعي الذي هو نتاج تكيف القانون الطبيعي مع المكان والزمان ( الجغرافية والتاريخ ) ولأن الحكومة مثل القانون ترتبط بالمكان والزمان فإن نشأتها أيضا كانت نشأة تلقائية ، ولكن وعلى كل حال يكفي مونتسكيو فخرا أن نظريته في الفصل بين السلطات كانت ولا زالت القاعدة التي تقوم عليها كل الدساتير في العالم ، هذا وقد عاصر مونتسكيو المفكر هلفتياس ( 1705 – 1771 ) الذي ربط الدوافع الذاتية للإنسان بالأخلاق , وأكد على ضرورة ضبط المنفعة الذاتية في حدود الأبعاد الأخلاقية كضرورة لإزالة التعارض بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة , وهكذا يكون الفرق بين مونتسكيو وهلفتياس أن الأول أسس نظريته على أساس جغرافي تاريخي والثاني أسسها على أساس أخلاقي نفساني فردي ، أما فولتير (1694-1778) وهولباك (1727 -1789) فقد اتفقا على نقد التعصب الديني ولكنهما اختلفا في موضوع النظام الحكومي وقضية الحرية في النظام السياسي , ففي حين اعتبر فولتير النظام البريطاني نموذجاً مثالياً للحرية اعتبر هولباك النظام الحكومي عامة والنظام الحكومي الفرنسي خاصةً جاهلا ومقصرا ومستغلا ويهتم بالحرب والتوسع ولا يهتم بمصالح الشعب ، كما أنه كان يرى أن الإنسان بطبعه طيب ولكن الحكومة هي التي أفسدته وحملته على الشر , ولذلك لن يكون الحل في تأسيس حكم صالح إلا بإطلاق حرية الإرادة الشعبية ونشر التعليم والثقافة لأن الحاكم ليس إلا مجرد وكيل عن الشعب وممارسته الصحيحة في الحكم تكون بالعمل على تحقيق مصالح الشعب ، أما الكاتب جان جاك روسو (1712-1778) الأب الروحي للثورة الفرنسية , والفيلسوف الذي كان أول من دعي إلى التطور الاجتماعي , وأول من حاول رسم التقدم التاريخي للمجتمع الإنساني , وأول من أعطى المضون الجدي والبعد الأوسع لفكرة العقد الاجتماعي , وأول من عالج فكرة التقدم بأسلوب متماسك , وأول من قال أن الحرية البدائية هي المنطلق والهدف لبناء حياة اجتماعية حقه , وأول من قال أن دخول الإنسان الحر المجتمع الحر من شأنه فتح آفاق أوسع أمام الحرية عن طريق ممارستها من الفرد والمجتمع , وأول من قال أن المساواة هي قاعدة النظام السياسي وهى التي تحمى الحرية والعدالة , وقد كان روسو على النقيض من هوبز وسبينوزا , لأنة كان يرى أن الناس في طبيعتهم الأولى كانوا متحابين بأصل الفطرة فيهم , لذالك كان يرى أن الحالة الطبيعية التي سبقت المجتمع المدني كانت مثالية , وان ما فيها من فساد إنما يرجع إلى التقدم المدني والحضاري , لذالك كان العقد الاجتماعي عنده يمتاز بأنه يقوم على تخلى الناس عن حقوقهم الطبيعية للدولة , لكن الدولة تعيدها لهم بعد أن تصبح حقوق مدنية , وهكذا يكون التخلي عن الحقوق تخلي شكلي الهدف منه أن يصبح للحرية والمساواة أساس اجتماعي , كما انه كان يرى أن الحكومة يجب أن تكون ديمقراطية تستمد قوتها وسلطتها من إرادة المجتمع ( الإرادة العامة ) ولذالك تكون الحكومة وكيل عن الشعب تخضع لرقابته باستمرار ويكون له حق تغييرها والثورة عليها إذا لم تقم الحكومة وهى احد طرفي التعاقد بجميع التزاماتها . والحقيقة أن عصر النهضة كان من أهم المراحل التاريخية التي مهدت للفكر السياسي الحديث في جميع فروعه وتطبيقاته لأن كل الأفكار التي جاءت في هذه المرحلة في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية والقانونية ساعدت في تبلور الفكر في العصر الحديث http://yousefhijazi.maktoobblog.com