د.أحمد محمود عبدالقادر درويش شاع في الفكر الشرعي أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر اعتمادا على عدد من الآثار الصحيحة ، والصلاة الوسطى جاءت في سورة البقرة في قوله تعالى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) والحقيقة أن النعت والمنعوت في هذه الآية صارا علما بالغلبة على جواز عطف الخاص على العام يقول الإمام السيوطي ( ت : 911 ه ) : "النوع التاسع: عطف الخاص على العام: وفائدته التنبيه على فَضْله، حتى كأنه ليس من جنس العام، تنزيلاً للتَّغَاير في الوصف منزلة التغاير في الذات " ، فالغرض التنبيه ولفت الانتباه إلى قيمة الخاص ، ولولا هذي المنزلة ما كان ثم عطف ، وكأن هذا العطف مغاير تماما للمعطوف عليه حتى حكى بعض العلماء أن هذا العطف يسمَّى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة، وأفرد بالذكر تفصيلا. والحق أنا المحلل اللغوي ينبغي له الإفادة من كل معطيات السياق ، إضافة إلى إعطاء الجانب المعجمي حقه من الرعاية والاهتمام . لا يعزب عن قارئ أن المعاني المعجمية للنعت هنا لفظة ( الوسطى ) معان اتساعية غير محجور عليها ؛ فقد يكون النعت مشتقا من الأخير والأجود ، وقد يكون من الوسط بين شيئين ، وقد يكون المعنيان صحيحين بمعنى أنها الأخير والأجود على اعتبار تخصيصها بالعطف وقد تكون الأوسط من التوسط بين شيئين ، وهنا ذهب فريق من العلماء إلى أن الوسطى قصد بها صلاة العصر لتوسطها بين الصلوات وبناء على بعض الآثار . غير أنا معنيون بتحليل النعت وتبيان دور المعطى النحوي هنا في ترجيح أحد المعنيين ، لا شك أن النعت ( الوسطى ) جاء اسم تفضيل من المذكر ( الأوسط ) ، وقد وضع النحاة شروطا منها عدم جواز التفضيل مما لا يقبل التفاوت كأن تقول هو أموت من فلان ؛ لأنه لا تفاوت في الموت وهنا يقول أبو حيان ( ت : 745 ه ) في البحر : " وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى مُؤَنَّثَ الْأَوْسَطِ، بِمَعْنَى الْفُضْلَى مُؤَنَّثِ الْأَفْضَلِ، ... لأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُبْنَى إِلَّا مِمَّا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، ...فَكُلُّ مَا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ لَا يُبْنَيَانِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ زَيْدٌ أَمْوَتُ النَّاسِ؟ ...لِأَنَّ الْمَوْتَ شَيْءٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَسَطًا بين شيئين لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى بِمَعْنَى الْأَخِيرِ وَالْأَعْدَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ " . وبناء على هذا التوجه اللغوي فإن المقصود بالوسطى الخُيْرَى والعُدْلَى إن جاز الكلام لا المتوسطة بين صلوات ، وهنا نعود إلى الجملة لنلحظ الآتي : أولا : جاء المعطوف عليه جمعا ( الصلوات ) وجاء المعطوف مفردا . ثانيا : جاء الفعل الآمر بصيغة ( فَاعَلَ ) . والحقيقة أن هذين الملحظين لهما تخريج دلالي يوضح ما أريد الوصول إليه ، ذلك أن الجمع فيه إحاطة بكل الصلوات سواء أكانت فرضا أم نفلا ، أما الإفراد ففيه اهتمام بصلاة الفرض ، فتكون صلاة الفرض قد كررت مرتين مرة كانت معطوفا ومرة كانت معطوفا عليه ، ولعل هذا سر عدم وصف الصلوات فلم يقل مثلا الصلوات الخمس حتى تشمل الفرض والنفل وهذا يعني أن الصلاة الوسطى هي كل الصلوات لا صلاة العصر تحديدا كما رأى ابن العربي ( ت : 543 ه ) ، والعلة من ذلك ، الاهتمام بكل الصلوات لا صلاة وحدة ، ومن هنا جاء الفعل بصيغة ( فَاعَل ) الدالة على المشاركة يقول سيبويه (ت : 180 ه ) :"اعلم أنك إذا قلت : فاعلته فقد كان من غيرك إليك مثل ما كان منك إليه حين قلت : فاعلته مثل ذلك : ضاربته وفارقته وكارمته ... وخاصمنى وخاصمته " وقيمتها الدلالية يوضحها أبوحيان ( ت : 745 ه ) عندما يقول : "وَقَدْ رَامَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبْقَى فَاعَلَ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَكْثَرِ فِيهَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الْمُحَافَظَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظْ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِهَا، وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ هُنَا: دَوَامُ ذِكْرِهَا، أَوِ الدَّوَامُ عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا، أَوْ: إِكْمَالِ فُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا، أَوْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ." ونحن من الرائمين هذا المعنى ؛ لأنه يؤكد ألا صلاة مفضلة على أخرى وإنما يجب الاهتمام بكل الصلوات . ونروم معنى آخر وهو معنى "الموالاة" أى المتابعة كأن تقول : تابعت القراءة وواليت الصوم ويؤكد ما رمناه اجتهاد أستاذنا الدكتور / تمام حسان عند حديثه عن ( الفرق بين اللبس واحتمال وجوه المعنى ) يقول : " فهم بعض المفسرين الوسطية بالمعنى الزمني فقالوا إن المقصود صلاة العصر ؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين أخريين ( ولكن هذا يصدق على كل من الصلوات الخمس ) غير أن المعنى المقبول في هذا المقام هو أقرب ( ولكن ليس طبقا ) للمعنى الأول بدليل قوله تعالى في معرض الكلام عن أصحاب الجنة ( قال أوسطهم ) أي أفضلهم وبذلك يكون معنى الصلاة الوسطى المتقنة "وهذا عين ما رأيته وذهبت إليه قبل . دكتور/أجمد محمود عبدالقادر درويش