في هذا البحث نتناول فترة من أقدم فترات تاريخ مصر ألا وهي "العصر العتيق" أو "العصر المبكر" أو "فترة حكم الأسرتين الأولى و الثانية" ، و سنتناول في هذه الفترة دراسة نظام الدولة و النظام الاقتصادي في ذلك الوقت . لكن قبل أن نتحدث عن الدولة و الاقتصاد في هذه الفترة القديمة من فترات تاريخ مصر القديم ، أود أن أذكر أولا نبذة عن اكتشاف الآثاريين لهذا العصر و نبذة عن تكوين أو ظهور هذا العصر . بداية من المعروف أن هذا العصر هو أول فترة تاريخية مرت بها مصر بعد اكتمال توحيدها نهائيا في مملكة واحدة و ظهور أول أسرة ملكية تحكم مصر كلها باعتبارها دولة مصر الموحدة و ليس مملكة الشمال المستقلة و مملكة الجنوب المستقلة . يقول "والتر إمري" في كتابه "مصر في العصر العتيق" أن الآثاريين قبل عام 1895 م لم يكن لديهم مصادر تتحدث عن ملوك مصر الأوائل غير القوائم الملكية ، و لكن هذه القوائم كانت ضئيلة لدرجة أن الباحث لم يكن في استطاعته أن يعتمد عليها في عمل بحث تاريخي سليم ، و بناء عليه لم يكن الآثاريون قبل عام 1895 م يعرفون تفاصيلا دقيقة عن تاريخ ملوك مصر الذين سبقوا الملك "سنفرو" أول ملوك الأسرة الرابعة(1) . بعد عام 1895 م اكتشف "بتري" في حفائره مقابر ملوك العصر العتيق في أبيدوس ، و اكتشفت حفائر "دي مورجان" آثارهم في نقادة ، و اكتشف "كوبيل" آثارهم في هيراكونبوليس . كل هذه الاكتشافات مَكَّنَتِ الآثاريين من التعرف على تاريخ مصر في عصر أول أسرتين ملكيتين حكمتا مصر بعد توحيدها و هذا العصر اصطلح العلماء على تسميته بالعصر العتيق(2) . هذا العصر هو الذي عاشته مصر تحت حكم ملوك مصر من سلالة الملك "عحا" الذي يُعرَف الآن بأنه أول ملوك الأسرة أو مؤسس الأسرة الأولى طبقا لما يذكره حجر "بلرمو"(3) . (1) والتر إمري ، مصر في العصر العتيق ، ترجمة / راشد محمد نوير ؛ محمد علي كمال الدين ، مراجعة / عبد المنعم أبو بكر ، نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع ، يناير 2000 ، ص7 . (2) المرجع نفسه ص8 . (3) نيقولا جريمال ، تاريخ مصر القديمة ، ترجمة / ماهر جويجاتي ، مراجعة / زكية طبوزادة ، الطبعة الثانية ، دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع ، القاهرة 1992 ، ص60 . بعد ذلك قبل أن نتطرق إلى الحديث عن الملوك الذين حكموا مصر بعد توحيدها لا بد أن نذكر أولا شيئا عن توحيد مصر . و لكي نتحدث عن توحيد مصر يجب أولا أن نتحدث عن المصادر التي استعان بها العلماء لمعرفة تفاصيل توحيد مصر . أول مصدر نتحدث عنه هو "نصوص الأهرام" ، فعلى الرغم من أن هذه النصوص تنتمي إلى عصر الدولة القديمة – كما يتضح من اسمها – إلا أنها تتحدث عن أسطورة قديمة مشهورة هي "أسطورة إيزيس و أوزير" . هذه الأسطورة جعلت بعض العلماء في باديء الأمر يفترضون أن مصر قد تم توحيدها في البداية قبل عصر الأسرة الأولى و أن توحيد مؤسسي الأسرة الأولى لمصر هو التوحيد الثاني . ذلك أنهم من خلال أسطورة "أوزير" افترضوا أنه مان يوجد ملك اسمه "ست" نجح في توحيد جنوب مصر تحت حكمه ، و أن هناك ملكا يُدْعَى "أوزير" نجح في توحيد الشمال تحت حكمه ، و حين تولى "حور" خليفة أوزير حكم الشمال شَنَّ هجومًا على مملكة ست الجنوبية و استولى عليها و بذلك تمكن من توحيد مصر لكن هذا الاتحاد لم يدم طويلا فانقسمت مصر مرة أخرى إلى مملكتين مرة أخرى هما مملكة الشمال و مملكة الجنوب ثم جاءت مرحلة الوحدة الثانية و التي تم فيها توحيد مصر على يد الملك "نعرمر"(1) . لكن هذا الرأي يظل افتراضا أوحت به قصة "إيزيس" و "أوزير" ، و هذا هو رأي الباحث الشخصي . بعد ذلك تم العثور في مدينة هيراكونبوليس على رأس صولجان من الحجر الجيري لملك يُدْعَى "الملك العقرب"(2) و هو – على ما يبدو- كان أحد ملوك الجنوب لأنه يرتدي في هذه الرأس التاج الأبيض . على هذه الرأس توجد نقوش تضم ثلاثة صفوف . في الصف الأول توجد طيور ميتة معلَّقَةٌ في أعلام قبائل الجنوب ، و هذه الطيور تمثل ولايات الشمال المتحالفة و من هنا نستنتج أن الملك العقرب حارب ملوك الشمال و انتصر عليهم ، و في الصف الثاني نجد الملك العقرب يقوم بحفر قناة و هو ممسك بفأس و يرتدي التاج الأبيض و يقف وسط احتفالات و أفراح ، و يرى الباحث أن هذا ربما يشير إلى أن الملك بدأ يتجه إلى إقامة مشروعات اقتصادية لدولته بعدما تمكن من توحيد مصر و أن هذه الاحتفالات ربما كانت (1) جان فيركوتير ، مصر القديمة ، ترجمة / ماهر جويجاتي ، الطبعة الأولى ، دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع ، القاهرة 1992 ، ص70 ، 71 . (2) والتر إمري ، مصر في العصر العتيق ، ترجمة / راشد محمد نوير ، محمد علي كمال الدين ، مراجعة / د. عبد المنعم أبو بكر ، نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع ، يناير 2000 ، ص29 . احتفالا بالعيد سد أو احتفالا دينيا خاصا بهم أو احتفالا بحفر القناة . و في الصف الثالث نرى رجالا منهمكين في أعمال الزراعة ، و نستنتج من هذا أن الحرب انتهت و بدأت الدولة تتجه إلى المشروعات السلمية و بدأ يتحقق الازدهار الزراعي في عهد هذا الملك . و من خلال هذه النقوش يُرَجَّحُ أن الملك العقرب قد بسط نفوذه على مملكة الشمال(1) ، و كذلك عثر للملك العقرب على صلاية تسمى "صلاية التحنو" أو "صلاية الليبيين" - محفوظة الآن بالمتحف المصري – على أحد وجههيها يوجد رسم لعقرب يمسك فأسا و يهدم أحد الحصون ، و على الوجه الآخر رسومات لثلاثة صفوف بها ثلاثة أنواع من الحيوانات ربما كانت غنائم من غرب الدلتا . أيضًا تم العثور على صلاية لملك يُدعى "نعرمر" تؤكد أنه هو موحد القطرين . فهذه الصلاية ذات وجهَيْنِ ، في الوجه الأول نرى الملك "نعرمر" يقف الوقفة التقليدية للفرعون المنتصر و يمسك بيده اليسرى أسيرًا و بيده اليمنى يمسك بمقمعة و يهوى بها على رأس ذلك الأسير ، و على الوجه الثاني نراه يرتدي التاج المزدوج و يحتفل بانتصاره مع موظفيه و حملة أعلام جيوشه ، و يستعرض جثث أعدائه الذين قُيِّدُوا بالحبال و قُطِعَتْ رؤوسهم ، و أسفل الوجه الثاني للصلاية يوجد منظر لثور يطأ بقدميه رجلا و هو من الطرق التي كان الملوك في ذلك الوقت يعبرون بها عن انتصاراتهم ، فالثور يمثل الملك و الرجل الذي يطأه الثور هو عدو الملك . كذلك تم العثور على رأس صولجان عليه نقش فيه الملك "نعرمر" يجلس على العرش لابسًا تاج الشمال و أمامه حملة ألوية جيشه و أشخاص يمثلون أسرى و أرقام و علامات تمثل 120.000 رجل ، و 400.000 ثور ، و 1.422.000 ماعز و هي غنائم الحرب(2) . هذان الأثران يؤكدان أن الملك نعرمر هو من أتم توحيد مصر الذي قام به من قبله الملك العقرب . و رغم أن صلاية نعرمر تؤكد أنه هو من قام بتوحيد القطرين ، إلا أنه يوجد خلاف حول مؤسس الأسرة الأولى . فبردية "تورين" ، و قائمة أبيدوس و المؤرخ المصري "مانيتون" يذكرون أن مؤسس الأسرة الأولى هو "منى"(3) ، و حجر "بلرمو" يذكر الملك "عحا" كأول ملوك مصر الموحدة(4). و من هنا اختلف العلماء حول الأشخاص الذين يحملون هذه الأسماء ، لكن ما يعنينا هنا هو أن "عحا" هو أول ملوك الأسرة الأولى . (1) جان فيركوتير ، مصر القديمة ، ترجمة / ماهر جويجاتي ، الطبعة الأولى ، دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع ، القاهرة 1992 ، ص72 . (2) والتر إمري ، مصر في العصر العتيق ، ترجمة / راشد محمد نوير ، محمد علي كمال الدين ، مراجعة / د. عبد المنعم أبو بكر ، نهضو مصر للطباعة و النشر و التوزيع ، يناير 2000 ، ص31 . (3) محمد علي سعد الله ، في تاريخ مصر القديمة ، مركز الأسكندرية للكتاب ، 2001 ، ص55 . (4) نيقولا جريمال ، تاريخ مصر القديمة ، ترجمة / ماهر جويجاتي ، مراجعة / زكية طبوزادة ، الطبعة الثانية ، دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع ، القاهرة 1993 ، ص60 هذه الصورة منسوخة من كتاب "والتر إمري" ، مصر في العصر العتيق ، ص29 . هذه الصورة أيضا منسوخة من كتاب "والتر إمري" ، "مصر في العصر العتيق" ، ص3 هذه هي الوجه الأول من صلاية الليبيين التي تنتمي إلى عهد الملك العقرب و هي محفوظة الآن بالمتحف المصري بالقاهرة و قد قام الباحث بتصويرها بنفسه . هذا هو الوجه الثاني من صلاية الليبيين للملك العقرب و هو محفوظ أيضا في المتحف المصري بالقاهرة و أيضا تصويره كان اجتهادا من الباحث . الألقاب في العصر العتيق من خلال المصادر التي عثر عليها الآثاريون عُرِفَ أنه كان يوجد في الحضارة المصرية القديمة خمس ألقاب (1) منها ثلاثة ظهرت في العصر العتيق . هذه الألقاب الثلاثة هي : 1- اللقب الحوري . 2- اللقب النبتي . 3- لقب النسوبيتي . أولاً : اللقب الحوري : بالنظر إلى الآثار التي وردت عن العصر العتيق و خاصة البطاقات العاجية مثل بطاقة الملك "عحا" نجد أن ملوك ذلك العصر و من سبقوهم كانوا ينتهجون عدة طرق في كتابة أسمائهم منها أن الملك كان يكتب اسمه داخل إطار مستطيل يسمى "سِرِخ" يمثل واجهة قصر و عليه يقف الصقر رمز المعبود "حورس" . من خلال رسم واجهة القصر نستنتج أن الملوك في ذلك الوقت قد انتقلوا من حياة الأكواخ و البيوت البسيطة إلى حياة القصور ، و أن المعبود "حور" كان هو الإله الرئيسي للمملكة في ذلك الوقت – و هذا رأي الباحث الشخصي – لكن ما يهمنا الآن هو أن "سليم حسن" و "والتر إمري" استنتجا أنه كان يوجد لقب حوري للملك في ذلك الوقت(2) . ثانيا : اللقب النبتي : يذكر "سليم حسن" أنه بعد توحيد القطرين صار الملك في النقوش يوضع تحت حماية إلاهتين كانتا مقدَّسَتَيْنِ في عاصمتي البلاد القديمتين قبل توحيدهما ، و من خلال ذلك ظهر لقب آخر هو اللقب "النبتي"(3) . (1) محمد علي سعد الله ، في تاريخ مصر القديمة ، مركز الأسكندرية للكتاب ، 2001 ، ص63 . (2) سليم حسن ، مصر القديمة الجزء الثاني ، كلمات عربية للترجمة و النشر ، 2012 ، ص9 . (3) المرجع نفسه ص9 . و يرى "والتر إمري" أن هاتين الإلاهتين هما "نخبت" إلاهة الوجه القبلي ممثلة في شكل رخمة ، و "واجيت" إلاهة الوجه البحري ممثلة في شكل حية و أن هذا اللقب كان يُذْكَر فوق الاسم الثاني للملك و أن اسم "نبتي" يعود بنا على الأقل إلى عهد الملك "عحا" أول ملوك الأسرة الأولى و أن معناه "السيدتان" (1) . ثالثا : لقب "نسو بيتي" أو "نسوت بيتي" : هذا اللقب ظهر في نقوش الأسرة الأولى و أول من ظهر هذا اللقب في عهده هو الملك أوديمو (دن) رابع ملوك الأسرة الأولى لكن والتر إمري لا يستبعد أن يكون هذا اللقب مستخدَمًا قبل ذلك (1) ، و لقب "نسوبيتي" يرمز إلى نبات سوت (البوص) رمز مملكة الصعيد ، و النحلة رمز مملكة الوجه البحري مما يشير إلى أن الملك كان يحكم المملكتين ، مملكة الجنوب و مملكة الشمال(2) . من هنا يتضح لنا أنه كان يوجد ثلاثة ألقاب كان ملوك الأسرتين الأولى و الثانية يتلقبون بها و واضح جدا أن هذه الألقاب كان الغرض منها هو التأكيد على سيادة الملك و سيطرته على القطرين . فاللقب الحوري يؤكد أن الملك هو ممثل المعبود "حور" ، و اللقب النبتي يؤكد أن إلاهة الوجه البحري و إلاهة الوجه القبلي تحميان الملك و تدعمان عرشه ، و اللقب "نسوت بتي" يؤكد أن الملك يحكم مملكة الشمال و مملكة الجنوب . لكن لم تكن هذه هي الألقاب الوحيدة التي وُجدت في العصر العتيق ، فقد كان يوجد ألقاب أخرى يختص بها الملك دون غيره من الملوك يعبر بها عن أعماله و إنجازاته أو عن ميوله الدينية أو السياسية . فالملك "دن" – على سبيل المثال – بعد أن حارب الأسيويين و انتصر عليهم ( و توجد لذلك بطاقة عاجية عثر عليها في مقبرته بأبيدوس يظهر فيها الملك و هو ممسك بأحد أعدائه و يهم بضربه بالمقمعة مثلما في صلاية نعرمر ) اتخذ لقب "خاستي" بمعنى "الأجنبي" أو (1) والتر إمري ، مصر في العصر العتيق ، ترجمة / راشد محمد نوير ؛ محمد علي كمال الدين ، مراجعة / عبد المنعم أبو بكر ، نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع ، يناير 2000 ، ص89 . (2) محمد علي سعد الله ، في تاريخ مصر القديمة ، مركز الأسكندرية للكتاب ، 2001 ، ص65 . "رجل الصحراء" ، و هو لقب حرفه الإغريق إلى "أوسفايس" كما يظهر عند مانيتون(1) ، و من البديهي أن هذا اللقب يراد به أن هذا الملك قهر الأجانب ساكني الصحراء . كذلك الملك "حتب سخموي" اسمه معناه "القوتان في سلام" و لقبه النبتي معناه "السيدان في سلام" (2) ، و إذا افترضنا أن لهذا الاسم مغزى سياسي و أن القوتين أو السيدين هما "حور" و "ست" يمكننا افتراض أنه ربما حدث صراع بين أتباع حور و أتباع ست و انتهى هذا الصراع في عهد الملك "حتب سخموي" . أيضاً نجد خليفة الملك "حتب سخموي" اسمه "نب رع" بمعنى "سيد الشمس" و هذا يؤكد أن عبادة الشمس بدأت تحتل مكانة كبيرة في الدولة في ذلك الوقت ، و خليفة "نب رع" المسمى "خع سخموي" عُثِرَ في مقبرته بأبيدوس على ختم منقوش عليه لقب "ني نثر" بمعنى "المنتمي إلى الإله"(3) . يتضح من كل ما سبق أن كل الألقاب الملكية في العصر العتيق كان الغرض منها هو تأكيد سلطة الملك و سيادته على كل أرجاء مصر . فهو – من خلال هذه الألقاب - يُظْهِرُ نفسه ممثلا للإله أو نائبا عنه في حكم البشر ، و محاطًا بحماية آلهة الوجه البحري و آلهة الوجه القبلي ، و قاهرًا للأعداء الأجانب على حدود مصر ، و سيدًا على الوجه البحري و الوجه القبلي . (1) نيقولا جريمال ، تاريخ مصر القديمة ، ترجمة / ماهر جويجاتي ، مراجعة / زكية طبوزادة ، الطبعة الثانية ، دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع ، القاهرة 1993 ، ص65 . (2) المرجع نفسه ص67 . (3) المرجع نفسه ص68 . هذه الصورة منسوخة من كتاب والتر إمري ، "مصر في العصر العتيق" ، ص79 .