تختلف القراءات السياسية لإحداثيات المتغيرات في المنطقة العربية وفقًا لاختلاف الزاوية التي يمكن مِن خلالها رؤية وقراءة التاريخ، ودراسته بعمق وإخضاعه للنقد الجدي الذي يمكن من خلاله الوصول لجادة الصواب، واستنتاج رؤية صائبة، أي ما يطلق عليه مراجعة نقدية علمية هادفة، استنادًا للماضي والحاضر لرسم المستقبل، وهو المبدأ والمنهج الذي استندت إليه الأمم التي أرادت أن تجعل من التاريخ محورًا إراتكازيًا إسناديًا، في رسم مستقبلها دون الاستناد لحالة الهياج الانفعالي الوجداني، أو حالة السعار ألشعاراتي الوهمي، الأشبه بالمفاهيم العسكرية التي لا تميز بين المناورات الوهمية والفعل العسكري الحقيقي، فالأولى تخدم الثانية، والثانية تحقق الهدف، ولولا تلك المنهجية التاريخية في دراسة الأشياء ومركباتها، ورسم الخطط وفقًا لها، لما نجح الجندي المصري العربي مِن اجتياز خط بارليف في حرب أكتوبر، ولما تحولت العقيدة القتالية المنهزمة في حرب 1967م إلى عقيدة انتصار في حرب سنة 1973م التي لم تختلف في النخبة البشرية، بل اختلفت في إحداث تغييرًا في الفكر العقائدي الإيماني العسكري والسياسي لدى النخب البشرية، وهو ما حقق الانتصار الفعلي، وعبَّر قناة السويس محررًا بعزيمته القتالية، وإرادة الانتصار، وليس بالأمنيات والدعوات، والابتهالات والموشحات في الزواية الصوفية، أو أغنيات والله زمان يا كفاحي. ربما يقول قائل ما خطب هذا الكاَّتب يخلط السمن بالعسل، ويبلل التراب بالماء، ولكن!! السمن إن مُزج بالعسل أو خُلط به يشبه خلطة الأعشاب (أو التداوي بالطب العربي الشعبي) أو بمزيج من الأعشاب السياسية التي تحمل مُطهرات للعقل التقليدي، وضيق الأفق الذي تعودنا عليه في النمطية الاستهلاكية الموروثة، فلم نتقِّن بعد فن الصناعة والإنتاج، ولذلك نحاول مزج التراب بالماء لِنُشَيِدْ لَنا بَيتًا فِكريًا يَحمِينَّا من قَيظ الصيف السياسي المتقد، وبرد الشتاء القارص، ونبدأ بالانطلاق في فتح آفاقنا المحصورة في حدود دائرة مغلقة لا يتجدد هوائها، مما يسبب انقطاع وصول الأكسجين عن الدماغ فتتلف خلايا المخ والمخيخ المنتجة للفِعل. في كتاب وجهه (وايزمن) سنة 1917م إلى السير ( رونالد جراهام) طَلب منه توجيه كتاب للحركة الصهيونية يُعبِّر عن عطف الحكومة البريطانية ومساعدتها للإدعاءات الصهيونية في فلسطين، وما كان من بلفور إلاَّ أن يَطلب مِن الزعماء الصهاينة إعداد صيغة للتصريح المقترح لعرضها على وزارة الحرب البريطانية، وهو ما تلقفته الحركة الصهيونية، وعقدت مؤتمرًا لصياغة هذا المُقترح، فشهد المؤتمر تفجرًا لنقاش فكري – أيديولوجي كشف عن تباين عميق بين ثلاث تيارات، التيار الأكثر تطرف ارتأى ضرورة الإعلان عن وطن مباشر للدولة اليهودية بناءًا على شعار( فلسطين يهودية، كما فرنسا فرنسية، كما انجلترا انجليزية)، أما الطرف المعتدل فارتأى أن يكون التصريح دعوة لِ ( وطن قومي لليهود في فلسطين) كما جاء في مؤتمر بال الأول دون الإشارة إلى الدولة اليهودية مباشره، ووسط هذه الخلافات شُكلت لجنة لدراسة النماذج والمشروعات المقترحة مِن الزعماء الصهاينة، وبعد التدارس تم تأييد فكرة الفريق المُعتدل( وطن قومي)، وهو ما يوحي للمتعمق بفكرة الوطن القومي أن اللجنة الصهيونية قرأت ماضي وواقع ومستقبل المنطقة استراتيجيًا، وحددت الخيار الذي يحقق لها هدفها العام دون طرح جدليات انفعالية تعرض لفشل الهدف والمخطط، حيث بدأت بخطواتها بنطفةً، ثم جنينًا، ثم وليدًا تمثل في إعلان دولة الكيان سنة 1948م، دون إثارة حفيظة الشعوب العربية التي ربما تساهم في إفشال المخطط قبل ميلاده. هذه الحالة أعادت للذاكرة مشهد جدلي آخر لكنه تفجر بروحية عربية وليس صهيونية سنة 1990م حيث أنعقد مؤتمر القمة العربي في قاهرة المُعِز، لنقاش الحالة العراقية – الكويتية، والتي بدورها أقرت استقدام قوى التحالف الثلاثيني لضرب العراق، وكيفية إدارة الرئيس المصري السابق( حسني مبارك) للجلسة المصيرية بدقائق معدودة بحالة هرج ومرج مِن زعماء الأمة، ليصدر أول قرار عربي بالأغلبية التي حملها (مبارك) وسارع برفع الجلسة دون الاستماع لوجهات النظر وهو بحالة عصبية ملحوظة وكأنه يحمل عبئًا وهمًا ومهمة يريد أن ينجزها، ولا شيء آخر، ولتُسجل جامعة الدول العربية أول قرار بالأغلبية، بالرغم أن ميثاقها ينص على الإجماع في القرارات في مشهد سريالي، أقرب منه لكوميديا سياسية، تفوقت على الكوميدي المصري العملاق " عادل إمام" في مسرحية ( شاهد ما شفش حاجة). وهنا من خلال استعراض الموقفين المصيريين في حياة أمتين، نلحظ كيف تصرف كلًا منهما، وكيف آلت إليه أحوال كلًا منهما، ليقول التاريخ كلمته بحق كل أمة. التاريخ قال لنا عدة كلمات كأمة عربية، وقال لنا بالمرة الأولى أي عروبة تريدون؟ أما بالكلمة الثانية ولن تكون الأخيرة فقال لنا، أي محك عليه عروبتنا؟!! العروبة التي نريد ليست تلك الصورة النمطية الشعاراتية التي حفظتها شعوبنا مِن المستوى الرسمي، والممثلة بكلمة" قومي" المجردة من معناها ومعاركها الفعلية، والتي لا يفقه منها البعض العربي في محيطه العام سوى شكلها، وعدد أحرفها، في حين لا يُدرك معناها وحيويتها، وكيف يدركها؟ وهو مجرد من معاركها الفعلية على الأرض، معاركها التي بدأت بخوض غمار وحدة مثلت أمل للجميع، بعهد الراحل ( جمال عبد الناصر)، ومعاركها التي تستنهض عزائم العرب في التمترس خلف قضاياهم وهمومهم المشتركة، وقوميتهم العروبية التي تتشكل وتتخندق خلف الحقائق وليس حيز الفراغ العشوائي، أو ما يشبه العشوائيات المبعثرة على أطراف الحياة بلا نبض أو روح. أما فيما يتعلق بالمحك التي عليه عروبتنا، فهو يأتي في سياق التاريخ ومحكاته، كما أنه يصطف في نفس الصف الذي أَبعد مصر عن محيطها العربي أبان اتفاقية ( كامب ديفيد) سنة 1979م، ووضع العروبة على محك خطير، لم تتجاوزه لولَّا إيمان الشعب المصري بعروبته وأصالته وعراقته، كما عبَّر عنها كذلك في ثورة 23 يناير 2011م متنصلًا مِن أيدي الشيطان في ميدان التحرير الذي حاول البعض غزوه باسم دعم الحريات، ليرسم نموذج ثوري يحتاج لفعل متواصل في معركة لم تبدأ بعد، كما إنه نفس المحك الذي وِجدت به العروبة نفسها تواجه احتلال العراق وتدميره بِفعل جُزء منه عربي رسمي، لكن الشرعنه الرسمية هُزمت، وتلاحمت العروبة خلف مبادئها، وقوانينها التي وإن ترهلت لكنها لم تمتِ، ولم توأد بعد... وها هي العروبة تواجه مصيرها مرة أخرى في اقتحام خندقها الأمامي في شرعنة رسمية لعزل وضرب بعض الأقطار العربية تحت استمالات متنوعة. هذه اللوحة هي القديمة التي يحاول كهنوت السياسة إعادة تجديد ألوانها، وترميم جداريتها بوعود أشبه بالوعود ( البلفورية) في أهدافها، والمختلفة في صياغاتها، لا تُصدر كتب سوداء بمنح أوطان قومية، بل تُصدر إملاءات سوداء تمنح أوطان مسلوبة الإرادة لأهلها، فاقدة الأهلية والاستقلالية. فما يحدث في عالمنا العربي ينطبق عليه ما ينطبق على الكاَّتب السياسي أو مؤرخ التاريخ بأنه دومًا لا يقول أو يكتب إلاّ نصف الحقيقة، ويترك النصف الآخر لقياساته الشخصية، ومنطقتنا في العقد الثاني مِن القرن الواحد والعشرين تعيش في نصف الحقيقة المستوحى مِن( الربيع العربي)، أما النصف الخفي فستقرأه أجيالنا القادمة، وتدونه كتب التاريخ. خلاصة لا بد منها، الحركة الصهيونية اختلفت فكريًا وأيديولوجيًا وأفضت بوطن قومي لليهود في فلسطين أنتج دولة الكيان، أما الحركة العربية فإنها اختلفت فكريًا وشكليًا وأفضت بمشروع إعادة تقسيم المُقسم، وتجزيئ المجزأ ... والاحتفال على أنقاض العروبة التي أضحت بأنفاسها الأخيرة. سامي الأخرس الخامس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م